السيرة جزء من التاريخ العملي التطبيقي في تاريخ الإسلام، والتاريخ للعبرة والعظة والبناء والتجديد. فالتاريخ الإسلامي بالنسبة إلى هذه الأمة، يمثل جزء مهما من كيانها الذي تنظر من خلاله، لتبني حاضرها وتستشرف مستقبلها.
وهذا التاريخ لا بد له من محاور أساسية: الإنسان والأرض، والزمن، ولا بد لهذه المحاور أو العناصر الثلاثة من رسالة محورية تدور حولها. من ثم فإن الأمة التي تفقد تاريخها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبني حاضرها، ولا أن تنظر في مستقبلها، فإذا ما هي فصلت عن تاريخها، فقدت الشروط المعيارية في التقويم والتأمل والمراجعة، والمشاهدة والخبرة والتجربة...فلا جرم أن تصبح بذلك أمة مشلولة مغلوبة على أمرها.
على أننا اليوم نعيش على هامش التاريخ، لأننا لم نستطع أن ننطلق من ذاتنا من تاريخنا ، من عقيدتنا وأصالتنا الإسلامية، لكن مع الأسف انطلقنا من الضفة الأخرى، من وراء البحار وخلف السهوب، فكانت الهزائم المتتالية، والخسائر المتلاحقة، والنكبات المفجعة، وتعتبر هذه بحق "ردة تاريخية" لا مثيل لها.
ومهما يكن من أمر فإن قراءة التاريخ للنظر والتأمل في عوامل التقدم والنصر، وعوامل التخلف والهزيمة، فلا جرم أن الاستنكاف عن إدراك هذه العوامل بشقيها، موقع في المزيد من التردي والسقوط الذي تكبو معه الأمة، فتتعثر نهضتها، وتتراجع انطلاقتها. إن إدراك هذه العوامل له ارتباط وطيد بمعرفة السنن الكونية القدرية في النصر والهزيمة، فمن ثمة كان فن التاريخ على حد قول العلامة ابن خلدون "في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول...وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق."(1)
إن الاستقلال الحضاري ينطلق أساسا، ويتمحض حقا عن بنية فكرية وعقدية سليمة، وتصور حضاري واضح، يقوم بالمراجعة والتصحيح، والأخذ والقبول. ضمن منهجية ومرجعية سليمة وصائبة. وبما أننا نتحدث عن السيرة النبوية، أو بالأحرى، عن جزء منها -وهو المتعلق بغزوة بدر الكبرى- فهي تمثل النموذج الأول في تنزيل القيم الروحية والفكرية على الواقع، وبيانا عمليا تطبيقيا لقيم الكتاب والسنة، من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بحراسة من السماء، وتسديد من الوحي.
من هنا كانت السيرة مصدرا للأحكام الشرعية، ومنبعا للتربية التعليمية والأخلاقية، ورافدا من روافد التحضر والتمدن، وسجلا –في الوقت ذاته- لبداية التاريخ الإسلامي، ولتكن كذلك معيارا للتقويم والمراجعة والتصحيح.
ولما كانت غزوة بدر أول غزوة فرقت بين الحق والباطل، فقد حفلت بكثير من المبادئ الإسلامية الأصيلة، ذات أبعاد مقاصدية كبرى لبناء المجتمع، والتي سيظل التاريخ يذكرها، ولا يزال المسلمون يجدون فيها أملهم المنشود. من هذه المبادئ التي تلوح في هذه الغزوة:
مبدأ ومقصد العقيدة
جاء في سيرة ابن هشام ما يلي: "وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله: امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد(2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، وإنما يريد الأنصار ... قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يارسول الله. قال : أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك ..."(3)
إن المتأمل في هذا النص من السيرة النبوية يجده غزيرا بدلالته التربوية، عميقا بأبعاده الإيمانية، حيث يبين أن الإسلام انطلق –أساسا- في بناء الإنسان من الوجهة العقدية والفكرية والأخلاقية والسلوكية، فالانتصارات التي حققها الإسلام في تاريخه، إنما كانت كلها بفضل العقيدة الإسلامية، وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس هذه العقيدة وترسيخها في نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى قال أحدهم باسمهم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"، وقال الآخر: "فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ..." هذا دليل قاطع على رسوخ العقيدة وتمكنها من قلوبهم وعقولهم.
في ظل هذه العقيدة الطاهرة وحد صلى الله عليه وسلم القلوب والأفكار، ووحد الصفوف، ووحد الأهداف والوجهة، فلابد إذن من بناء الإنسان المسلم وصياغته وفق عقيدة الأمة ومبادئها العليا.
وقد استبان من خلال غزوة بدر أن العقيدة تخلق الانسجام بين أفرادها، فتصبح رؤيتهم واضحة، ومنحاهم هادفا، فتدفعهم إلى التعاون والتآزر.
لقد كان شعار المسلمين في ظل العقيدة الإسلامية (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) [التوبة:52] النصر أو الشهادة. فالعقيدة هي المحرك الفعال للإنسان المسلم، بل هي منطلق تفكيره وسيره في الحياة، وهي إطاره الكلي الذي يتحرك فيه، فلا يمكنه أن يتحرك نحو البناء الحضاري والأخلاقي، والتفوق المادي والعسكري، ولا يمكنه أن يحقق استقلاله الذاتي إلا في ظل عقيدته والتي هي منبع حريته ومصدر عزته وكرامته.
على أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حينما ربى رجل العقيدة وفق هداية السماء كان يعرف نتائج هذه التربية الإيمانية، التي تفسر سر الفتوح الإسلامية العظيمة التي امتدت خلال تسع وثمانين سنة (من 11 هـ إلى 100 هـ) من الصين شرقا إلى فرنسا غربا، ومن سيبيريا شمالا إلى المحيط جنوبا.
إن العقيدة توحد ولا تفرق، تجمع ولا تشتت، تؤلف ولا تمزق. فالتفرق والتمزق والضياع والشتات لا يحصل إلا في غياب ظلال العقيدة الصحيحة السليمة. وحين غاب رجل العقيدة والتربية الإيمانية أصبحت الأمة اليوم حقيرة ذليلة، متصفة بالمهانة والمسكنة، فلحقها بذلك داء الأمم السابقة حب الدنيا وكراهية الموت، فسلط عليها من يذيقها مرارة الاستبداد والطغيان والظلم والجور، ولا يرقب فيها إلا ولا ذمة.
هذه العقيدة الخالصة تبتدئ من مقصد أسمى، وهو أعلى هرمها لا إله إلا الله، معرفة الله حقا وصدقا، إلى أدناها إماطة الأذى عن الطريق، بمعنى معرفة الله بصفاته وأسمائه الحسنى، معرفة جلاله ومهابته وقدرته وسطوته وقوته وعلمه ورأفته ورحمته وعفوه وكرمه، فمعرفته جل جلاله تورث خشيته، فتثمر هذه المعرفة الإيمانية العمل الصالح، ومن العمل الصالح عدم إذاية المسلمين وكافة الناس في طرقاتهم، وبين الأعلى والأدنى مراتب وشعب.
فبهذا تكون لمعرفة الله جل جلاله إشعاعا على كافة الأعمال الظاهرة والباطنة، وأعني بها الأعمال القلبية، وبحسب تلك المعرفة يشع نور لا إله إلا الله في القلب أو يخفت، والناس هنا طبقات ومنازل. وبهذا لا يمكن أن تتحقق العبودية المطلقة لله تعالى دون معرفته جل جلاله، وهذا آكد المقاصد العقدية.
إذن فأول مبدأ راسخ من غزوة بدر، هو ترسيخ العقيدة السليمة الصحيحة، التي تكون لها ثمار طيبة في واقع الفرد والمجتمع والأمة، وهي أساس البناء، ومنها تنبجس كافة المقومات الوجودية والحضارية.
والغريب أن الكيان الصهيوني اليوم، ينطلق من عقيدة، (بالرغم من كونه خرابا وإلحادا وفسقا وفجورا)، راسخة لديه، ثابتة عنده لا تتخلف، عليها ينشأ الجيل اليهودي الذي يستحمر ويستعمر العالم، وهي مملوءة بالكراهية والحقد لكافة الشعوب.
لكن أين نحن اليوم من روح وجوهر العقيدة الإسلامية الصحيحة، ألا نرى اليوم المسلمين عموما، والعرب خاصة قد فرطوا في عقيدتهم، فلا نرى إلا القشور وطغيان الشكلية والمظاهر، فهم بذلك في سباتهم العميق، يحلمون بسلام شامل وعادل عندما أشربوا في قلوبهم الذلة والمهانة والجبن، فلا يستأسدون إلا على أنفسهم، ولا يستوحشون إلا على شعوبهم، حتى صدق عليهم المثل العربي: (أسد علي وفي الحرب نعامة).
مبدأ ومقصد الشورى
إن الناظر في حياته صلى الله عليه وسلم يجدها حياة حافلة بالشورى، تطبيقا لأمر الله تعالى "وشاورهم في الأمر" [آل عمران:159] فقد استشار صلى الله عليه وسلم عند غزوة بدر الناس في الخروج إلى قريش حين بلغه خبرها. وقبيل أحد استشار صلى الله عليه وسلم فأخذ برأي الأكثرية، ويوم الأحزاب أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق ؛ ويوم الحديبية أشارت عليه أم سلمة زوجه صلى الله عليه وسلم، فأخذ برأيها.
وهكذا نجده صلى الله عليه وسلم يعمم الشورى في المجتمع، ومقصده صلى الله عليه وسلم من ذلك أن يعلمهم أنه بالرغم من كونه رسولا يوحى إليه، فإنه في المواطن الصعبة والحرجة، لا يقدم على قرار إلا واتخذ فيه الشورى مشكاته، ومضى على ما اتفق عليه، وهو في الوقت نفسه يقصد تدريبهم وتعليمهم الالتزام بالشورى في كافة شؤونهم، وسائر أحوالهم.
وعلى هذا المهيع سار صحابته الكرام رضي الله عنهم، حيث كانوا لا يمضون أمرا إلا بعد الاستشارة، وهذا خلق رفيع في تسيير دواليب أمور الحكم، ولم يجد الصحابة في أنفسهم غضاضة ولا حرجا في استشارة النساء، فكانت المرأة أيضا لها رأيها داخل المجتمع الإسلامي.
روى ابن أبي خيثمة في (التاريخ الكبير) عن يُوسُف بن الماجشون، قَالَ: قَالَ لي ابن شِهَاب ولأخٍ لي، ولابن عمٍّ لي، ونحن نسأله عَنِ العلم: لا تحقِّروا أنفسَكم لحداثة أسنانكم، فإن عُمَر كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الشباب فاستشارهم يبتغي حدَّة عقولهم."(4)
ووقع عند ابن الجوزي عن يوسف بن الماجشون قال لي ابن شهاب ولأخ لي، ولابن عم لي، ونحن صبيان: لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث (أي الشباب) فاستشارهم لحدة عقولهم، وكان يشاور النساء."(5)
إن مشاورة النساء خلق رفيع، وهو عنوان الرقي والتحضر، ينبئ عن التقدير النبوي والصحابة لمشاركة المرأة المسلمة في أمور وقضايا المجتمع، لاتخاذ القرار الصائب، والمبادرة الناجعة. وفيه –أيضا- تنبيه لأولي الأمر ليستشيروا المرأة ويأخذوا برأيها إن ظهر صوابه. وإذا كانت المرأة من حقها أن تفتي في الشرع، وتجتهد مثل الرجل إذا بلغت مرتبة الاجتهاد بشروطه، فإنه يجب إشراكها -من غير منازع- في المجالس الاستشارية، سواء كانت حكومية أو برلمانية أو جمعوية أو حزبية أو غير ذلك.
قال الماوردي في (أدب القاضي): "إن كل من صح أن يفتي في الشرع، جاز أن يشاوره القاضي في الأحكام، فيجوز أن يشاور الأعمى والعبد والمرأة"(6)
إن تطبيق الشورى في المجتمع دليل على عدالة اجتماعية متبصرة، وحوار اجتماعي بناء، يهدف إلى تأسيس مجتمع مدني ينطلق أساسا من مرجعية الشورى الإسلامية، أما انعدام الشورى فهو يعني أن يسود الاستبداد السياسي، والفساد والظلم الاجتماعي، وهذا يؤول أمره إلى تعطيل الحقوق، ويترتب عنه تخريب المجتمع وتفكيك وحدته. ولا جرم أن المجتمع الذي يفقد الشورى مجتمع محكوم عليه بالفشل والتلاشي والاضمحلال.
ومن ثمة ذهب المالكية إلى القول بوجوب الشورى وتعميمها في المجتمع، وأن الحاكم الذي لا يستشير وجب عزله، وفي بيان ذلك يقول ابن خويز منداد: "واجب على الولاة المشاورة فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين، ويشاورون الجيش فيما يتعلق بالحرب، ويشاورون الناس فيما يتعلق بمصالحهم، ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها"(7)
وقال ابن عطية الأندلسي: "الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه"(8)
وورد في صحيح البخاري "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها ... وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبابا، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل"(9)
وهكذا يتضح أن الشورى "فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم"(10)
ومن مقاصد الشورى ومراميها البعيدة، وأهدافها النبيلة ما قرره ابن العربي بقوله: "ففيها (أي الشورى) بركات، منها الإقدام على معلوم، ومنها تخليص الحق من احتمالات الخواطر، ومنها استخراج عقول الناس ومنها تأليف قلوبهم على العمل، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدر مرتين"(11)
وقال -أيضا- في كلمة جامعة: "الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب. ما تشاور قوم إلا هدوا."(12)
وفي الشورى علاج للمجتمع من أمراض الاستبداد والطغيان، والأنظمة الدكتاتورية التي تستبد بالأمور، ولا تفسح المجال لتداول الرأي وإبدائه، وفيها تحسيس للأمة بواجب إسداء النصح للحاكم ومراجعته. وما خربت الأمة الإسلامية إلا بغياب الشورى الحقيقية التي تقضي على النزعة الفردية والحكم الاستبدادي، ولو عمد الحاكم المستبد لتزويق وتنميق كيانه ودولته بمجالس نيابية لا تعبر عن روح الأمة ومقاصدها الكبرى، فهي لا تستشار وإنما تنفذ ما يملي عليه المستبد الغاشم.
والذي أريد التأكيد عليه أن قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" [الشورى:38] وقوله عز وجل: "وشاورهم في الأمر" [آل عمران:159] وردا عامين من غير تخصيص، مما يتطلب ويستدعي حمل العموم على عمومه حتى يثبت التخصيص، ولا تخصيص. وينبني على هذا المسلك الأصولي أن الشورى تشمل جميع المجالات، وتدخل كافة الأصعدة، وهذا ما صنعه الصحابة الكرام، وعلى رأسهم سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين.
مبدأ ومقصد العدالة
جاء في سيرة ابن هشام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح (القدح: السهم) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بني عدي بن النجار ... وهو مستنتل من الصف قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف (مستنتل:متقدم، مستنصل:خارج) ... فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل. قال: فأقدني (أي اقتص لي من نفسك). فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد. قال: فاعتنقه فقبل بطنه. فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير"(13)
هذا النص يعبر عن عدالة القيادة المتجسدة والمتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالقيادة التي تتمتع بالعدالة تجد مكانتها في القلوب فتحتلها، وفي النفوس فتستولي عليها، فما تفتأ تلهج بذكرها، وتنافح من أجلها، فتطيع أوامرها ولا تخالفها البتة.
أما القيادة التي يصدر منها الظلم والجور، فلا ترحم ضعيفا ولا عاجزا، ولا توقر كبيرا ولا صغيرا ولا شيخا، فتجلب بذلك سخط الرعية وغضبها، وسخط الله تعالى وانتقامه، لأن دعاء المظلوم عنده مستجاب.
أجل هل سمعنا أو قرأنا في التاريخ أن حاكما، أو قائدا، أو رئيسا، أو ملكا تجرأ عليه أحد رعاياه يطالبه بحقه، أو أن يستقيد منه مثل ما فعل سواد بن غزية رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أن الطالب لحقه يكون مصيره الهلاك المحقق، والإعدام المتيقن، أو السجن المؤبد.
على أن الإسلام قد جعل إقامة العدل واجبا دينيا، وفرضا اجتماعيا، يأثم المجتمع كله، إن هو عطل هذه الفريضة، أو حابى فيها صنفا على حساب صنف آخر، بل يقرر الإسلام مبدأ العدالة مع المخالف في الدين. قال تعالى (ولا يجرمنكم شنآ قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
وأوجب العدل بين القريب والبعيد، وبين الغني والفقير، وبين الشريف والوضيع، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" [النساء:124]
وأوجب العدل في المعاملات وفي الأحكام، قال عز وجل: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا " [النساء:58].
وأمر سبحانه وتعالى رسوله الكريم بالاستقامة ونبذ الهوى وإقامة العدل بين الناس، فقال عز من قائل: "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم" [الشورى:15].
وقد حمل الإسلام أتباعه مسؤولية ورعاية مبدأ العدالة، وحذرهم من كل ما من شأنه أن يهدم وينسف هذه القاعدة فقال عز وجل: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" [النحل:90] وأمر الله يقتضي الوجوب والامتثال، ومن ذا الذي يجرأ على مخالفة أمر الله تبارك وتعالى؟ إلا من كان جبارا عنيدا، أو كافرا عاصيا، أو مسلما فاسقا، أما المؤمن الحق، الذي تشرب قلبه الإيمان، ورسخ حب الله ورسوله ودينه في قلبه، فمثل هذا أسرع من الضوء في امتثال أمر الله تعالى.
وقد جمع سبحانه في هذه الآية بين الأمر بالعدل والإحسان وما يترتب عنهما من الصلاح، وبين ضد ذلك كله، وهو الفحشاء والمنكر والبغي. ومعنى ذلك أن كل خير وصلاح واستقامة نابع من العدل، وكل شر وضر وفساد متفرع عن الظلم وناتج عنه.
فالعدل مبدأ كوني أقام الله تعالى عليه الوجود، من ثمة حرم ضده وهو الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما. جاء في الحديث القدسي قوله جل شأنه عن الظلم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا"(14)
على أن الشأن في الظلم، أن يقف ضد الرقي الحضاري والتقدم على كافة الأصعدة والمستويات، وإذا ما تفاحش أمره أفضى لا محالة إلى التلاشي والاضمحلال والخراب، وقد أكد ابن خلدون رحمه الله هذه الحقيقة، وقررها، مفصلا القول فيها في فصل نفيس من مقدمته (فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران)(15)
وهذه حقيقة استلهمها هذا العلامة الجليل من تأملاته ورصده للظواهر الاجتماعية والكونية معا، وهي التي تنطق بها العشرات من الآيات القرآنية، وليس هذا مجال لتفصيل القول فيها.
وعلى أي حال فقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترسيخ مبدأ العدالة في نفوس أصحابه، فحكموا الناس بالعدل والنصفة، وأبعدوهم عن الجور والظلم والطغيان، تحقيقا لقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء:58]
وفي هذا السياق أذكر واقعتين:
إحداهما: المرأة المخزومية التي سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قيل في شأنها، فعن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"(16)
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله فوائد كثيرة لهذا الحديث منها: "ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه، ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر، والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه ..."(17)
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره"(18)
والثانية: قصة جبلة ابن الأيهم الأمير الغساني الذي كان يجر رداءه في الحج بعد ما أسلم، زمن سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال له غلام من فزارة: ارفع إزارك. فأخذته العزة بالإثم فلطم الغلام. فرفع هذا قضيته لأمير المؤمنين فأرسل إليه فأتي بجبلة فقال له عمر رضي الله عنه: دعه يلطمك كما لطمته إلا أن يعفو عنك.
فكبر على جبلة أن يقبل هذا الحكم الإسلامي وقال: لكن أنا أمير وهو سوقه." فأجابه عمر بكل برودة دم : "إن الإسلام قد سوى بينكما."
وقد أمهله عمر رضي الله عنه، فلما كان الغد هرب جبلة إلى الشام فتنصر فبلغ ذلك عمر فلم يبال به. وقد أصبح جبلة معروفا في التاريخ بمن نصرته اللطمة.
لقد تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدوية، يتغنى بها التاريخ لأولي الألباب، ويرددها المحرومون من العدالة، ويجد فيها الضعفاء ملجأهم وحماهم لكي يقاوموا الظلم والطغيان الذين يسودان البشرية اليوم. إن الحاكم الذي يفرق بين الشريف والوضيع، وبين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، يكون بمقتضى الحديث خارجا عن ملتنا، ضالا مضلا، لم يهتد بشريعتنا، ولم تجد الشريعة بعد سبيلها إلى قلبه وفكره ووجدانه وعقله.
ثم إنه بحسب عدالة القيادة أو ظلمها، يكون أتباعها وحاشيتها والمقربون منها في العدالة أو الظلم، فهم خدامها، والمدافعون عنها، يستقون منها أفكارهم وتوجيهاتهم، ويتخلقون بأخلاقها في العدالة أو الظلم، لأجل ذلك قال عز وجل: "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين" [القصص:8] وقال سبحانه وتعالى: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ" [القصص:39] لأنهم كانوا أعوانا على الظلم والجور، وهم آلة فرعون ووسيلته التي يحقق بها الفساد، وينشر بها الظلم، ويشيع بها الطغيان، ويرسخ بها الاستبداد. وهي نفس القصة تتكرر في عالم البشرية، حينما تشيح بوجهها عن هدي النبوة، وتتنكب عن طريق القرآن، فتجحد قيمه وهديه ونوره، والعالم الإسلامي اليوم، وخاصة العربي، منه يعيش فرعونية لا مثيل لها، لا تكتفي باستعمال الحاشية والجنود، وإنما توظف سدنتها من بعض العلماء المرتزقة، الذين يزينون للفراعنة أعمالهم، فيضلونهم عن سواء السبيل.
والمجتمع الذي يفقد العدل يفقد شرطا أساسيا في النصر والتمكين وإقامة العمران والإصلاح والصلاح، لذلك نقل أبو القاسم ابن رضوان المالقي (783هـ) في كتابه (الشهب اللامعة في السياسة النافعة) عن ابن سلام قوله: "العدل قوام الدنيا والدين، وسبب صلاح المخلوقين، به قامت السموات والأرضون، وبه تألفت القلوب، والتأمت الشعوب، وظهر الصلاح، واتصلت أسباب النجاح، وانعقدت عرى اليمن والفلاح..."(19)
ونقل عن أبي منصور في (المبهج) قوله: "الأوطان حيث يعدل السلطان، وإذا نطق لسان العدل في دار الإمارة، فلها البشرى بالعز والعمارة."(20)
ومع الأسف الشديد فإن بلدان المسلمين تعاني من الظلم الكثير، الذي كان بلا ريب السبب في تخلفنا، وانحطاط مكانتنا ومنزلتنا بين الأمم، فبدل أن نكون منارة يهتدى بها في هذا السبيل، صرنا إلى عكس ذلك.
على أن عدالة الله تعالى لا تحابي أحدا، ولا تفرق البتة بين المسلم وغيره، فإذا ظلم المسلم غيره كان بميزان عدل الله ظالما، وإذا عدل غير المسلم كان عادلا، وهنا تحضرني كلمة ذهبية جادت بها قريحة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام ... فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة"(21)
وقضية العدل ليست مرتبطة بالمسلمين فكأن غيرهم لا يمكن أن يصدر منه ذلك، وإنما هي مبدأ قبل كل شيء، وأصل من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، لكن بالنسبة إلى المسلم الحق يعني إقامة العدل مع جميع الناس وإن اختلفوا معه في الدين، أو الوطن، أو العرق والجنس، أو الطائفة والمذهب. فمثلا الغرب أسس عدالة اجتماعية لا يمكن إنكارها وبخاصة في مجتمعاته ودوله، لكن سرعان ما يتلكأ لهذا المبدأ حينما يتعلق الأمر بالدول الإسلامية أو الإفريقية فيبيح لنفسه ما يمنعه على غيره، تارة باسم الإجماع الدولي ومخالفة الإرادة الدولية، وتارة باسم الإنسانية، وتارة بحق الفيتو، وتارة بالتخويف كما هو الشأن في قضايا الإرهاب، حيث تنتهك حقوق بعض الدول أو الأفراد، مثل ما يقع في فلسطين والعراق وأفغانستان وسوريا واليمن، إلى غير ذلك مما تعرفون وتسمعون به في وسائل الإعلام، بل أصبحت مؤسسات الغرب الرسمية متواطئة في نشر الظلم والفساد واستعباد الشعوب، وما ذلك إلا لكون مبدأ العدل ركب عندهم تركيبا تجزيئيا تبعيضيا، لا مفهوما كليا عالميا، بخلاف التصور الإسلامي، فإن الظلم ظلم سواء كان مع المسلم أو مع غيره، وكذلك العدل، فهي مفاهيم كلية، لا تقبل التبعيض والتجزيء.
ومع ذلك فقد وجد في التاريخ من هؤلاء من اتصف بالعدل والدفاع عن حقوق الإنسان دفاعا مستميتا، وهنا تحضرني قصة ذلك الرعيل الأول الذي هاجر إلى الحبشة. جاء في السيرة النبوية لابن هشام:"فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام."(22)
ولهذا نص غير واحد من العلماء على أن الحاكم أو السلطان الظالم ينبغي عزله، والوقوف في وجهه، قال الإمام الغزالي: "السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل...وهو على التحقيق ليس بسلطان."(23)
مبدأ ومقصد مراجعة الحاكم
الحاكم في الإسلام ليس شخصا مقدسا، أو ملهما، أو قوله دائما رشيدا لا يعتريه النقص، أو لا تأتي عليه العوارض البشرية من الضعف والنسيان وسوء الفهم، أو التسرع في اتخاذ قرارات غير صائبة، وإنما هو -مهما كان حكيما، أو محنكا سياسيا، أو خبيرا عسكريا- في حاجة إلى من ينبهه ويرشده ويسدده. فلأجل ذلك كان من الحكمة والصواب مراجعته في كل ما يصدر عنه، إذا جنح فيها إلى غير الصواب أو الحق، إذ تصرفاته منوطة بالمصلحة، فإذا حادت عن تحقيق المصلحة أصبحت ملغاة.
وقد وجدنا أن مبدأ مراجعة الحاكم مما يستفاد من غزوة بدر، وهو من الدروس ذات أبعاد مقاصدية جليلة ونافعة. قال ابن هشام: "فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادرهم إِلَى المَاء، حَتَّى إذَا جَاءَ أدنى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً،..."(24)
فالرسول صلى الله عليه وسلم، المسدد بالوحي، والمشمول بالعصمة قولا وفعلا، على جلالة قدره، وعظيم منزلته، وسمو مكانته، ورفعة شرفه واصطفائه استمع إلى الحباب بن المنذر رضي الله عنه حين راجعه في المكان الذي اختاره من ماء بدر، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى رأيه، إذ ظهرت فيه الخبرة العسكرية، واستراتيجية حرب المياه، فزكى رأيه بقوله: "لقد أشرت بالرأي".
ولا يخفى أن في هذا تعليما للأمة لتراجع حكامها وولاة أمورها فيما يقدمون عليه من الأعمال. وهو قصد لمحاربة النزعة الفردية والحكم الجبري الفرعوني الذي يستند إلى مبدأ خبيث "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" [غافر:29]
وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم بهذا المبدأ، وهو مراجعة الحاكم فيما يقدم عليه في مواطن كثيرة، سواء مع النبي صلى الله عليه عليه وسلم، أو فيما بينهم، وكانوا حين يلتبس عليهم الأمر يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ليفرقوا بين الاجتهاد والرأي المجرد والوحي، كما صنع الحباب رضي الله عنه، وكما فعلت أيضا بريرة رضي الله عنها، فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبَّاسٍ: "يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ رَاجَعْتِهِ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ" قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ."(25)
وقد استمرت مراجعة الحكام في جيل الصحابة الكرام، حيث لا يجدون في أنفسهم غضاضة أو حرجا أن يراجعهم أي أحد من عامة المجتمع، مثل المرأة التي راجعت سيدنا عمر رضي الله عنه حينما عزم على تحديد المهور، جاء في تفسير القرطبي المعروف بـ(الجامع لأحكام القرآن): "وَخَطَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا لَا تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةٍ. فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَحْرِمُنَا! أَلَيْسَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَصَابَتِ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ. وَفِي رِوَايَةٍ فَأَطْرَقَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْكَ يَا عُمَرُ!. وَفِي أُخْرَى: امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ. وَتَرَكَ الْإِنْكَارَ."(26)
إن الأمة التي لا تستطيع ولا تملك مراجعة حكامها وولاة أمورها، فيما يقولون ويعملون ويفكرون، وفيما هم عليه مقدمون مما ليس في صالحها ومستقبلها، أمة ميتة مشلولة مرعوبة، فأنى لها أن تبني مجدها وحضارتها ومستقبلها.
وإذا كان مبدأ المراجعة مسلما، فإنه مما ينبني عليه مراجعة كل تراثنا في الفقه السياسي، وإعادة بنائه وفق مستجدات العصر وتطوره، ولا جرم أننا في حاجة إلى بنائه بناء مؤسساتيا يجعل مصلحة الأمة وفق مرجعيتها الإسلامية السامية هي العليا، فالأمة ضاقت ذرعا بالنزعة الفردية والجبرية الممقوتة في الحكم، وهي في معظمها نوع من التأليه السياسي للحاكم، مجسدة في سلوك فرعوني، متمسحا بالدين ومتاجرا به.
مبدأ ومقصد تعميم التعليم
الأمة الإسلامية أمة العلم، فهو روح وجودها، وسر تقدمها، وبه تتقرب إلى باريها عز وجل، فمن ثمة كان من روائع غزوة بدر استثماره صلى الله عليه وسلم للطاقات المتعلمة والعالمة من أجل تعليم أبناء المسلمين، ويكون عملها ذلك فداء لها من الأسر. قال المباركفوري في (الرحيق المختوم): "واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء."(27)
وهذا مبدأ مهم في حياة الأمة الإسلامية، فهي أمة العلم والتعلم، وأمة القلم والفكر، لأجل ذلك كان أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق..." [العلق:1] وفي ذلك التفاتة وتنبيه إلى أن القلم هو مفتاح الحضارة، وسبب الرقي وسر التقدم، فبه ترتقي الأمة في مدارج العمران. ولم يقتصر التعليم آنئذ على الرجال دون النساء، وإنما كان الرجال والنساء على حد سواء في أخذهن بزمام التعليم وتفانيهن في ذلك، فقد علمت الشفاء بنت عبد الله أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.(28)
والقصد من إشاعة التعليم هو أن تكون الأمة موثوقة الصلة بالله تعالى، حافظة لمصادرها، عزيزة قوية، فلا يمكن للأمة الإسلامية أن تنشد العزة والرقي وعمارة الأرض المطلوبة شرعا، من غير أن تكون متفوقة علميا وتقنيا وأخلاقيا.
ولا جرم أن الأمة لا يمكن أن تبني منظومتها التعليمية، ما لم تكن لها إرادة حرة ومستقلة، تنطلق في ذلك من قيمها الوجودية، ومستحضرة احتياجاتها ومتطلباتها الواقعية والحضارية، تبدأ في ذلك في تشكيل بناء الإنسان، وفق ثوابت الأمة ومرجعيتها الإسلامية العليا، ثم تتدرج بعدها في بناء العمران، فبناء الإنسان مقدم على بناء العمران، ولا يستقيم العمران ما لم يستقم الإنسان، ولا يستقيم الإنسان إلا بالرعاية والتربية الإسلامية.
وهنا نؤكد على قضية ذي بال، أن بناء المنظومة التعليمية مما لا يقبل الاستيراد، أو استنساخ النماذج الوافدة، أو قبولها تحت أي إكراه، وإنما هذه المنظومة تبنى بناء ذاتيا من الأمة نفسها، من علمائها وخبرائها، الغيورين عليها وعلى مستقبلها، المقدرين لمرجعيتها وتاريخها وحضارتها.
إن قبول أي ضغط أو إكراه لاستيراد النماذج التعليمية الوافدة، إنما ذلك بمثابة استعمار خطير جدا، أخطر من الاستعمار العسكري، لأنها تشكل عقول أبناء الأمة وفق النموذج الوافد، فتصبح رهينة لمقولاته ونموذجه الحضاري، ورهينة أيضا لرؤيته المعرفية للكون والحياة والإنسان، وهذا طبعا ما لا يستقيم مع مقاصد مرجعيتنا العليا في بناء الإنسان الذي يمتح من عقيدته الإسلامية، والتي هي منطلق التفكير والتجديد والبناء.
ونحن حينما نؤكد على ضرورة استقلالية نموذجنا التعليمي، وأنه نابع من رؤيتنا المعرفية ومرجعيتنا الإسلامية العليا، فإننا لا نلغي في الوقت ذاته الاستفادة من الأساليب والخبرة البشرية المفيدة والجيدة، وخاصة تلك التي صقلتها التجربة وتراكمت عندها الخبرة، حتى صارت كسبا إنسانيا، متوافقة مع الفطرة الإنسانية السليمة.
ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أساليب تعليمية راقية جدا، يحسن بكل مسلم، وخاصة رجل التعليم والتربية أن يقتبس من نوره، ويستضيء بمشكاته، ويهتدي بهديه صلى الله عليه وسلم فيها. وقد أحسن العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله حين جمعها في مؤلف ماتع ونفيس بعنوان (الرسول المعلم وأساليبه في التعليم)، وقد عد منها أربعين أسلوبا، أذكر منها:
• تعليمه صلى الله عليه وسلم بالسيرة الحسنة والخلق العظيم.
• رعايته صلى الله عليه وسلم في التعليم الاعتدال والبعد عن الإملال.
• رعايته صلى الله عليه وسلم الفروق الفردية في المتعلمين.
• تعليمه صلى الله عليه وسلم بالحوار والمساءلة.
• تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمقايسة والتمثيل.
• تعليمه صلى الله عليه وسلم بالتشبيه وضرب الأمثال.
• تكراره صلى الله عليه وسلم القول ثلاثا لتأكيد مضمونه.
• إبهامه صلى الله عليه وسلم الشيء لحمل السامع على الاستكشاف عنه للترغيب فيه أو الزجر عنه.
• أمره صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بتعلم اللغة السريانية.(29)
مبدأ ومقصد اللجوء إلى الله تعالى والتضرع إليه بالدعاء
المسلم مهما اتخذ من التدابير والإعداد النفسي والمادي لأي عمل، ولا سيما الذي من قبيل الحرب التي تكرهها النفس البشرية (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، فإنه لا يكمل عمله، ولا يبلغ مناه إلا بمناجاة الله تعالى، والتضرع إليه، وطلب المدد والعون والنصر والتمكين منه، فهو سبحانه الناصر الحقيقي، وإليه يرجع الأمر كله.
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر. ذكر ابن هشام أنه "بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ، فَكَانَ فِيهِ...فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أي قريش) تَصَوَّبَ مِنْ الْعَقَنْقَلِ- وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي- قَالَ: اللَّهمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهمّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتنِي، اللَّهمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ."(30)
وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لأمته، حين تشتد عليها الخطوب، وتخنقها الأزمات، ويحيط بها الأعداء من كل الجهات، ويتربصون بها الدوائر، فإنها لا منجى من ذلك سوى الإقبال على الله بالدعاء، وصدق التوجه إليه، والإنابة إليه سبحانه وتعالى.
وقد صور القرآن مشهد غزوة بدر بدقة، ومدد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة الكرام، وهم يقاتلون في صفهم أعداء الله تعالى، ولكن في الوقت ذاته يربيهم، ويربي الأجيال من بعدهم إلى قيام الساعة أن النصر من عند الله، وبتوفيق منه سبحانه، مهما اتخذ الإنسان من الأسباب والتدابير والإعدادات، قال جل جلاله: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ"[آل عمران:123،128]
أجل إن مقصد الدعاء شريف في ذاته، عظيم نفعه، يشعر المرء معه دائما بالافتقار إلى الله سبحانه، وأنه من العبادات الجليلة القدر، بل إن الدعاء كما ورد في الحديث هو العبادة، وهو أيضا مخها. عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ "، ثُمَّ قَرَأَ: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي"(32) [غافر: 60]، وجاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ"(32)
هذه بعض المبادئ الأصيلة والمقاصد النبيلة التي استخلصتها من قراءتي لغزوة بدر، وهي بتوفيق الله تعالى من الأهمية بمكان، راجيا من الله جل جلاله وعم نواله أن يجعلها نافعة وخالصة لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين
----------
1- مقدمة ابن خلدون 1/282، بتحقيق عبد الواحد وافي.
2- موضع بناحية اليمن.
3- سيرة ابن هشام 1/614،615.
4- التاريخ الكبير 1/136.
5- تاريخ عمر بن الخطاب 111.
6- أدب القاضي 1/264.
7- التحرير والتنوير 4/148.
<p style="direction:
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول