غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه

أحد شهداء الأنصار في الغزوة الثانية من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها غزوة أحد، عند الجبل الذي وصفه رسول الله بقوله: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، الغزوة التي فيها الكثير الكثير من الدروس والعبر والبطولات والمواقف المشهودة والمشهورة، ومن أغربها قصة هذا الشهيد المبارك غسيل الملائكة الذي سنتحدث عنه في هذا المقال، كما أنها الغزوة التي علمتنا ضرورة الالتزام بأمر القائد العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبينت أهمية هذا الالتزام لتحقيق النصر، وشهدت بصواب خطته صلى الله عليه وسلم، وحسن إدارته للمعركة بالرغم من الشدائد التي ألمت به وبأصحابه صلى الله عليه وسلم، كما شهدت مواقف وأحداث هذه الغزوة بشجاعة أصحابه، وتفانيهم في الدفاع عنه، وحمايته، والتضحية بالنفس في سبيله، وكانت هذه الغزوة غزوة كاشفة فاضحة للمنافقين وضعفاء الإيمان، ومن هفت نفوسهم إلى الغنائم ومتاع الدنيا فهرولوا إليها تاركين إخوانهم هدفاً سهلاً لفرسان المشركين ينالون منهم ويطعنونهم في ظهورهم.

في هذا اليوم تتبدى لنا شخصية عظيمة من رجال الأوس من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل الإيمان والنصرة، والوفاء بالعهد، إنه حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، الصحابي الجليل الذي كان أعجوبة في زواجه، كما كان آية في إقدامه وبطولته واستشهاده، نعم هو حنظلة بن أبي عامر الملقب بالراهب واسم أبي عامر عبد عمرو بن صيفي وينتهي نسبه إلى عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة الأنصاري الأوسي. يقول ابن الأثير في كتابه أسد الغابة: حنظلة من سادات المسلمين وفضلائهم، وهو المعروف بغسيل الملائكة، وأما زوجته فجميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين، وعند الحديث عن هذا الصحابي الجليل الشهيد حنظلة بن أبي عامر لابد من الوقوف مع شخصية أخرى لها موقف مخزٍ في هذه الغزوة بل قبلها وبعدها، ألا وهو أبوه أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاسق، لنرى كيف أن الله جل وعلا يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وكيف يمكن أن يكون الولد مؤمناً وصالحاً صادقاً عندما ينشرح صدره للإسلام والإيمان في الوقت الذي يكون فيه أبوه فاسقاً كافراً مشركاً.

لقد كان أبو عامر الراهب في الجاهلية يعتقد الحنيفية والتوحيد، ويذكر البعث ويتحنث، ويرجو أن يكون هو النبي المنتظر، وكان ذا مكانة وطاعة ورأي في قومه، والمقدم فيهم، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وهاجر إلى المدينة، ولقي من أهلها القبول والرضى، شرق عدو الله أبو عامر بالرسالة، وامتلأ قلبه بالحقد والحسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأن النبوة اصطفاء واختيار وتكريم من الله جل وعلا ينتقي لها من يشاء من عباده من سبقت له السعادة والسيادة من خلقه، وليست هدفاً وغاية يسعى إليها من يريدها من الناس، وقد شاركه هذا الحقد وهذا الحسد وهذه الضغينة على النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول، الذي كان هو الآخر يرجو أن يتوج ملكاً على يثرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فأما عبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله تعالى فأظهر الإسلام وأضمر النفاق، وسلك سبيل الخيانة والإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، كما هو معروف في سيرته السيئة الذكر.

وأما أبو عامر الراهب والد الشهيد المبارك حنظلة رضي الله عنه، فلم يطق الحياة في المدينة وهو يرى الإسلام ينتشر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو ويرتفع، فخرج إلى مكة وأقام بها يؤلب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحثهم على الانتقام منه لانتصاره عليهم يوم بدر، وأقام عندهم حتى إذا كانت غزوة أحد خرج في جماعة من الأحابيش وعبدان مكة في جيش المشركين.

وكان يوهم قريشاً أن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه، فكان أول من خرج يوم أحد إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. فقالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شراً. فلما بدأ القتال قاتلهم قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة. بعد أن فشلت خطته الدنيئة بين الأنصار أهل الإيمان ومحاولته بعث روح القبلية، بعد أن أبطلها الإسلام وأذكى فيهم روح الأخوة الإيمانية، ورابطة الإسلام الطاهرة.

وتذكر كتب السيرة أن أبا عامر الفاسق كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجع مع المشركين بعد أحد إلى مكة يجر ذيول الخيبة والخسران فأقام بها حتى فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة، فهرب الفاسق أبو عامر إلى أرض هرقل في الشام فأقام بها حتى مات.

وكان معه في لجوئه إلى أرض الشام كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة، فاختصما في ميراثه إلى هرقل ملك الروم، ويبدو أن الفاسق كان صاحب مال وفير فلذا وقع الخلاف فيه، فدفع هرقل ميراثه إلى كنانة بن عبد ياليل، وقال لعلقمة: هما من أهل المدر وانت من أهل الوبر- أي هما من سكان المدن وأنت من أهل البادية – وهكذا طويت صفحة هذا المعاند للدعوة المعادي لرسول الله صلى الله عليه وسلم شريداً طريداً لا يواسيه أحد من أهله ولا عشيرته.

الزواج المبارك

نعود إلى غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول التي كان زواجه منها في الليلة التي صبيحتها غزوة أحد، فاستأذن رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في المبيت عندها فأذن له صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما صلى الصبح عاد إليها، فأرسلت إلى أربعة من قومها فأشهدتهم عليه أنه دخل بها، فقيل لها: لمَ فعلتِ هذا؟ قالت: رأيت كأن السماء انفرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلتُ: هذه والله الشهادة، فأحببتُ أن أُشهِد عليه، وما هي إلا سويعات كان يقضيها مع عروسه إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم حي على الجهاد، فهبَّ رضي الله عنه من فراش الزوجية، وقام من فوره إلى الجهاد، ومضى يشق صفوف المشركين في ساحة القتال، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد أن يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فبعد أن شد على أبي سفيان واستعلاه، شاءت إرادة الله أن يبصر بهما المشرك ابن شعوب، وهو شداد بن الأسود الليثي فعلاه بالسيف وهو مشغول بعدوه أبي سفيان فضربه ضربة قلته بها فخر شهيداً رضي الله عنه، ونجا أبو سفيان. وفي ذلك يقول معترفاً بفضل ابن شعوب عليه:

ولو شئت نجتني كُميت طمرة *** ولم أحمل النعماء لابن شعوب

وينقل عنه أنه قال معزياً نفسه بمقتل ابنه " حنظلة بحنظلة " ويعني بحنظلة الأول غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر، وبحنظلة الثاني ابنه حنظلة بن أبي سفيان الذي قتل يومئذ كافراً.

كرامة لم تعرف لغيره من شهداء الإسلام

ومن كرامات هذا الشهيد البطل أنه يدعى غسيل الملائكة، تبياناً لعلو درجته ورفعة مكانته بين شهداء ذلك اليوم المشهود، فعن ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد أن وجدوه في القتلى ورأسه يقطر ماء: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة" يعني حنظلة، فاسألوا أهله من ما شأنه؟ فسئلت صاحبته (زوجته) فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة.

وقد ذكر السهيلي عن الوافدي وغيره أن حنظلة بن أبي عامر عندما عثر عليه في القتلى، وجدوا رأسه يقطر بالماء، ولم يكن الماء على مقربة منه. وهذا تأكيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم تغسله الملائكة)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين