فتن الزمان

في زماننا هذا الذي نعيش فيه من الفتن للعقول والنفوس، وفي الدين وفي المعاش، ما لم يسبق من قبل أن مر على المسلمين مثله، فيما أظن، وكثير من الناس يظن أن هذه الأوضاع من طبائع الأشياء، ومن مستقرات الأحوال، وليس الأمر كذلك، بل هي من النوازل الطارئة، والقضايا الحادثة، وليس حتمًا استمرارها ولا إقرارها مما هو من قبيل التدبير والسياسة، ولا إسلام النفس لبعضها مما هو من قبيل ترقي الوسائل، وتبدل أسباب المعيشة.

1 - فمن ذلك فتنة الدولة الحديثة التي احتكرت القوة والحكم والمال، وتدخلت في التربية والتعليم، وفي تصرف الناس في حيواتهم وأولادهم، وزواجهم وطلاقهم، وبيعهم وشرائهم، فأحلَّت وحرَّمت، ورغَّبت ورهَّبت، وأرادت للناس أن يعبدوها، وأن يخلصوا لها، وأن يموتوا في سبيلها باسم الوطن، وإلا كانوا خونة أو خوارج أو حزبيين أو غير وطنيين، أو غيرها من أوصاف المذمة، ومن تُهَم العقوبة. وفي الدول الرَّيْعية ربَّتهم الدولة على أن يتكلوا عليها في معاشهم، فهم عالة على مرتباتها وعطاياها، وهم أسرى برنامجها وخطتها، وهم في رُعب من جورها وبطشها، فلا يعرِّفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا ينصرون مظلومًا، ولا يظهرون حقًّا، ولا يسعون سعيًا، إلا إن رضيت هذه الدولة ومن يحكمها وأذنت. فكل عمل أهلي لا يكون إلا بإذن منها و«ترخيص»، وبعلم ورضا، وبتشريع وإباحة، وإلا كان مخالفة أو جريمة، تستوجب العقوبة، ولو كان من قبيل أن تقول كلمة في مسجد، أو أن تنشئ مدرسة تعلم علمًا، أو أن تقف وقفًا، أو تسبِّل سبيلًا، مما شرعه الله لك إباحة أو ندبًا أو فرضًا قبل مجيئها وحكمها، وسيبقى على حاله من الحل أو الحرمة أو الندب أو الإباحة كما شرعه بعد ذهابها وذهاب أهلها، وذهاب النظام الدولي الذي تستمد منه الاعتراف بها وبمعاملاتها وتصرفاتها.

2- ومن ذلك فتنة «الجنسية» وجواز السفر، والانتساب القانوني إلى دولة، فكل إنسان على الأرض لا بد أن يحمل جواز سفر وجنسية، وإلا أهدرت كل حقوقه، وجُمِّد كل حاله، ولم يعترف بوجوده المعنوي والمادي أحد، في تصرفه وتنقله.  ومع حمله جواز السفر هو غير قادر على التنقل باختياره، بل يحمل معه في بطاقة الجواز كل الحمولات السياسية للسلطة التي أصدرت الجواز، وإن خالفها أو عارضها لم تعطه هذا الجواز، وإن لم يجد المرء سلطة تكتب له جوازا أو إذن دخول بقي معلَّقًا في مطار أو ميناء لا يدخل ولا يخرج، حتى كأنه من كوكب آخر، أو خارج الإنسانية، أو رُحِّل قسرًا إلى حيث يكره. وبعض الناس عاشوا في بلدانهم بلا جنسية منقوصي الحقوق، يطالبون السنين الطويلة بحقوقهم ولا يبلغونها، وبعض الناس سحبت منهم الجنسية فبقوا لا ينتمون إلى بلد، ولم يحل النظام القانوني الدولي هذا الإشكال حلًّا منصفًا، إلا على سبيل ما يسمى «اللجوء» بشروط مجحفة أو صعبة، وباحتمال القبول أو الرفض، ولا يشرع في بحث الحالة إلا بعد دخول البلد الملجوء إليه، إلا في حالات نادرة لأغراض غير بريئة.

3- ومنها  فتنة انفراط عقد المسلمين، فهم يعيشون بلا دولة تحكمهم بدينهم الذي يدينون به ربهم، وتجمع شملهم وتلم شتاتهم، وتدفع عنهم وتنتصر لهم، فهم متفرقون بين الجنسيات، ومشتتون بالعصبيات والقوميات، وضعفاء بالفرقة والحدود والأنظمة، ومستضعفون بالتقتيل والتهجير والفتنة عن الدين، ولا يجدون معنى الأمة الديني كما هي في دينهم، إلا عاطفة بلا واقع، تتقد وتخبو بالأحداث، وتحضر وتغيب بالأحوال، وأما الجامعة السياسية والتشريعية، والقوة المرهوبة الحامية فمفقودة فقدًا تامًّا، لأنها في الماضي فُقدت فقدًا جزئيًّا.

4- ومنها فتنة الإنترنت، فقد سهَّل وصعَّب وجرَّأ، سهَّل الوصول إلى العلم، والتواصل بين الناس، وصعَّب العلم بالكثرة المفرطة للمواد في الفن الواحد، وجرَّأ الناس على الادِّعاء والخوض فيما لا يحسنون، بالوصول إلى الخبر بلا خبرة، والوقوف على الشيء بلا فقه، والمعرفة السطحية بلا تخصص ولا إحاطة. فكثر التشغيب والادعاء والسرقات العلمية والتزوير، على قدر ما يسَّر لطلاب العلم أسبابه، فوُجد على الإنترنت مكتبة لا حد لها، وجامعة من الدروس والمحاضرات المرئية لا مثيل لها في اجتماعها وتنوعها. وسهَّل أيضا وصول الشرور والفتن إلى كل من أراد، لا يمتنع منها طفل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير ولا وضيع ولا شريف، إلا بجهد جهيد، واتقاء وتحوط وتحصين مضاعف. وسهَّل أيضًا وصول الشواغل والصوارف بأيسر اتصال، حتى إن المرء ربما نظر هاتفه أو فتح حاسوبه لأمر، فوجد نفسه في أمر آخر من جراء الرسائل والإعلانات والمنبهات وما يسمى «الإشعارات»، فصار حفظ الوقت من أصعب الصعوبات.

5- وهذا يجر إلى ذكر فتنة «الهواتف الذكية»، فقد جعلت كل إنسان صغيرًا أو كبيرًا يملك جهاز إعلام وإنتاج فني مكتمل الأدوات، فالمرء يحمل في كمه ألوف ألوف القنوات والإذاعات والصحف ودور السينما الشخصية والمؤسسية لمن يعرف ومن لا يعرف، وكل هؤلاء يعرضون عليه منتجاتهم الرديئة والجيدة، والضارة والنافعة، فلا هو ينجو من الرديء والضار، ولا هو يحيط بالجيد والنافع، ولا هو ينصرف إلى عمله المجدي بيسر. وصار هذا الواقع المفترض موازيًا للواقع الحي، ومبعدًا عنه، وداعيًا إلى ازدراء نعمة الله بكثرة المعروض مما تمتد إليه الأعين مما متع الله به الناس بالحق أو بالتصنُّع والتعمُّل والتزيُّن، وصار هذا أيضًا مضخِّما للأنا ومغذِّيًا لحب الظهور والمدح، والدوران حول النفس، وداعيًا إلى الرئاء، ومغريًا بالمظاهر المزيفة، وبحب جمع أعداد من المتابعين والمعجبين والمعلقين، ومرغبًا أيضًا من ناحية أخرى في الوحدة والانفراد عن الأهل والأقران، وعن الاجتماع الذي يصقل النفوس ويعلم الأدب. وجرَّأ هذا الناس على قول ما لايقال في الواقع، فالذي يكتب أو يعلق أسهل عليه أن يقول من وراء ستار بهاتفه أو حاسوبه، ولو كان الأمر مواجهة لاستحيا أو تورع أو خاف، فكثر السب والهجاء والتشهير، بالحسابات الموهمة، والأسماء المستعارة، والصور المزيفة.

6- ومن ذلك فتنة الصورة الثابتة والمتحركة، والإنتاج الإعلامي الضخم ذي المؤثرات الكبيرة في السينما والأخبار واللهو والتمثيل، فسطا بالعقول والنفوس، ونشر الأفكار المضرة والمميتة والمغيِّرة للهوية والفطرة، والمغرية بازدراء الانتماء إلى الأمة، فاستمد الناس النماذج والأفكار والطبائع مما يرون في الصورة وفي الإعلام، حتى صار التفكير في معنى أو حدث في التاريخ أو سيرة من الماضي تجر إلى الذهن صورة قريبة أو مشابهة جاءت في السينما أو التمثيل أو الأغاني. فتعلقت أبصار الناس بالشاشات والعروض، وفعل في أذهانهم عمل المخرجين والمصورين والمنتجين فعله، فصار العامة وكثير من الخاصة أسارى الإعلام، لأن التفكر والنقد والتوقف ليس من عادة كل الناس، كما هو معلوم، فانغمر هؤلاء النقاد للحداثة وأدواتها في طوفان الصورة والصوت الغالب الذي لا يبقي ولا يذر، وكانوا صوتًا شاذًّا خافتًا يذكر للاستطراف أو التندر أو الاشمئزاز والتنفير.

7- ومن ذلك فتنة تصعيب الزواج على الرجال والنساء، وتيسير الحرام ونشر الرذائل في الواقع المعيش أو الواقع المفترض، وبدعة تأخير الزواج إلى ما بعد التخرج في النظام التعليمي الذي لا ينقضي قبل سن الثانية والعشرين، ويضاف إليها سنو العمل وتحصيل المال والمسكن مما هو من أعسر الأمور، ثم تكبير حدث الزواج في النفوس حتى كأنه حدث الأحداث الذي يكون مرة واحدة في العمر تصيب أو تخيب، ولذلك يشيع تعبير من قبيل «ليلة العمر»، وتهويل أمر الطلاق وبوار المطلقات والمطلقين والكبار في نحو الأربعين والخمسين الذي هو زمن الفتوة والنضج والخبرة والاتزان النفسي والاستقرار العاطفي وتقدير العواقب وحسن التدبير، ولذلك يشيع تعبير من قبيل: «القفص الذهبي». ويتصل بهذا بدعة اقتصار الرجل على زوجة واحدة، حتى لكأن هذا واجب أو أصل وغيره استثناء، وهو مخلوق ببدنه ونفسه محبًّا للنساء راغبًا في تعديدهن وتنويع العلاقة بهن.

8- ومن ذلك فتنة تقليل النسل، وكثرة الأعباء في تربية الولد وتعليمهم، وطول مدة اعتمادهم على ذويهم، وتمردهم مع ذلك عليهم بكثرة الشركاء في تكوينهم، وكثرة الانشغال عنهم، فتكاد تنقرض الأسرة الكبيرة التي يكثر فيها الولد، وتتوالى الأجيال، وتتوازى الأسر، وكل ذلك مع اتصاله بالتصورات المحدثة والمفروضة والمروجة، له اتصال أيضًا بالإفقار والاحتكار والتظالم المالي الذي يبدأ من الدول الكبيرة التي غزت العالم بجيوشها في القرون الأخيرة ونهبت الثروات، واستتبعت الشعوب، إلى الحكومات المحلية الصغيرة التي سارت بسيرة الدول الكبيرة التي أقرتها واستخلفتها في إدارة الأقطار، فكان النظام كله من رأسه إلى أساسه قائمًا على الاحتكار وأكل المال بالباطل وأكل مال الضعيف وكنز الثروات بلا إنفاق لها على أهل العوز، كما هي سنة الحياة في اختلاف الأرزاق، وابتلاء الناس بعضهم ببعض، فشاع الفقر المدقع والقلة في جانب، والغنى الفاحش والترف في جانب، فقل النسل، وصعب الزواج، وتعسرت المعيشة.

9- ومن ذلك فتنة الربا والتعاملات المالية المحرمة وأكل المال بالباطل، بل صنع المال من لا شيء، إذ صارت دولة واحدة أو دول معدودة تطبع الورق على أنه ذو قيمة، وهو ورق لا قيمة له إلا انتسابه إلى الدولة الطابعة، وفرضها له عملة، وتسعيرها له بما تشاء، فحلَّ محلَّ النقد القديم من الذهب والفضة، فاستبدلوا بالقيم الواقعية قيمة مفروضة ورقية  لا رصيد لها، وانضم إلى ذلك نظام الربا الذي يقوم عليه النظام المالي الدولي، وهو استيلاد المال بالمال بلا عمل ولا سلعة، ومعلوم أن هذا من أسباب الكساد والفساد، ولذلك كلما كسدت الأسواق خفضوا الفائدة. ولما كانت الجهات الحاكمة للعالم تبيحه فهو مباح عند غالب الناس، ولا يرون حرجًا فيه، ويستغربون حال من ينكره، وإن ارتقوا قليلًا أو استحيوا بحثوا عن المخارج والحيل لتحليله وقبوله، فنال الربا غالب الناس إلا من رحم الله، ومن لم يأكله أصابه غباره.

10- ومن الفتن فتنة المصطلحات والأساليب المترجمة التي مسخت اللغة وجعلتها جسمًا بلا روح، ولفظا بلا معنى، وصوتًا بلا أصل، وتابعًا ذليلًا يتبع فيه المتحدثون والمتكلمون سنن اللغات الأخرى وهم لا يشعرون، بل يظنون أنهم مفصحون محسنون، من كثرة ما ارتبطت هذه المصطلحات والعبارات بالكتب ومن يسمَّون المثقفين، فيظن الظان الذي تلقف ذلك من كتاب زمان كان يقرأ العامة الكتب، ومن صحيفة زمان الصحف، ومن قناة زمان القنوات الفضائية، ومن الإعلام الشخصي أو الاجتماعي أو الجديد كما يسمونه أو يمكن أن يسمى، فمات كثير من الأساليب والصيغ والتراكيب في اللغات، ودخلت إليها طرائق الأقوياء من الأمم في التعبير والكناية والمجاز بل في الصوغ اللغوي المحض في التعبير، فصار الناس يتحدثون في الظاهر بلغاتهم، وفي الباطن بلغات الأمم التي تحكمهم، هذا فضلًا عن شيوع حديثهم وكتابتهم وتعليمهم بلغات الغالبين ظاهرًا وباطنًا، وازدرائهم للغاتهم سرًّا وعلنًا، وإدخالهم لأطفالهم في الرياض والمدارس الابتدائية لا يُنطق فيها حرف بلغات آبائهم وأجدادهم، إلا في توافه الأمور اليومية، بل في أحيان لا ينطقون بها ولا يسمعونها البتة. ومن هذا الوادي شيوع الاصطلاحات المتصلة بالأوضاع الحاضرة وهي لها أصول دينية أو وثنية أو فلسفية، ويستعملها الناس وهم عنها غافلون، وتدخل كتابتهم ومناهجهم ومحاوراتهم وسياساتهم وهم غارُّون، أو وهم واعون ولكنهم لا يأبهون، أو وهم راضون محبون.

كتبت هذا لعله يأتي من بعدنا من يعتبر بحالنا، ويقول: رحم الله أجدادنا، كيف كانوا يعيشون؟

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

5 شعبان 1444

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين