فتيات زواج الاضطرار: ضحايا الثورة المجهولات

 

-1-

 

أخرج ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبي زُرعة أن عمر رضي الله عنه كان لا يجيز نكاحاً عامَ سَنَة (أي في السنة المُجْدبة التي انقطع مطرُها فيبست أرضُها ومات زرعها وهَزُلت ماشيتها) وكان يقول: لعل الضيق يحملهم على أن يُنكحوا غيرَ الأكفاء.

 

لقد بلغ عمرُ الغايةَ في الحكمة وبعد النظر حينما منع عقد الزواج تحت الاضطرار، فالعلّة في المنع ليست القحط نفسه، بل هي الحاجة الناشئة عنه، فإنّ الحاجة تكسر النفس وتُلجئ المضطر إلى ركوب المركب الصعب والإقدام على ما يكره. وهذا هو ما نراه في سوريا اليوم، في كثير من المناطق المحاصرة والمحررة وفي مخيمات اللجوء وفي بلاد النزوح والشتات.

 

-2-

 

لولا أن المشكلة انتقلت من حالات فردية إلى ظاهرة عامة لما تجرأت على الكتابة فيها، لكنها بلغت درجة صار السكوت عنها جريمة شرعية وأخلاقية، فإن الضحايا اللائي يَدفعنَ ثمن زواج الاضطرار قد يبلغن عشرات ألوف من فتيات سوريا الصغيرات، كثيراتٌ منهنّ حَمَلهنّ أولياؤهن على زواج قسري وربَطْنَهنّ بأزواج لم يوافقنَ على الزواج بهم، وفي حالات كثيرة كانوا غيرَ مناسبين لهنّ أصلاً، لفرق في العمر أو لتفاوت في الثقافة والبيئة والتكافؤ الاجتماعي أو لعيوب في السجايا والصفات.

 

لقد استغلّ كثيرون -من أهل سوريا ومن غيرهم- فقرَ الأسر وحالة الفاقة والتشرد التي تعيشها، واستغلوا عجز المُعيلين عن إعالة أسرهم، استغلّوا ذلك كله استغلالاً جشعاً بشعاً، فأُكرِهَت بناتٌ صغيرات على الزواج بكهول لا يصلحون لهنّ، و"بيعت" بنات كثيرات لغرباء دفعوا فيهنّ المهور المغرية، فاستمتعوا بهنّ زماناً ثم رموهنّ بطلاق شرعي أو فارقوهنّ بغير طلاق واختفت آثارهم، فغدت مئات ومئات من الفتيات معلّقات لا يعرفن: أأزواجُهنّ مَوتى أم أحياء؟ وعادت مئات ومئات من الفتيات إلى بيوت آبائهن مطلقات وأرامل ولمّا يبلغنَ السادسة عشرة أو السابعة عشرة من العمر، وبقيت آلاف البنات مع أزواج لم يتآلفنَ معهم قط، فعاش أكثرهنّ في بؤس وشقاء.

 

-3-

 

يا لَهذه الجريمة التي ارتكبها آباء فرّطوا ببناتهن من أجل حفنة من مال، أو استثقالاً لنفقتهنّ وتخفّفاً من عبئهنّ، وما علموا أن رزق المرء آتيه في أي مكان كان وفي كل حال، ولو في بطون الأودية أو في رؤوس الجبال! ويا لهذه الجريمة التي ارتكبها رجال فقدوا أدنى مقومات الرحمة والإنسانية، فاستغلوا الفاقة والحاجة لإشباع نزوات أنانية، وحطموا حَيَوات زهرات صغيرات وصادروا مستقبلهنّ وأحلامهنّ، ثم مضوا يزيّنون لأنفسهم ذلك الفعل الآثم ويقنعون أنفسهم بأنهم ما صنعوه إلا من باب الخير والإحسان.

 

من كان محسناً فليَجُدْ على الأسر المحتاجة بالمال، يعطيه بيمناه ويخفيه عن الشمال، فيكون عطاؤه غيرُ المشروط عملاً خالصاً وقربة إلى الله، أما شراء البنات بحجة التخفيف عن الآباء فإنه استغلال قبيح وليس فيه شيء من الإحسان، ومن خدع بعض الناس فإنه لن يستطيع أن يخدع رب الناس، لن يخفي نيّته عن الذي يسمع حديث النفس ويعلم ما تخفي الصدور.

 

-4-

 

الكلمة الأخيرة للآباء والأمهات: إن بناتكم أمانة استأمنكم عليها الله، وأنتم وكلاء محاسَبون على الأمانة، فلا تضيّعوها ولا تَجْنوا على البنات. إن من حق كل بنت أن تحصل على فرصة عادلة للزواج بمن يلائمها في السن ويناسبها في الشخصية والصفات، وإنّ رضاها شرط لصحة الزواج على الصحيح من مذاهب العلماء، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري: "لا تُنكَح الأيّم حتى تُستأمَر ولا تنكح البكر حتى تُستأذن"، وقوله في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس: "الأيّم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها".

 

إنّ رضا البنت بشريك حياتها أصل في عقد الزواج في الإسلام، حتى إن الإمام البخاري ترجم لأحاديث الباب بقوله: "لا يُنكِحُ الأبُ وغيرُه البكرَ والثيّبَ إلا برضاها". وقال ابن القيّم في "زاد المعاد": "وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبَر البالغ على النكاح ولا تُزوَّج إلا برضاها. هذا قول جمهور السلف وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمْره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته".

 

يا أيها الآباء: اتقوا الله في بناتكم، لا تَئِدوهنّ في الحياة فتُسأَلوا عنهنّ يوم الحساب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين