فضيلة الشيخ محمد عوامة يلقي محاضرة بعنوان : تحصيل العلم بين الماضي والحاضر في كلية الشريعة في جامعة مرمرة باستانبول

ألقى الشيخ المحدث محمد عوامة حفظه الله محاضرة في كلية الشريعة في جامعة مرمرة في إستانبول. وقد بدأت المحاضرة الساعة الواحدة والنصف بتقديم لطيف للأستاذ عبد الصمد كوجاك رئيس إتحاد الطلاب ثم قرأ بعضا من آيات الذكر الحكيم الطالب فاتح تور، ثم أتحفنا الشيخ محمد فاتح قايا المدرس في الكلية المذكورة بتعريف موجز عن ضيفنا المحاضر باللغتين التركية والعربية. وقد تفضل بالترجمة الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل قاجار.


ثم بدا المحاضر الكريم الكلام واستفتحه بنكتة طريفة عن الشيخ محمد أبو زهرة عندما ألقى محاضرة في مدينة حلب عام 1939 بعد ساعتين إلا ثلث شرب كأسا من الماء ثم قال: أنا من عادتي أن أشرب في ربع المحاضرة. ثم قال الشيخ ضاحكا: لا لن أطيل عليكم.


ثم قال: الموضوع غاية وأمنية في نفسي وهو التحدث عن طلب العلم اقتباساً من الماضي إلى الحاضر.


وتكلم الشيخ عن توصيف للعلم بالنسبة لطالب العلم ووصفه بأنه مهنة كغيرها من المهن الدنيوية ولكنه أشرفها وعلى طالب العلم أن يدرك شرف مهنته وطلبه، وهو متابع لمسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيبلغ شرع الله عن طريق هدي وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقل أقوال العلماء في ذلك ومنها قول الشيخ عبد الله بن المبارك: (لا أعلم شيئا بعد النبوة أفضل من طلب العلم).


ثم انتقل الشيخ ليبين الخطوات التي يجب على طالب العلم أن يتبعها في طريق تحصيله،
وأولها: البناء والأساس، فيبدأ بالمواد البسيطة وينتقل خطوة فأخرى، مثلا في العربية يبدأ بالأجرومية ثم شرحها ثم قطر الندى ثم شرح ابن عقيل ثم مغني اللبيب، وخص الطلاب المتخرجين من المدارس العامة بنصيحة فقال: اجبروا نقصكم حتى تسيروا مع الركب سيرا صحيحا.


ثانياً: التفرغ لهذا الطلب فعلى طالب العلم أن يدرك أن العلم عظيم والطلب ثقيل فقد قال وكيع بن الجراح: العلم إذا لم تعطه كلك لا يعطيك بعضه. وذكر قصة الإمام محمد بن الحسن الشيباني عندما قال: لو كلفت شراء بصلة ما تعلمت مسألة. فالتفرغ للعلم كليا هو الأمر الأساسي في تحصيله.


ثالثا: الحفظ على خلاف ما يقوله التربيون المعاصرون من أنه يقتل العلم بل على العكس كما قال الشيخ. فحفظ المتون أمر مهم لطلبة العلم. وكذلك حفظ السنة النبوية تدريجيا ابتداءً بالأربعين النووية وانتقالا إلى رياض الصالحين وهكذا درجة فأخرى.


رابعا: الحرص فذكر الشيخ الأبيات المنسوبة للشافعي ونبه أنها ليست له بل للإمام الحرمين الجويني:
أخي لن تنال العلم إلا بستة   سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة    وصحبة أستاذ وطول زمان
الحرص على أي فائدة مهما كانت الظروف، ثم نقل الشيخ أربعة قصص عن حرص العلماء الأقدمين نكتفي منها بخبر التابعي الإمام سعيد بن المسيَّب عندما أمر السلطان بجلده لحادثة وقعت فقام تلميذه التابعي قتادة الضرير يسأله وهو في يضرب والدماء تسيل منه خوفا أن يموت الإمام على هذا الحال فيضيع العلم، فعجبا للإثنين وحرصهما على العلم.


خامسا: دراسة العلوم الشرعية والعربية ثم التخصص بعلم واحد فقد كان علمائنا يشاركون في كل العلوم ثم يتخصصون بعلم أو اثنين، لا كما يدعي المدعون أنه من درس علوم الشريعة فلا يجب أن يفقه في العربية شيئا. أو من درس اللغة العربية فلا يجب أن يفقه بالشريعة.


سادسا: فقال الشيخ وأكد على ذلك كثيرا بأنه لا بد لطالب العلم من ارتباط وثيق مع العلماء العاملين وكلما ازدادت علاقته بالعالم الصالح كلما ازداد عطاؤه. ثم حكى لنا الشيخ قصة من ذكرياته أنه لما كان يدرس في المدرسة الشعبانية حمل كتابا أثناء الفسحة بيده اليسرى يقرأ به فجاءه أحد الأساتذة وأخذه من يده اليسرى إلى اليمنى وهو يقول: اللهم آتني كتابي بيميني. ثم موقفا آخر لما كان واقفا بعد سنوات في كلية الشريعة بانتظار الامتحان الشفهي وتعب أحد أصدقاء الشيخ الغير متعلمين عند الشيوخ فوضع كتاب بدائع الصنائع تحته وجلس عليه على الأرض. فهذا الفرق بين الطالب المتصل باعالم الرباني وبين غيره.


سابعا: لابد من صحبة وملازمة طويلة لشيوخه والرجوع إليهم في كل معضلة ولا يستكبر ويقول أصبحت دكتورا مثلا. ثم مثَّل الشيخ على ذلك بقصة التابعي مِقسَم مولى ابن عباس، ولم يكن عبدا بل قيل مولى لشدة ملازمته لابن عباس كأنه عبد رقيق له.


ومن نقاط الضعف في طلب العلم أنه وُجِد بيننا من يفتخر بأنه لا شيخ له وهذا بلاء عظيم والإمام أحمد بن حنبل لما أصابته المحنة جيء به وهو في القيد وقال له المعتصم كلم ابن أبي داؤد فقال: كيف أكلم من لم أره على باب عالم قط.


ثم عكف الشيخ على نصح الأساتذة والعلماء بتذكيرهم أن التربية العملية للطلبة هي أهم ركن في مسيرة العلم وهذا أمر هام بالنسبة لطالب العلم من أول يومهم وقد ألف العلماء كتبا في ذلك منها كتاب الخطيب البغدادي "اقتضاء العلم العمل".


فيجب العمل بالعلم وتطبيق السنة فورا، ثم قص الشيخ من أغرب أخبار السابقين في حرصهم على العمل بالسنة قصة أبو جعفر بن حمدان قام بعمل مستخرج على البخاري وجلس يقرأه بين المغرب والعشاء وكان أحد الحضور أبو عثمان الحيري فقاموا للصلاة وقام الحيري وذهب ثم رجع لابسا إزارا ورداءً فقال ابن أبو جعفر: يا أبت هل أحرم أبو عثمان؟ قال: لا بل مر علي حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالإزار والرداء فقام أبو عثمان يطبق فوراً.


ثم بشرنا الشيخ جزاه الله خيرا ببشارات خاصة لطالب العلم ومنها الحديث المعروف المروي في صحيح مسلم عن رسول الله تعالى أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده.


ثم ذكرنا بقول الإمام ابن سيرين: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".


وبنصيحة لنا في مجالس العلم قائلاً: فاغنموها فإنها نور الإسلام وحياته، ولا تزهدوا بها. وختم بقصة الإمام ابن شهاب الزهري كان يختم المجلس بقوله: اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.


ثم سئل الشيخ بعض الأسئلة نختار أهمها لأنه جزاه الله خيرا قال هذا السؤال أهم من كل المحاضرة التي قلتها، وهو: أخبار الآحاد التي لم تتواتر هل يُعمل بها في الآحاد؟ فقال الشيخ بارك الله به: العقائد نوعان منها ما هو كلي من أصول العقائد ومنها ما هو جزئي للتفصيل، فالكلي لا يقبل فيه إلا المتواتر من القرآن او الحديث أما الجزئيات والتفصيليات فيقبل بها أخبار الآحاد، ثم ضرب مثلاً موضحا فقال: الصراط والميزان والشفاعة والصحف لا يقبل فيها إلا القطعي أما صفة الصراط أنه أدق من الشعرة فهذه جزئية يقبل فيها الآحاد.


ثم نصح الطلاب القادمين من البلاد الأوربية بالتفرغ للعلم وزيادة الحرص على العلم لكي يعودوا إلى بلادهم دعاة ممتلئين علماً.


ثم أقدم الأخ عبد الصمد كوجاك على شكر الشيخ حفظه الله فقاطعه الشيخ بالدعاء حتى لا يستمر بالمديح والثناء على الشيخ مطولا، ثم قام بارك الله به بزيارة مكتب العميد مع مجموعة من الأساتذة والدكاترة المدرسين في كلية الشريعة، وتوجه إلى المسجد وصلى العصر ثم غادرنا محفوفا بالشكر والفضل بارك الله به وبعلمه ومتع المسلمين به.


وقد كانت لكلمته الطيبة أثرا ملحوظا على الطلبة بسبب صدق الشيخ وخروج هذه النصيحة من قلب طاهر، فعند استطلاع أراء الطلبة بعد المحاضرة أفادوا جميعا بعظيم الفائدة التي حصلوها وشعورهم بالحماس لطلب العلم الذي امتلأت به قلوبهم جراء ملاقاتهم للشيخ وسماعهم لمحاضرته الطيبة.


فبارك الله بعلمائنا الصادقين العاملين ونفعنا بهم أجمعين.