بينما
أنا في زيارة دعوية لإحدى الدول دعاني أحد إخواني في هذه البلدة إلى ليلة إيمانية
في بيته أحاضر فيها بعض الأحبة، وأنظر في وجوه الصالحين، ولا بأس في نهايتها من
عشاء نغذي به بطوننا بعد ما غذينا أرواحنا.
وحدث
أن انتهيت من محاضرتي -وكانت بفضل الله رقراقة موفَّقة- ثم إذ بمن يجلس عن يميني
يقول لي:
ما
أجمل كلماتك أخي خالد! غير أني لم أستطع أن
أكون معك فيها بقلبي وعقلي طوال الوقت..
فعقلي
لا يكف عن التفكير في كيفية تدبير طعام أولادي، وأجرة سكناهم التي لم يبق على
ميعادها إلا القليل.. فالأرواح أخي خالد تتمنى مثل هذه المجالس، لكن تأبى البطون إلا أن
تقطع عليها أمانيها..
وصاحب
العيال متعدد البطون، ولو كانت بطنا واحدة لغلبها بالصبر والصوم، لكنها بطون لا
بطن، وأرواح لا روح.
هزتني
والله كلماته، وأذهلتني عن كلماتي وبقية ليلتي. فالجائعون إذا تكلموا خشعت أصوات
من عداهم!
تذكرت
حينها سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما وجدوه يحمل طعاما إلى بيته أكثر مما كان
يحمل من ذي قبل، فسألوه:
لم
كل هذا الطعام يا سلمان؟ فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت!
أي
أن النفس لا تزال في قلق واضطراب وانشغال ما لم تحرز قوتها، وقوت أهلها..
وهذا
سلمان. بكيف بملايين ممن هم أقل دينا من سلمان؟!
لهف
نفسي على هؤلاء المتعففين الذين يخرجون إلى الناس باسمة وجوههم كسيرة قلوبهم، تعلن
عيونهم الشبع، وتطوي قلوبهم على الحاجة والقلة!
سيما
لو كانوا من أصحاب عزة النفس القديمة، الذين كانوا يعطون ولا يأخذون، ويهبون ولا
ينتظرون..
عن
مثل هؤلاء وأمثالهم فابحثوا يا أحبتي. فما قلَّب الله وجه الدنيا وحولها إلى حال
غير الحال إلا ليعلموا هم أن دوام الحال من المحال، ولنعلم نحن أن نمو المال ليس
بكثرة اكتنازه في بنوك المال، وإنما في إسعاد متعفف ذي عيال!
في
حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
ليس المسكين بالطواف عليكم ، فتطعمونه لقمة لقمة، إنما المسكين المتعفف الذي لا
يسأل الناس إلحافا "
وما
أكثر هؤلاء المتعففين، لكن ما أقل الملتفتين لهم! أدركوا كل متعفف، وأسرعوا
في ذلك قبل أن تكسرهم الحاجة.. فما رأيت أصعب على نفس
الكريم من موقف العوز!
وقديما
سئلت الأعرابية:
ما
الشرف؟ قالت: عُقَد المُنَى في أعناق الرجال.. قيل. وما الذي يؤذيكِ؟ قالت: وقوف الشريف
بباب الدنيء ثم لا يؤذن له!
وما
أكثر هؤلاء الشرفاء. لكن ما أقل الملتفتين إليهم!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول