غوطة دمشق: مسك الختام

 

كل ابن آدم خَطّاء. هذا الحديث من أصحّ الأحاديث معنىً، وإنْ ضعّفَه بعضُ أهل الصناعة الحديثية وحسّنه آخرون، فإن النقص في جبلّة الإنسان لا يزال سبباً في خطئه ومعصيته. و"الخطّاء" صيغة مبالغة من الخطأ الذي يخالف الصواب، ومن الخطيئة التي هي الذنب والمعصية، وما حصل في الغوطة يدخل في البابين.

 

*   *   *

 

إن أحداً من الناس، أفرادهم وجماعاتهم على السواء، لا يمكن أن يعيش بمنجاة من الخطأ في أمور الدنيا والدين، فالناس في ذلك سواء، ثم يتميزون في اثنتين، أُولاهما التي جاءت في تتمة الحديث: "وخير الخطائين التوّابون". الذين إذا راجعوا أنفسهم فتذكروا أو روجعوا فذُكِّروا لم يُصِرّوا على الذنب والخطأ وتراجعوا عنه تائبين مستغفرين.

 

الثانية ليست أقل أهمية: الذين إذا تراجعوا عن الخطأ راجعوا أنفسهم ليستبينوا سبب وقوعهم فيه في الزمن الماضي ويتعلموا الوقاية منه في الزمن الآتي، ومَن لم تعلّمه خطاياه فلا خير فيه.

 

كنا نتمنى أن يكون إخواننا في الغوطة على درجة من الرشد والحكمة تغنيهم عن دفع ذلك الثمن الباهظ لتعلم درس تكرر في تاريخ الأمة ألفَ ألفِ مرة. تمنينا أن لا تُزهَق روحٌ ولا تسيل قطرة دم بغير حق، وأن لا يضيع شبر من الأرض التي تَمُدّ أهلَ الأرض بأسباب الحياة، سلّة الغوطة الغذائية في قطاعها الجنوبي، وأن لا تتراكم في القلوب ضغائنُ قد يستغرق تخليصُ القلوب منها سنوات. أمَا وقد حصل ذلك كله فلا خيرَ في الالتفات إليه لاجترار الآلام، ولا ينبغي الإعراض عنه بحيث تضيع العبر والدورس، بل لا بد من وقفة حازمة للمراجعة والتقويم.

 

*   *   *

 

1- رغم الأخطاء الهائلة التي ارتكبها الطرفان فإنهما يستحقان الشكر لقاء تجاوبهما مع مساعي الصلح والتوفيق. ولا تناقضَ بين لومهما على جَرّ الغوطة إلى الاقتتال وشكرهما على إخراجها منه، ففي الحديث الذي افتتحتُ به المقالةَ ذم ومدح ضمنيان يحتملها المقام، ذم لارتكاب الذنب ومدح للتوبة منه والإقلاع عنه.

 

2- اطمأنّت قلوبنا بوقف الاقتتال، وبقي بيننا وبين الاطمئنان الكامل أن يعالج الطرفان أسبابَ الخلاف التي قادت إلى ذلك الاقتتال الذميم، وهي ثلاثة أمور: أولها مطلوبٌ من الطرفين، وهو خضوعُهما للقضاء ومعالجة كل الملفات القديمة والمعلقة. والثاني من الفيلق، وهو فك ارتباطه العملي والنظري بجيش الفسطاط. والثالث من الجيش، وهو إصلاحُ جهازه الأمني ومعاملة الآخرين بتواضع ورفق ولين.

 

وقد بدأ الطرفان بالمشي في هذا الطريق الحميد بفضل الله، فأعلنا الخضوع الكامل للقضاء، وأكد الفيلق موقفه المستقل ثم أثبته بتكريس المصالحة على الأرض، وأثلج الجيشُ صدورَ محبّيه ومتابعيه بقراره الشجاع الذي طال انتظاره، قرار تقييم ومراجعة هيئته الأمنية بإشراف لجنة مستقلة.

 

أسأل الله أن يتحقق استقلال الفيلق الكامل عن الضغوط والتحالفات، وأن تجري مراجعة الجيش بصدق بعيداً عن المجاملات، وأن يكون ذلك كله بدايةً لعهد جديد من التفاهم والتعايش السلمي في الغوطة المباركة حماها الله.

 

*   *   *

 

3- من لم يشكر الناس لم يشكر الله. فينبغي شكر كل من ساهم في الوصول إلى الصلح وإنقاذ الغوطة من الاقتتال والخلاف المخيف، وهم كثيرون، منهم من عرفهم الناس فشكروهم، ومنهم من جهلهم الناس ويعرفهم رب الناس، وسيجدون ثوابهم عند الله غيرَ منقوص بإذن الله.

 

4- أخيراً لا بد من الاعتراف بأن الفضل الأكبر -بعد فضل الله الكريم الرحيم- في وأد الفتنة وقطع دابر الخلاف كان لوعي الناس، فقد أثبتت هذه المحنةُ مرةً أخرى أن جمهور الثورة أكثر وعياً من قادتها ونُخَبها المزعومة، وأنه قوة الثورة الكامنة وصمام أمانها، فمن ضيّعه ضيّع الثورة، ومن أضعفه أضعفها، ومن استأثر بالثورة من دونه كان من الظلمة والمعتدين.

 

هذه الحقيقة الكبرى ينبغي أن يؤطّرها بإطار الذهب ويعلقها فوق رأسه ليقرأها صبحاً وعشيّاً كلُّ من تكبر على هذا الشعب العظيم وظنّ أنه أعجَزُ من أن يَسوس نفسه بنفسه، فأباح لنفسه أن يتحكم فيه وأن يسلبه قراره باسم الدين مرة وبغيره من الأسماء في غيرها من المرات.

 

*   *   *

 

خاتمة: روى كُتّاب التاريخ أن علي بن أبي طالب خرج في الليل -لمّا انقضى يومُ الجمل- وفي يده شمعة يتصفّح وجوهَ القتلى، حتى وقف على طلحة بن عبيد الله متعفّراً في بطن واد، فجعل يمسح الغبار عن وجهه ويقول: أعزِزْ عليّ يا أبا محمد أن أراك متعفّراً تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية، إنّا لله وإنا إليه راجعون. أشقيت نفسي وقتلتُ معشري، إلى الله أشكو عُجَري وبُجري. ثم قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين}، وإذا لم نكن نحن فمَن هم؟

 

اللهمّ انزع ما في صدور مجاهدي الغوطة المباركة من غِلّ وأبدلهم به محبّةً فيك، واجمعهم اليومَ إخواناً في الخنادق والجبهات وغداً إخواناً على سُرُر متقابلين في جنّات النعيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين