فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة
قال الله تعالى مخاطباً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
هذا إعلانٌ فريدٌ من نوعه، وإنَّ مساحته الزمنية، تحوي جميع الأجيال والأدوار التاريخية التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانية تسع العالم كله...
والبعثة المحمدية أنقذت النوع الإنساني من الشقاء والهلاك، وفرق بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، هلاك محدود سطحي، وخطر عابر قد يزول، وبين هلاك أبدي، وخطر مستمر لا يزول...
[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] {آل عمران:103}.
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة هبت نفحةٌ من نفحات الرحمة الإلهية، أنعشت رفات الإنسانية الخامدة الهامدة.
وكانت المعطيات المحمدية الغالية، منقطعة النظير بحساب السَّعَةَ والوفرة، والحجم والكمية، وبحساب النفع والإفادة والجوهر والكيفية أيضاً.
الحقيقة التي لا مراء فيها أن هذا الدور الذي نعيشه، وما يليه من الأدوار التاريخية القادمة كلها في حساب بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته العامة الخالدة، وجهوده المشكورة المثمرة، لأنه رفع أولاً هذا السيف المُصَلت على رقاب الإنسانية، الذي كاد يقضي عليها، ثم أغناها بمنح غالية، ومعطيات خالدة،وهدايا جديدة،وبعض فيها الحيوية والنشاط، والهمة والطموح، والعزة والكرامة.
ونذكر الآن ـ على سبيل المثال ـ بعض معطياته الهامة، ومنحه الغالية، التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وإزدهاره والتي خلقت عالماً مشرقاً جديداً، لا يشبه العالم الشاحب القديم.
1 ـ عقيدة التوحيد النقية الواضحة: مأثرته الأولى أنه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية الغالية... فهي عقيدةٌ ثائرة معجزة، متدفقة بالقوة والحيوية والحياة، قالبة للأوضاع، مدمِّرة للآلهة الباطلة، لم تنل الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة...
هذا الإنسان المكرَّم، الذي حوَّل الأحجار الصمَّاء أزهاراً فيحاء، وفجَّر الأنهار من بطون الجبال، الذي يحمل دعاوى فارغة ومزاعم جوفاء.
هذا الإنسان كان يسجد لأشياء تافهة، لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع:[ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ] {الحج:73}.
كان يركع أمام أشياء صنعها بنفسه، ويخافها ويرجو منها الخير، إنه لم يخرُّ ساجداً للجبال والأنهار، والأشجار والحيوانات، وسائر مظاهر الطبيعة،بل سجد للحشرات والديدان،  وقضى حياته بين هواجس ووساوس، وأخيلة وأوهام، كانت نتيجته الطبيعية الجبن والوهَن، والقلق النفسي وعدم الاستقرار.
فأغناه صلى الله عليه وسلم بعقيدة التوحيد الصافية النقية السهلة السائغة، فتخلص من كل خوف ووجل، وعلم علم اليقين أنه وحده سبحانه هو الضار والنافع، والمعطي والمانع، فتغيَّر العالم بهذه المعرفة الجديدة، وصار مصوناً عن كل نوع من العبودية والرق، وعن كل رجاء وخوف من المخلوق...
إنها البعثة المحمدية التي أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة ـ عقيدة التوحيد ـ التي كانت مجهولة مغمورة، مظلومة مغبونة...
إنَّ بعض الديانات التي نشأت على الشرك وتعدُّد الآلهة، وامتزجت به لحماً ودماً، اضطرت في الأخير أن تعترف ـ ولو بصوت خافت وهمسة في الآذان ـ أن الله واحد لا شريك له، وأرغمت على تأويل معتقداتها المشركة تأويلاً فلسفياً، وبدأ رجالها وسدنتها يستحيون من الاعتراف بالشرك، ويخجلون من ذكره، وأصيبت هذه الأنظمة المشركة بمركَّب النقص، والشعور بالصَّغار والهوان، فكانت هذه التحفة أغلى التحف التي سعدت بها الإنسانية بفضل بعثته صلى الله عليه وسلم.
2 ـ مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية: ومأثرته الثانية العظيمة , ومنَّته الباقية هي تصوُّر الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية.
كان التفاوت بين الطبقات تفاوتاً هائلاً، كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان، وبين الحرِّ والعبد... لم تكن هناك فكرة عن الوحدة الإنسانية مطلقاً، فأعلن النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المطبق والظلام السائد، ذلك الإعلان الثائر، المدهش للعقول، القالب للأوضاع: ( أيها الناس: إنَّ ربكم واحد،وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربيٍّ على عجميٍّ فَضْلٌ إلا بالتقوى).
وهذا الإعلان يتضمن إعلانين هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام: وحدة الربوبية، ووحدة البشرية، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين: الجهة الأولى  ـ وهي الأساس ـ أن الربَّ واحد، والجهة الثانية: أن الأب واحد: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}  .[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.
الأخوة الإنسانية:
وكلمة الأرحام المذكورة في سورة النساء تشمل بعمومها الرحم الإنسانية العامة ، لتتَّسق مع بداية الخطاب : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ]. ومع ذكر النفس الواحدة. روى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة : اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه : أنا شهيد أنك وحدك لا شريك لك .
اللهم ربنا وربك كل شيء ومليكه أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك.
اللهم ربنا وربك كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر هذا المبدأ ( الإخوة بين عباد الله) ليس للاستهلاك المحلي ، أو التضليل العالمي ، وإنما هو حقيقة دينية نكررها عقب كل صلاة.
إنها كلمات خالدة جرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحينما قام النبي بهذا الإعلان التاريخي العظيم لم يكن العالم في وضع طبيعي هادئ يسيغ فيه هذه الكلمات الجريئة الصريحة...
إنَّ هذا الإعلان مثل الزلزال الهائل العنيف، إنَّ هناك أشياء قد نتحملها بصورة تدريجية، أو من وراء ستار، مثل التيار الكهربائي، فقد نلمسه إذا كان مغطى أو داخلاً في باطن الأسلاك، لكن إذا لمسناه عارياً أصابتنا صدمة عنيفة، أو قضي علينا بتاتاً.
إنَّ هذا الإعلان الهائل المزلزل لأوكار الجاهلية ومعاقل الشرك والوثنية والعنصرية، أصبح اليوم حقيقة عادية، تنادي بها كل مؤسسة سياسية، ولا يستغربه أحد...
ولكن أتى على الإنسان حين من الدهر، سَادَت فيه عقيدة تفوُّق بعض الأمم والأسر فوق مستوى البشر... كانت بعض الأسر والسُّلالات تنسب إلى الشمس أو إلى القمر، أو إلى الله سبحانه... إنَّ القرآن الكريم حكى قول اليهود والنصارى:[وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] {المائدة:18}.
وكان فراعنة مصر يزعمون أنهم تجسيد لإله الشمس (رع) ومظهرٌ له..
أما الهند فقد عرفت فيها أسرتان سميتا ( سورج ينسي) أبناء الشمس (جند رينسي) أبناء القمر.
أما في إيران فقد كان أكاسرتها يزعمون أنه يجري في عروقهم الدم الإلهي، وكان أهل البلاد ينظرون إليهم نظرة تقديس وتأليه... وكذلك كانت القياصرة آلهة.
وكان كل من تملَّك زمام البلاد كان إلهاً... أما الصينيون فكانوا يعتبرون الإمبراطور ابن السماء، ويعتقدون أن السماء ذكر والأرض أنثى، وباتصالهما خلق هذا الكون، وأن الإمبراطور بكر هذين الزوجين.
العرب كانوا يعتقدون كل من سواهم عجماً... كانت قبيلة قريش لا تشارك الناس في مواقفهم ونسكهم، لم تكن تدخل عرفات مع الحجيج، بل تقف في مزدلفة، وتقول: نحن أهل ا لله في بلدته، وقطات بيته، وتقول: نحن حمس...
3 ـ إعلان كرامة الإنسان وسموه: والمنة الثالثة العظيمة على النوع البشري، هي: إعلان كرامة الإنسان، وشرف الإنسانية وعلو قدرها.
لقد بلغ الإنسان قبل البعثة المحمدية حضيض الذل والهوان، ولم يكن على وجه الأرض شيءٌ أصغر منه وأحقر... كانت بعض الحيوانات المفترسة والأشجار أكرمَ وأعزّ عند عبَّادها، وأجدر بالصيانة والمحافظة عليها من الإنسان...
أعاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية المهدرة كرامتها وشرفها وردَّ إليها اعتبارها وقيمتها، وأعلن أن الإنسان أعز موجود في هذا الكون، وأعلى جوهر في هذا العالم، وليس هناك شيء أشرف منه وأكرم...
[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70} . [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا...] {البقرة:29}. (الخلق كلهم عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم إلى عياله...)
وهل هناك أبلغ في الدلالة على سموِّ الإنسانية، والتقرُّب إلى الله بخدمتها، والعطف عليها من هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله عزَّ وجل يقول: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب كيف أعودك... قال: أما علمت أنَّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب كيف أطعمك! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه، أما علمت أنك لوأطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي..).
هل هناك إعلان أوضح وأفصح بسموِّ الإنسانية، وعلوِّ مكانة الإنسان من هذا الإعلان؟ وهل فاز الإنسان بهذه المكانة السابقة والشرف العالي في أي ديانة وفلسفة في العالم القديم و الحديث؟.
إنه صلى الله عليه وسلم جعل الرحمة لبني آدم الشرط اللازم لجلب رحمة الله تعالى:( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) رواه أبو داود والترمذي.
ترى كيف كان العالم قبل أن ينهض النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة: دعوة الوحدة الإنسانية، والكرامة الإنسانية.
لقد كانت شهوة فرد واحد، أغلى وأكبر من أرواح الآلاف، ومئات الآلاف، امبرطور واحد يكتسح البلاد، ويستعبد العباد، ويقرب الرقاب، ويهلك الحرث والنسل، ويأتي على الأخضر واليابس، لتحقيق مأرب حقير في نفسه.
الحربان العالميتان ذهب ضحيتهما الملايين، نتيجة صلف قومي وأنانية فردية، وشهوة الحكم، والسيطرة على الأسواق التجارية.
و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
12 /ربيع نبوي /1423                                         
مختصر من كتاب : السيرة النبوية . للسيد أبي الحسن الندوي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين