غزوة حنين وحصار الطائف ودخول الجزيرة في دين الله

 

حدث في الرابع والعشرين من ذي القعدة

 

 

في الرابع والعشرين من ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد غياب 76 يوماً فتح الله فيها على يديه مكة، وحارب قبيلة هوازن وهزمها في معركة حُنين، وحاصر قبيلة ثقيف في الطائف.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقد قبل سنتين مع قريش صلح الحديبية، ونص المعاهدة: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عَيْبَةً مكفوفة، وأنه لا إسْلال ولا إغْلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. قال في لسان العرب: العيبة: صدرٌ معقودٌ على الوفاءِ بما في الكتاب نقيّاً من الغِلِّ والغدر والخداع.

وتضمن الاتفاق أن يرجع الرسول عن مكة المكرمة، وأنه إذا كان عام قابل خرج المشركون عنها فدخلها بأصحابه، فأقام بها ثلاثا، معهم سلاح الراكب؛ السيوف في القُرَب، لا يدخلها بغيرها.

وكانت بين قبيلة خزاعة وبين بني عبد المطلب حلف قديم من أيام الجاهلية، وبقيت آثاره بعد نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث: كانت خزاعة عيبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مؤمنهم وكافرهم.  ولذا بادرت خزاعة فقالت: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.

وكان بين القبيلتين دماء وثأر من أيام الجاهلية، وتوقف هذا النزاع مؤقتاً بسبب ظهور الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر، وأرادوا أن يثأروا من خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فأغار على خزاعة ليلاً وهم على ماء لهم يدعى الوتير، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريشٌ بني بكر بالسلاح وقاتل معهم بعض القريشيين بالليل مستخفيا، وتراجعت خزاعة إلى الحرم، وعادة العرب ألا تقاتل فيه، فقال قومُ نوفل بْن معاوية لنوفل: يا نوفل، اتق إلهك ولا تستحل الحرم، ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!

ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة مستغيثين به مما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، وأنشده عمرو بن سالم والرسول جالس في المسجد بين ظهراني الناس:

يا رب إني ناشدٌ محمدا... حِلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم وُلدا وكنا والدا... ثُمتَّ أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا... وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا... إن سيم خسفا وجهُه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا... إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك الموكدا... وجعلوا لي في كَدَاء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا... وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هُجَّدا... وقتلونا رُكَّعا وسُجَّدا

فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت يا عمرو بن سالم.

وندمت قريش على ما فعلت، فهدى أبا سفيان بن حرب دهاؤه أن يبادر بالذهاب إلى المدينة ليشد العهد بل ويزيد في مدته، ولكنه لقي في المدينة استقبالاً فاتراً من ابنته أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ، ثم أتى النبيَّ عليه السلام في المسجد فكلمه، فلم يجبه بكلمة، وباءت بالفشل محاولاته مع أبي بكر وعمر وفاطمة الزهراء وعلي ليعود بالأمان إلى أهل مكة.

وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا أرسله مع امرأة يخبرهم بنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرسولَ الوحيُ بذلك فأرسل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، رضوان الله عليهم، فلحقوا بها وأتوا بالكتاب، واعترف حاطب بخطئه، وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي العاشر من رمضان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش من عشرة آلاف، لم يقتصر على الأنصار والمهاجرين الذين لم يتخلف منهم أحد، بل تميز بكونه ضم بضع مئات من كل قبيلة من قبائل العرب، واستخلف على المدينة أبا رُهم كلثوم بن حُصين بن عُتبة الغِفاري، وأفطر صلى الله عليه وسلم وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وقال: تَقَوَّوْا لعدوكم. وأمر الناس بالفطر، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فلم يعب على الصائم ولا على المفطر.

وصدف في تلك الأيام أن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب هاجر مسلماً، فلقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فبعث ثِقله إلى المدينة وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا، وذُكر أيضا أن ابن عم الرسول أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخا أم سلمة خرجا أيضا مهاجرين، ولقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق قرب مكة، فأعرض عنهما، فلما نزل استأذنا عليه فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة فيهما، وقالت: لا يكون ابن عمك وأخي أشقى الناس بك، فقد جاءا مسلمين. فأذن لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلما وحسن إسلامهما.

واستجاب الله دعاء رسوله فأخفى خبره عن قريش التي بقيت على وَجَلٍ وارتقاب، وفي إحدى الليالي خرج أبو سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام يتجسسون الأخبار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بالجيوش في وادي مَرِّ الظَّهران على قرابة 20 كيلاً من مكة المكرمة، ورَقَّتْ نفس العباس لقريش، وأَسِفَ على ذهابها، وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض، فلما أتى وادي الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا أو صاحب لبن يأتي مكة فينذرهم، فبينما هو يمشي إذ سمع صوت أبي سفيان صخر بْن حرب، وبديل بْن ورقاء وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النبي عليه السلام، فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة، فميز أبو سفيان كلامه فناداه: يا أبا الفضل، فقال: نعم، فقال له: فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس! واصباح قريش! فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟ فقال له العباس: هذه والله لئن ظفر بك ليقتلنك، فَارْتَدِفْ خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأردفه العباس ولقي به العسكر، ومر على نار عمر، ونظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان، قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي أضرب عنقه، فقال له العباس: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بْن كعب ما قلت هذا، ولكنه من بني عَبْد مناف، فقال عمر: مهلا، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم.

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أصبح أتى به النبي عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك بأن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وما أكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغناني، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن، فقال له العباس: أسلم قبل أن تُضْرب عنقك! فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فكان هذا منه أمانا لكل من لم يقاتل من أهل مكة.

ثم قال العباس: يا أبا سفيان، النجاء إلى قومك! فأسرع أبو سفيان، فلما أتى مكة عرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من دخل داره، أو المسجد، أو دار أبي سفيان.

وفي العشرين من رمضان دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وبلغه أن قوماً من المشركين تجمعوا ليقاتلوا، فسرب الجيوش من ذي طوى، وأمر الزبير بالدخول من كَداء في أعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد ليدخل من الليط أسفل مكة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمر قد جمعوا جمعا بالخَندمة ليقاتلوا، فناوشهم أصحاب خالد القتال، وقتل من المسلمين ثلاثة منهم رجلان خرجا عن جيش خالد فقتلا، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمن الناس قد استثنى من أمانه: عبد العُزّى بن خَطَل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نُقَيذ بن وهب، ومِقيس بْن صبابة، وقَيْنَتَيِ ابن خطل: فَرْتَنى وصاحبتها، كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة هاشم بن عمرو بن عبد المطلب وكانت ممن يؤذيه بمكة.

أما ابن خطل فإنه كان أسلم، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مُصدِّقا، وبعث معه رجلا من المسلمين فعدا عليه فقتله، وارتد، ولحق بالمشركين بمكة، فوجد يوم الفتح متعلقا بأستار الكعبة، فقتل.

وأما عبد اللهِ بن سعد بْن أبي سرح فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بمكة مرتدا، فلما كان يوم الفتح اختفى، ثم أتى به عثمان بْن عفان النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسولَ صلى الله عليه وسلم، فسكت عنه صلى الله عليه وسلم ساعة ثم أمنه وبايعه، فلما خرج قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هلا قام بعضكم فضرب عنقه؟ فقال رجل من الأنصار: هلا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ فقال عليه السلام: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين. ثم عاش عَبْد اللهِ بن سعد حتى استعمله عمر، ثم ولاه عثمان مصر، وهو الذي غزا إفريقية وافتتحها أول مرة، وحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد في دينه شيء يكره.

وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة.

وأما الحويرث بن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح، وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي عليه السلام قبل ذلك مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بعد أن أخذ الدية منه في قتيل له، ثم لحق بمكة مرتدا، فقتل يوم الفتح.

وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها، وأما سارة فاستؤمن لها أيضا وأمنها عليه السلام.

وأراد عليٌّ قتل رجلين من بني مخزوم، قيل: إنهما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فاستترا عند أخته أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما وأمنتهما، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها، وقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمنا من أمنت. وأسلما وكانا من خيار المسلمين.

وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة، وصلى داخلها ركعتين، ورد مفتاحها إلى عثمان بن طلحة، وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة. فهي إلى الآن في ولد شيبة بن عثمان بن طلحة، وأمر عليه السلام بكسر الصور والأصنام التي التي داخل الكعبة وحولها، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، ثم وقف على باب الكعبة وقد استُكِفَّ له الناسُ في المسجد، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سَدانة البيت وسِقاية الحاج ... يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء؛ الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية ?يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ?، ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء

وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يدعو الله، وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا: فيما بينهم أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم!

وكانت قبيلة هوازن العدو الآخر الذي يترقب الدوائر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ضخمة العدد شديدة البأس، وكانت قد تجسست على الرسول صلى الله عليه وسلم قبل دخوله مكة، فقد قبضت طليعة المسلمين على رجل وأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ثم أمنوه فاعترف أن هوازن أرسلته وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمدا فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيغزونا أولاً أم يغزو قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين هوازن ؟ قال: تركتهم وقد جمعوا الجموع وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيف فأجابتهم، وبعثوا إلى الجُرَش في عمل الدبابات والمنجنيق. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يحبسه مخافة أن يتقدم ويحذر الناس، ثم هرب فأدركه خالد بن الوليد وقال: لو لا عهدك لضربت عنقك! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل شهيدا.

ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مشت أشراف هوازن بعضها إلى بعض وثقيف بعضها إلى بعض وحشدوا وقالوا: والله ما لاقى محمد قوما يحسنون القتال فأجمِعوا أمركم فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم. فأجمعت هوازن وثقيف وأمروا عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وكان سيدا يفعل في ماله ويُحمد، فأمر الناس فجاءوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا بأوطاس، واجتمع الناس به فعسكروا وأقاموا به وجعلت الأمداد تأتيهم من كل ناحية.

وكان معهم دريد بن الصمة وهو شيخ فانٍ، يزعمون أنه بلغ 160 عاماً، أخرجوه للرأي والخبرة إذ كان مذكوراً بالفروسية والشجاعة من فتوته، فلما نزلوا بأوطاس لمس الأرض بيده. فقال: بأي واد أنتم ؟ قالوا: بأوطاس. قال نِعمَ مجالُ الخيل لا حَزَنٌ ضرس ولا سهل دهس، ثم قال لهم: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالكٌ مع الناس أموالهم وعيالهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، فسأله: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليقاتلوا عن أهليهم وأموالهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال دريد: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كلاب وكعب، فمن شهدها من بني عامر؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةَ على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى ذلك مالك، وخالفت هوازن دريدا واتبعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني

يا ليتني فيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وَأَضَعْ

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد اللهِ بن أبي حَدْرد الأسلمي ليلاً ليستطلع أخبارهم، فذهب وعاد  وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاهد من استعدادهم وحشدهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية بن خلف الجمحي دروعا، ولم يشهد غزوة حنين ولا الطائف عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الثقفيان، كانا قد خرجا يتعلمان صناعة المنجنيق والدبابات.

وخرج النبي عليه السلام في السادس من شوال في 12.000 من المسلمين، منهم 10.000 صحبوه من المدينة، و2.000 من مسلمة الفتح، وانضم إليه عدد من الأعراب، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حُنين، وهو واد من أودية تهامة على بعد 28 كيلاً شرقي مكة، وهو الذي يسمى اليوم وادي الشرائع، كما أفاد ذلك المرحوم المقدم غيث بن عاتق البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية.

وكانت هوازن قد كمنت في جنبي الوادي، وذلك في غبش الصبح، ففاجأت المسلمين في حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس والفضل بن العباس،، وأبو سفيان بن الحارث بن عَبْد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وهو أيمن ابن أم أيمن حاضنة الرسول، ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء واسمها دُلْدُل، والعباس آخذ بحكمتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: أيها الناس، إلى أين أيها الناس؟ أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد اللهِ! وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، فلما سمعوا الصوت أجابوا: لبيك، لبيك، وكانت الدعوة أولا: يا للأنصار، ثم خصصت بِأَخَرَةٍ: يا للخزرج. وكانوا أصبر عند الحروب، فلما ذهبوا ليرجعوا، كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره لكثرة الأعراب المنهزمين، فكان يأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه ومِـجَنَّه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله ويكر راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حتى إذا اجتمع حواليه صلى الله عليه وسلم مئة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتدت الحرب، وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: الآن حمي الوطيس! وقتل عليُّ بن أبي طالب ورجلٌ من الأنصار صاحب راية هوازن، وأخذ علي الراية، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا، فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل : ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى?، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وأسرى هوازن بين يديه، وثبتت أم سُليم في جملة من ثبت أول الأمر محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة، وفي يدها خنجر.

وانهزم مقاتلو هوازن، وتركوا  وراءهم العيال والأموال، وقتل من بني مالك من ثقيف 70 رجلا، وفرَّ حلفاؤهم حين اشتد القتال إلى الطائف مع ثقيف فلم يقتل منهم إلا رجلان، وقتل دريد بن الصمة كذلك، وقتل من المسلمين 3  في المعركة منهم أيمن بن عبيد ابن أم أيمن.

واجتمعت هوازن بمنطقة قريبة تدعى أوطاس فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءهم أبا عامر الأشعري، واسمه عبيد، وهو عم أبي موسى الأشعري، في طائفة من المسلمين منهم أبو موسى إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس، فقتل وأخذ أبو موسى الراية وقاتلهم حتى انسحبوا ولم يعد هنالك خطر من أن يكرّوا على المسلمين بعد كسرتهم.

وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف ليستثمر ما حققه من نصر الله في حنين، ويكسر شوكة ثقيف التي كانت قد تحصنت في حصنها  المنيع الذي لم يكن له مثيل في حصون العرب، فحاصرها قرابة 20 يوماً، وأهلها يرمون المسلمين بالنبال وزعيمهم في هذا أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب، الفارس الكريم، الذي سيسلم سنة 9 والمشهور خبره في معركة القادسية، والمتوفى سنة 30 بأذربيجان.

ونصب عليهم رسول الله المنجنيق وهو أول ما رُمي به في الإسلام، ودخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالا، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر. فخرج منهم بضعة عشر رجلا ، منهم أبو بكرة ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة.

ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي، فقال: ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك. فأذَّن في الناس بالرحيل فضجوا وقالوا : نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاغدوا على القتال. فغدوا فأصابت المسلمين جراحات، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا إن شاء الله. فسروا بذلك وأذعنوا ، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فلما ارتحلوا واستقلوا ، قال قولوا : آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون. وقيل: يا رسول الله ادع الله على ثقيف. فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم. واستشهد في حصار الطائف 11 مسلماً أبرزهم عبد الله بن أمية بن المغيرة المخزومي أخو أم سلمة أم المؤمنين الذي أسلم قبيل فتح مكة كما أسلفنا.

وتحول الرسول إلى الجعرانة قرب حنين، وكان قد اسْتَأْنَى بقسمة الغنائم رجاء أن تسلم هوازن وترجع إليه، فلما تأخروا بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب عطاءً سخياً ثم أعطى بقية الجيش، ولم يعط الأنصار شيئاً فوجدوا في أنفسهم وكثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في قسمة الفيء، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟ فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالةٌ بلغتني عنكم؛ وَِجِدةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: الله ورسوله أمَنُّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا وواديا، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا

وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقالت: يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري، وأنا متوركتك. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال: إن أحببت الإقامة فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك فترجعي إلى قومك؟ قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل.

ثم قدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا ، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فسألوه أن يمُنَّ عليهم بالسبي والأموال فقال: إن معي من ترون، وإن أحبَّ الحديث إليَّ أصدقه؛ فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقال: إذا صليت الفجر فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا علينا سبينا.

فلما صلى الفجر قاموا فقالوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس. فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم ، فلا ، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سُليم ، فلا، فقالت بنو سليم : ما كان لنا ، فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني! فعندئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا، فقال الناس: قد طيَّبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم نساءهم وأبناءهم، وكسا كل واحد من السبي ثوباً أبيض من كتان مصر.

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا من الجعرانة إلى مكة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف إلى المدينة، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أُسيد، وهو شاب في العشرين أو دونها، ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لست بقين من ذي القعدة، وقد دانت له العرب واستببت له الأمور في الحجاز.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين