فتوى إيقاف الجمعة والجماعة في ميزان الشرع وضرورة الواقع

تناقلت مواقع التواصل مقطعا لصلاة الجماعة، فيها تباعد الناس في الصفوف، على أن هذه الطريقة أفضل بنظرهم من إغلاق المساجد!!

وهنا أعلق على ذلك بعد مقدمة علمية هامة:

أولا- يجب أن نفرق بين الحكم والفتوى:

الحكم: هو ما بيَّنه الشرع من حلال وحرام يعلمه كل الناس، فالجميع يعلم حرمة ترك الصلاة، وحرمة قتل النفس، وحرمة شرب الخمر والزنا وأكل الميتة ونحو ذلك، وهذا ما بينه نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله:

"إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ"

الفتوى: رخصة من عالم للمستفتي ( حيث ينزل المفتي سؤال المستفتي على قواعد الشرع وما فيها من رخص) وبعدها يفتي السائل بقدر حاله،

وهذا ما أشار له النبي عليه الصلاة والسلام:

"وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ"

ومعنى ذلك أن قليلا من الناس يعلمونها، وهم أهل العلم، ومثال ذلك:

الفتوى بإيقاف الجمع والجماعات بسبب وباء فايروس كورونا المعدي اتقاء عدم انتشاره.

فالحكم عدم جواز ترك الجمع والجماعات، ولكن لما كانت منع انتشار العدوى يتطلب توقف تجمعات الناس بكل مكان ومنها المساجد كانت ذلك من الفتوى أي رخصة.

لكن من رأى أن فايروس كورونا ليس بالخطر الذي يستوجب بسببه الإفتاء ترك الجمع والجماعات فهذا يلزمه أن يأت بشهادة أهل الطب والاختصاص حتى يقبل معارضته للفتوى.

وبالتالي أساس الفتوى مبني على رأي أهل الطب المختصين، وعلى ذمتهم، تماما كما نفتي للمريض بالإفطار إذا قال الطبيب الماهر الحاذق المسلم المشهود لحاله بالصلاح أن مرض هذا الشخص يستوجب الفطر إما لأن الصوم سيؤخر شفاءه أو يمنعه.

ومثلها: رجل أكل الميتة مضطرا، وجاء يستفتي عالما، فالعالم سيسأله جملة من الأسئلة التي يستوضح منها هل كانت حال السائل هي حالة الضرورة التي قال فيها الله تعالى : "فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثمَ عَلَيهِ "

فإن ثبت للعالم المفتي أن حال السائل كان ضرورة، حينها يقول له أنت ممن رفع عنه الإثم، ولا يمكن للعالم أن يقول لكل من أكل الميتة بدعوى الاضطرار أنه غير آثم إلا فقط من يثبت حقيقة اضطرارهم.

وهذا ما يسمى رخصة من عالم.

ومثلها: لو طلق الرجل زوجته ثلاثا، فالحكم أنها لا ترجع له حتى تنكح زوجا غيره، والفتوى أن يثبت للمفتي من كلام المستفتي أن طريقة وحال الزوج لا ينبطق عليها مسمى طلقة.

ثانيا- من أهم الشروط الواجب توفرها فيمن يفتي أن يكون عالما بمقاصد الشريعة، ومن لا علم له بالمقاصد لا يفتي، فيا للعجب من هؤلاء الدخلاء الى الإفتاء وأحدهم ربما لا يحسن تلاوة الفاتحة بشكل صحيح، وتراه يروج أن ترك الجمع والجماعات هو من قبيل قوله تعالى:

وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَن يُذكَرَ فيهَا اسمُهُ وَسَعى في خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُم أَن يَدخُلوها إِلّا خائِفينَ لَهُم فِي الدُّنيا خِزيٌ وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ﴾ [البقرة: ١١٤]

ولو فهموا ما اعترضوا ولا تدخلوا بما لا يفقهون.

ثالثا- جاءت الشريعة لحفظ الدين ثم النفس، وصلاة الجماعة إحدى شعائر الدين وليست كل الدين، وإيقافها لمصلحة حفظ الأنفس لا يعد تقديما للنفس على الدين.

رابعا- منعت الصلوات بعد التأكد يقينا عند أهل العلم من وجود وباء معدٍ وخطير، ولذلك وجب الاحتراز منه بكل الطرق، ومن يظن أن ترك أسباب الوقاية هو من صلب الإيمان بالله فهو مخطئ، فلا ينفع إقبالك على ما يسبب لك العدوى تحت ذريعة ( كله بقدر الله)، وأنت متجاهل لأسباب الوقاية.

خامسا- هذه الطريقة التي يروج لها البعض على أنها أفضل من ترك الجمع والجماعات، غير مجدية وعليها ملحوظات منها:

هل يمكن لأحد أن يخبرنا من أين أتى بهذه الطريقة لصلاة الجماعة؟!! والنبي عليه الصلاة والسلام قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"

وعلى فرض قبولها اجتهادا:

كيف يضبط الأمر عند الدخول والخروج من المسجد؟

‎مقبض الباب إن أمسكه مريض من يضمن أن لا ينقل العدوى لشخص سليم سيمسك بذات المقبض؟

إذا كان أغلب المساجد يزدحم مع تراص الصفوف، فمن أين نأت بمساجد تتسع للناس وفق هذه الطريقة؟!

إذا عطس احدهم عطسة في الهواء من يضمن عدم انتقال الفايروس لعدة امتار!

كيف تفعل بالمصلين الذين سيصافحونك بعد الصلاة وعند الخروج؟.

‎ ألم تفكروا بانتقال الفيروس عبر السجاد حيث النفس

عند السجود! أم أنَّ كل واحد سيخصص لنفسه مكانا ثابتا؟!

ولو فرضنا أتى كل واحد بسجادته، من يضمن أن ينتقل الفايروس إلى سجاد المسجد؟!

أم سنظل نعقم المسجد كل الأوقات لأجل إرضاء الجاهلون بديهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا؟

‎هل فكرت في أثناء المشي أنه قد يعلق الفيروس بثيابك وأنت لا تشعر؟

إن الغاية من وقف الجمعة والجماعة هو الوقاية من العدوى، وقد أرجع النبي رجلا جاء يبايعه لما علم أنه مصاب بمرضٍ معدٍ ففي صحيح ابن خزيمة:

كانَ في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذومٌ ، فأرسلَ إليهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ارجِع فقد بايعناكَ.

فالنبي لما علم أن الرجل مصاب بمرض معدٍ منعه من القدوم عليه، ولم يقل له قف بعيدا عني!!

لا أدري لماذا يصر البعض على اعتبار توقيف الصلوات كأنه إيقاف للدين!!

ولماذا لا يريدون السماع لأهل العلم الذين علموا حقيقة الواقع، وأفتوا بذلك لأنهم المختصون بالفتوى، وأحرص الناس على دين الله، وليس كلهم مشايخ سلطان.

أخيرا أقول لمن قلبه تعلق بالمساجد، وتألم أن يحول هذا الوباء بينه وبين المسجد:

بشراك من الحبيب عليه الصلاة والسلام أن أجرك محفوظ ولا يضيع عنده سبحانه، فطب نفسا والزم بابه ليحقق الفرج:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً[رواه البخاري.

اللهم إنا نتضرع إليك، وقد علمنا أن الضراعة والتوبة إليك هي الحكمة مما نزل بنا من وباء.

اللهم فارفعه عنا، واصرف عنا البرص والحذام وسيء الأسقام، واقبل توبتنا ورجوعنا إليك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين