عيد الأضحى في تاريخ الإسلام - عيد الأضحى

عيد الأضحى في تاريخ الإسلام

د. حسن إبراهيم حسن


سأتناول في حديثي هذا الكلام على عيد الأضحى المُبارك فأبيِّن كيف كان المسلمون يَحتفلون به احتفالاً دينياً رائعاً .
إنَّ الاحتفال بعيد الأضحى في الإسلام ليُصوِّر لنا البيئة العربية في الجاهلية والإسلام أصدق تصوير، فقد رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أنَّ الله يأمره بأن يقدم ابنه إسماعيل قرباناً له فيذبحه، فهمَّ إبراهيم بتلبية نداء ربه، وسار هو وابنه في الصباح، قال الله تعالى في كتابه العزيز :[فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107) ]. {الصَّفات}. .
ولما همّ إبراهيم بذبح ولده، وشدَّ كِتافه، وتلَّ جبينه ليقتله، نودي أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا، وافتدي الغلام بكبش عظيم وجده على مقربة منه، فذبحه بدلاً من ابنه.
كذلك أثر عن عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لئن وُلد لي عشرة أبناء ثم شبوا وأصبحوا بحيث يمنعونني، لأنحرن أحدهم عند الكعبة .
فلما حقق الله سبحانه وتعالى أُمنيته أراد أن يَفي بنذره فجمع أبناءه عند هٌبَل: صنم قريش في الكعبة، وكان من عادات العرب في الجاهلية أنَّه إذا أراد أحدهم قضاء أمر لجأ إلى القداح فضربها، فإن خرج قدح بنعم، مضى إلى غايته، وإن خرج بلا، عدل عن المضي فيه، سار عبد المطلب مع بنيه العشرة إلى الكعبة. وطلب إلى صاحب القداح أن يضرب عليهم، وأعطى كل واحد منهم قدحاً فيه اسمه، ثم ضرب صاحبُ الأقداح، فخرج قدح أصغر أولاده عبد الله، بنعم، وأراد عبد المطلب أن يضحي بابنه عبد الله على كره منه، إذ كان يؤثره على سائر أبنائه، فحالت قريش بينه وبين ذلك، وأشاروا عليه بأن يسير إلى عرَّافة بخيبر، فإن أمرته بذبحه فعل، وإن أشارت بغير ذلك عمل بمشورتها. فلما قصَّ عبد المطلب على العرَّافة خبر ابنه قالت له: كم الدية فيكم؟ قال: عشر من الإبل، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشراً من الإبل ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فعاد عبد المطلب إلى مكة ولجأ إلى صاحب الأقداح، فكان كلما ضرب بقدح خرج على عبد الله، فزاد عشراً من الإبل، فخرج القدح على عبد الله أيضاً، وأخذ عبد المطلب يزيد الفداء عشراً فعشراً حتى بلغ المائة، فخرج القدح على الإبل، فنُحِرت ثم تركت لا يمُنع عنها إنسان.
وهكذا افتدى عبد المطلب ولده عبد الله.
فلما ظهر الإسلام أقر الرسول عادة تقديم الذبائح تقرباً إلى الله بإطعام الفقير والمحروم. ولما خرج عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة للهجرة للعُمرة، وهي زيارة البيت الحرام في غير مَوسم الحج، ووقف القُرشيون على مقربة من مكة ليمنعوه من دخولها، وانتصر عليهم وعقد معهم صلح الحُديبية على أن يَأتي في العام التالي ويدخل مع أصحابه مكة بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام، لما تم هذا الصلح نحر الرسول بَدَنة ودعا حالقاً فحلقه، فلما رأى المسلمون ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً.
وقد تجلَّت هذه التقاليد العربيَّة في الإسلام؛ ففي اليوم التاسع من شهر ذي الحجَّة يقف المسلمون وقفة عرفات، وفي اليوم العاشر من هذا الشهر يحتفلون بعيد الأضحى، فينحرون الذبائح تقرباً إلى الله، فيطعمون البائس والمحروم، ويصبح هذا اليوم من أيام البر بالفقراء والعطف على المعوزين.
وقد تجلت روعة عيد الأضحى في أبهى صورها في عهد الأُمويين والعباسيين ثم في عهد الفاطميين، ففي عهد الدولة العباسيَّة زاد النفوذ الفارسي حتى شمل كل مظاهر الحياة، واحتُفل بالأعياد احتفالاً رائعاً، واتخذ رجال البلاط العباسي العادات الفارسيَّة القديمة، وكانت مظاهر الإسلام تتجلى في الاحتفال بعيد الأضحى المبارك في الأمصار الإسلامية، وعلى الأخص في بغداد وبيت المقدس ودمشق.
وكان الخُلفاء العباسيون يؤمون الناس، ويخطبون خطبة العيد، ويتجلى اهتمام هؤلاء الخلفاء بالاحتفال بعيد الأضحى من هذه الخطبة الطويلة التي ألقاها الخليفة الطائع بالله في عيد الأضحى من سنة 363هـ، وهي نموذج رائع للخطب التي كانت - ولا تزال - تُلقى في هذا اليوم المبارك، ومما جاء فيها:
>الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر متقرِّباً إليه، ومعتمداً عليه، ومتوسلاً بأكرم الخلائق لديه، الذي صيَّرني إماماً منصوصاً عليه، ووهب لي أحسن الطاعة فيما فوّضه إليّ من الخلافة على الأمة، الله أكبر الله أكبر مُقراً بجميل آلائه فيما أسنده إليّ من حفظ الأمم وأموالها وذراريها، وقمعَ لي الأعداء في حضرها وبواديها، وجعلني خير مستخلف على الأرض ومن فيها... فتقربوا إلى الله في هذا اليوم العظيم بالذبائح فإنها من تقوى القلوب<.
على أنَّ الفاطميين لم يقتصروا في الاحتفال بعيد الأضحى على الركوب لأداء صلاة العيد وإمامة الناس في الصلاة بل حرصوا على إبراز أهم مظهر للعيد، ألا وهو نحر الأضاحي، فكان الخليفة بعد أن يفرغ من صلاة العيد يركب إلى المذبح متشحاً بالثياب الحمر، ويشترك بنفسه في إجراءات النحر، حيث يكون الوزير وقاضي القضاة، والأستاذون وغيرهم من رجال الدولة في انتظار وصوله.
وكان خروج الخليفة على هذا النحو من القصر إلى دار المنحر من أروع المظاهر الدينية التي جعلتها الخلافة الفاطمية من سننها.
وكان يُعد في المنحر برسم الأضحية واحد وثلاثون رأساً ما بين أبعرة ونوق أمام مصطبة يعلوها الخليفة وحاشيته، فرشت حافتها بأغطية حمر، ثم تقدم الأضاحي إلى الخليفة واحدة بعد أخرى، ويذبحها بيده حتى يأتي عليها جميعاً؛ وكلما نحر الخليفة واحدة جهر المؤذن بالتكبير، وفي اليوم الثاني كان الخليفة يركب إلى المنحر أيضاً ويذبح بيده سبعة وعشرين أضحية. كما كان يذبح في اليوم الثالث ثلاثة وعشرين.
وقد وصف لنا القلقشندي في كتابه: >صبح الأعشى في صناعة الإنشا< ما كان يصنع بلحم أو ذبيحة، فقال: >إن لحمها كان يُقَدَّد  وتعمل منه شرائحُ ترسل إلى والي اليمن فيوزعها على من هناك من الشيعة قطعاً صغيرة تتراوح ما بين نصف درهم وربع درهم<. >أما لحوم سائر الأضاحي فكان قاضي القضاة يوزعها على أرباب الرسوم، وعلى طلبة دار العلم في أطباق خاصة للتبرك<.
وفي قاعة الذهب بالقصر الفاطمي كان يقام في يوم عيد الأضحى سماط كبير يحضره الخليفة والوزير وكبار رجال الدولة، ويُدعَى إليه كثير من أفراد الشعب، على النحو الذي كان متبعاً عند الاحتفال بعيد الفطر.
وهكذا جرى الخلفاء الفاطميون على سنة نحر الأضاحي بأنفسهم، وتفريق لحومها بين رجال الدولة على حسب مراتبهم، وكان عدد ما ينحر منها يبلغ بضعة آلاف من مُختلف الأصناف، هذا عدا ما كان يذبحه الخليفة بنفسه بدار النحر، حتى لقد بلغ مقدار ما كان ينفق على ثمن الأضاحي ألفي دينار.
ومن السنن التي سارَ عليها الخلفاء الفاطميون، أن تكتب بشائر إلى سائر الولايات التابعة لهم بركوب الولاة في عيد النحر نيابة عن الخليفة.
يدلُّ على ذلك ما كتبه ابن مُنجب الصيرفي الملقب بتاج الرسالة في سنة 536هـ: إذ قال: >أما بعد، فالحمد لله الذي رفع منار الشرع، وحفظ نظامه، ونشر راية هذا الدين وأوجب إعظامه، وأطلع بخلافة أمير المؤمنين كواكب سعوده، وأظهر للمُؤالف والمُخالف عزَّة أحزابه وقوة جنوده، وجعل فرعه سامياً نامياً، وأصله ثابتاً راسخاً، وشرَّفه على الأديان بأسرها، وكان لعُراها قاصماً ولأحكامها ناسخاً، يحمده أمير المؤمنين أن ألزم طاعته الخليقة، وجعل كراماته الأسباب الجديرة بالإمارة الخليقة ؛ ويرغب إليه في الصلاة على جده محمد الذي حاز الفخار أجمعه، وضمن الجنة لمن آمن به واتبع النور الذي أنزل معه، ورفعه إلى أعلى منزلة تخيَّر له منها المحل، وأرسله بالهدى ودين الحق فزهق الباطل وخمدت ناره واضمحل؛ صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب خير الأمة وإمامها، وحبر الملة وبدر تمامها، والموفي يومه في الطاعات على ماضي أمسه، ومن أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المُباهلة مقام نفسه، واختصه بأبعد غاية في سورة براءة، فنادى في الحج بأولها، ولم يكن غيره ينفذ نفاذه، ولا يسد مكانه، لأنَّه قال: لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي، عملاً في ذلك بما أمر الله به سبحانه، وعلى الأئمة من ذريته خلفاء الله في أرضه، والقائمين في سياسة خلقه بصريح الإيمان ومحضه والمحكمين من أمر الدين ما لا وجه لحله، ولا سبيل إلى نقضه؛ وسلم عليهم أجمعين سلاماً يَتصل دوامُه، ولا يُخشى انصرامه، ومجَّد وكرّم وشرّف وعظّم.
وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الأحد عيد النحر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة الذي تبلج فجره عن سيئات محصت، ونفوس من آثار الذنوب خلصت، ورحمة امتدت ظلالها وانتشرت، ومغفرة هنأت ونشرت. وكان من خبر هذا اليوم أن أمير المؤمنين برز لكافة من بحضرته من أوليائه متوجهاً لقضاء حق هذا العيد السعيد وأدائه، في عترة راسخة قواعدها متمكنة، وعساكر جمة تضيق عنها ظروف الأمكنة، ومواكب تتوالى كتوالي السيل، وتهاب هيبة مجيئه في الليل، بأسلحة تحسر لها الأبصار وتبرق، وترتاع الأفئدة منها وتفرق...
إلى أن وصل إلى المصلى قدام المحراب، وأدَّى الصلاة إذ لم يكن بينه وبين التقبيل حجاب، ثم علا المنبر فاستوى على ذروته، ثم هلَّل الله أكبر وأثنى على عظمته، وأحسن إلى الكافة بتبليغ موعظته، وتوجّه إلى ما أعدَّ من البُدْن فنحره تكميلاً لقُربته، وانتهى في ذلك إلى ما أمر الله عزَّ وجل، وعاد إلى قصوره المُكرَّمة ومنازله المُقدَّسة، قد رضي الله عملَه، وشكر فعلَه وتقبله، أعلمك أمير المؤمنين بذلك لتشكر الله على النعمة فيه، وتذيعه قبلك على الرسم مما تجاريه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى<.
وصفوة القول: أنَّ احتفال الخلفاء الفاطميين بالأعياد والمواسم الدينية كان يثير كثيراً من الروعة، كما أصبحت الأعياد في عهدهم مثاراً لبهجة رعاياهم المسلمين وسرورهم.
هكذا كان عيد الأضحى - ولا يزال - من أيام البر بالفقراء، تتجلَّى فيه تقاليد الإسلام السمحة، فتعم الخيرات وتطيب النفوس.

مجلة (لواء الإسلام) العدد الرابع، من السنة الثانية: ذي الحجة: 1367هـ=1948م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين