أبو
العقلية الاستراتيجية.. عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
من
السهل أن نصفه كذلك بعد أن صار كذلك.. لكن المهم لنا أيضاً أن نتابعه وهو في طريقه إلى هذه المرتبة.. وقد وصفه رسول الله بالعبقري كما جاء في صحيح البخاري: (لم أر عبقرياً
يَفرِي فريه) يفري
فريه أي يأتي بالعجب المدهش في عمله..
أظن
أن أحد المفاتيح الحاسمة لهذه العقلية هو تركيب عبقري بين ثلاثة أمور:
1.
إيمانك
بالمبدأ والفكرة
2.
مراعاة
موازين القوى
3.
النتائج
المستقبلية
إدماج
إيماننا بمبادئنا ضمن موازين القوى القائمة ورؤية المستقبل..
يوم
صلح الحديبية لم يدرك سيدنا عمر وجه الحكمة والسياسة في إجراء المعاهدة المجحفة
للغاية بحقوق المسلمين..
الحجة
الأساسية التي حكمت تفكير عمر هي:
طالما
نحن الحق يجب أن نواجه ونقاتل بشكل مباشر معلن.. ولا مكان للمناورة والتفاوض
والتنازل عن أشياء مقابل أشياء..
يحكي
سيدنا عمر: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟
قال:
بلى
قلت:
ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟
قال:
بلى
قلت:
فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟
هذا
النمط في التفكير متأصل في سيدنا عمر من أيام الجاهلية.. حين كان مشركاً ووجد
زعماء قريش يتعاملون مع الرسول بالشد والجذب ويناورون.. لم يتفق مع هذه السياسة..
يومها
"خرج عمر متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال له: أين تعمد يا عمر ؟
قال: أريد أن أقتل محمداً قال: كيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمداً؟
فقال: ما أراك إلا قد صبوت".
يريد
أن ينفذ فكرته وما يراه صواباً بغض النظر عن موازين القوى والنتائج المستقبلية
المترتبة..
نضجت
هذه العبقرية بين يدي رسول الله وانضبطت الجرأة والجسارة من خلال رؤية موازين
القوى وإدماج المستقبل عند اتخاذ القرار..
توفي
النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الحادثة الثانية الثقيلة.. وهي مواجهة حركات الردة
التي اشتعلت في الجزيرة العربية..
نجد
هنا سيدنا عمر يراعي موازين القوى..
فكان
رأيه عدم مواجهة المرتدين، خاصة الذين هم على مقربة من المدينة.. وأن يتم تفاهم
صلح مع البعض وقتال البعض الآخر بالتدريج.. رغم أن عدد من البلدات المرتدة أخذت
تنكل بالمسلمين المتبقين في بلدتهم..
لا
نلمس في هذا الرأي أي أصداء لنمط التفكير القديم: "نحن على الحق والمرتدون
على الباطل.."
لكن
سيتعلم عمر بن الخطاب درساً آخر من سيدنا أبي بكر الذي كان يرى أن موازين القوى
الحقيقية كانت في صالح المسلمين لذلك يجب التمسك بالمبدأ وعدم المساومة.. رغم أن
رأي أبي بكر كان أشبه بمقتلة ومغامرة خطرة جداً.. غير أنه كان يرى موازين القوى
بدقة أكبر..
قرر
أن يفعل كل الأشياء التي لم يدركها سيدنا عمر في البداية.. أرسل جيش أسامة بن زيد
إلى أطراف البحر الميت وغزة.. وبدأ في نفس الوقت حرب المرتدين القريبين من
المدينة.. وأنهى كل ذلك خلال 60 يوم من توليه الخلافة..
بعد
أن انقضت المرحلة الصعبة وبدأت تظهر النتائج قام عمر وقبَّل رأس أبي بكر قائلاً:
"لولا أنت لهلكنا".
تشكلت
عبقرية عمر بن الخطاب بين يدي رسول الله ثم بين يدي أبي بكر الصديق..
من
الطبيعي أن نجده فيما بعد يقرر الخط الاستراتيجي:
"الحرب لا يُصلحها
إلا الرجل المَكِيث، الذي يعرف الفرصة والكف"
أي
أن المواجهة أو تجنب المواجهة هي خيارات تتغير بتغير المعطيات وليست مبادئ ثابتة..
أن تتقدم أو تكف عن التقدم أو تتراجع خطوة أو تتقدم في صورة تراجع..
فلا
يكفي أن تعرف متى وكيف تقاتل لقضيتك.. يجب أن تعرف متى تكف عن القتال لقضيتك
وتستخدم أساليب أخرى..
لكن
الأكثر أهمية في كل ذلك أن نتحرر من فكرة أن هذا يعطي الدنية في ديننا وقضيتنا
لمجرد أنه لا يرى المواجهة المباشرة الآن..
ونتحرر
من فكرة أن هذا يناصر ديننا وقضيتنا لأنه يريد المواجهة والقتال الآن..
لا
هذا ولا هذا.. لا تتهم ولا تحسن الظن بناء على هذا المعيار.. لأنه معيار مركب من
توازن قد نختلف في رؤيته وقد نخطئ بعضنا.. ولو كنا مخلصين وصادقين وأذكياء..
تماماً
كما حدث بين عمر ورسول الله.. ثم بين عمر وأبي بكر رضي الله عنهما..
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول