عظمة الأخلاق النبوية وعظمة الرسالة الربانية

رُويَت عن عَظَمةُ أخلاقِ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات كثيرة مُتنوّعة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كلّ مَا رُوي عنه، ولكنّ هذه الشهَادة من الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم] أعظمُ بدلالتها من كلّ شَيء آخر: أعظمُ بصدورها عن العليّ الكبير، وأعظم بتلقّي محمّد صلى الله عليه وسلَّم لها، وهو يعلم مَن هو العليّ الكبير، وبقائه بَعدها ثابتاً راسخاً مُطمئنّاً، لا يتكبّر على العباد، ولا يتعاظم، وهو الذي سمعَ ما سمع من العليّ الكبير ..

والله أعلم حيث يجعل رسالته، وما كان إلاّ مُحمّدٌ صلى الله عليه وسلَّم بعظمة نفْسه هذه من يَحمل هذه الرسالة الأخيرة بكلّ عظمتها الكوْنيّة الكبرى، فيكون كفئاً لها، كما يكون صورة حيَّة منها..

إنّ هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحقّ، بحيث لا يحملها إلاّ الرجل الذي يثني الله عليه هَذا الثناء..

إنّ حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة الربّانيّة، وإنّ عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة، وإنّ الحقيقة المحمّديّة كالحقيقة الإسْلاميّة لأبعد من مدى أيّ مجهر يملِكه بشر، وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدّد مَداها، وأن يشير إلى مسارها الكونيّ دون أن يحيط بآفاق هذا المسار وآماده..

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما يثني على أحد أصحابه يهتزّ كيان صاحبه من وقع هذا الثناء العظيم، وهو صلى الله عليه وسلَّم بشر.. وصاحبه يعلم أنّه بشر.. فأمّا هو؛ فيتلقّى هذهِ الكلمة من الله.. وهو يعلم من هوَ الله.. ويعلم منه ما لا يعلمه سواه..

وفي هذه الآية دلالة على تمجيد العنصر الأخلاقيّ في ميزان الله، وأصالة هذا العنصر في المنهج الإسلاميّ كأصالته في شخصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وهديه..

والناظر في هذه العقيدة كالناظر في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلَّم، يجدُ العنصر الأخلاقيّ بارزاً فيها أصيلاً، تقوم عليه أصولها التشريعيّة وأصولها التهذيبيّة على السواء.. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة، والأمانة والصدق، والعدل والرحمة، والبرّ وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معاً للنيّة والضمير، والنهي عن الجور والظلم، والخداع والغشّ، وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأيّة صورة من الصور.. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقيّ في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير، وفي واقع المجتمع، وفي العَلاقات الدوليّة على السواء..

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم يقول: ( إنّما بُعِثتُ لأتمّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ ) [رواه مالك في الموطّأ بلاغاً عن النبيّ، وقال ابن عبد البرّ: هو متّصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره: كشف الخفاء 1/244].

فيلخّص رسالته في هذا الهدف النبيْل، وتتوارد أحاديْثه تترى في الحضِّ على كلِّ خلق كريم، وتقوم سيرته الشخصيّة مِثالاً حيّاً، وصفحة نقيّة، وصورة رفيعة، تستحقّ من الله أنْ يقول عنْها في كتابِه الخالد: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4]، فيمجّد بهذا الثناء نبيّه صلى الله عليه وسلَّم، كما يمجّد به العنصر الأخلاقيّ في منهجه، الذي جاء به هذا النبيّ الكريم، ويشدّ به الأرض إلى آفاق السماء، ويعلّق به قلوب الراغبين إليه سُبحانه، وهو يدلّهم على ما يحبّ ويرضى من الخلق الكَريم القويم..

وهذا الاعتبارُ هوَ الاعتبار الفذّ في أخلاقيّةِ الإسلام، فهي لم تَنبع من البيئة، ولا من اعتبارات أرضيّة مادّيّة إطلاقاً، وهي لا تستمدّ ولا تَعتمد على اعتبار من اعتبارات العُرف، أو المصلَحة، أو الارتبَاطات التي كانت قائمة، وإنّما تستمدّ من السماء، وتعتمد على السماء، تستمدّ من هتاف السماء للأرض، لكي تتطلّع إلى الأفق، وتستمدّ من صفات الله المطلقة، ليحقّقها البشر في حُدود الطاقة، كيْ يحقّقوا إنسانيّتهم العليا، وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله تعالى لهم، واستخلافهم في الأرض، وكي يتأهّلوا للحياة الرفيعة الأخرى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر}[القمر:55].. ومن ثمّ فهي غير مقيّدة ولا محدودة، بأيّ اعتبارات قَائمة في الأرْض، إنّما هي طليقة، ترتَفع إلى أقصى ما يطيقه البشر..

ثمّ إنّها ليْست فضائل مجرّدة: صدق وأمانَة، وعدل وإحسان، ورحمة وبرّ.. إنّما هي منْهج متكامل، تَتعاونُ فيه التربية التهذيبيّةُ مع الشرائع التنظيميّة، وتقومُ عليهِ شئونُ الحياة واتّجاهاتها كلّها، وتنتهِي في خاتمة المطاف إلى الله، لا إلى أيّ اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة..

وقد تمثّلت هذه الأخلاقيّةُ الإسلاميّة العليا، بكمالها وجمالها، وتوازنها واستقامتها، واطّرادها وثباتها في محمّد صلى الله عليه وسلَّم، سيّد ولد آدم، وخاتم الأنبياء والرسل، كما تمثّلت في ثناء الله العظيم عليه في قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}[القلم:4] "

[في ظلال القرآن 6/3656 ـ 3658/ بتصرّف يسير واختصار].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين