عبث بتاريخ وظلم لرسالة

 

للاستعمار الحديث براعة في تزوير التاريخ وإخفاء بعض معالمه، وإبراز  البعض الآخر، بعد تشويه المفاهيم وتحريف الكلم عن مواضعه...

وغرضه من هذا هو خداع الأجيال الناشئة عن أصلها، ولي زمامها عن وجهتها العتيدة.

وكما ينقل مجرى النهر لتنسكب مياهه في مصب آخر، أو لتذهب بدداً في أرض عماء، ينقل مجرى التاريخ وتحوَّر أحداثه وأحكامه حتى يصبح لها معنى بدل معنى، وتوجيه غير توجيه.

وقد تضافر المستعمرون على تمزيق التاريخ الإسلامي وتحريفه خلال القرنين الأخيرين ليكون في سياقه الجديد المختلق عوناً على الغزو الثقافي الواسع المنظم، وليمكن على إيحائه المصنوع صب الأمة الإسلامية الكبرى في القوالب الكثيرة التي أعدت لها.

وهي قوالب شكِّلت بعناية ودهاء كي تتبدد خلالها رسالة القرآن وتتلاشى في طول العالم وعرضه أمته الواحدة...

وقد ساعد على نجاح هذه الخطة إلى حد ما الضعف الخلقي والعلمي الذي صارت إليه الأمة أيام العثمانيين.

وأبرز مظاهر هذا النجاح وجود جماعات غفيرة تعتقد أن الدين لم يكن وراء حركات المقاومة للحملات الأجنبية على البلاد!!.

أي أنه خلال القرن الماضي ـ لم يكن له دور في مدافعة الاحتلال الفرنسي، ثم الاحتلال الانجليزي.

كانت المقاومة باعثة من بواعث أخرى مادية أو محلية أو عنصرية أو أي شيء آخر... إلا الدين!!

ويتبع ذلك الفهم عزل الدين مستقبلاً عن حركات التحرر، وميادين المقاومة...

ومن يدري؟ فقد ينمو هذا الوهم ويوغل في الشرود حتى ليتهم الدين بأنه قيد على حركات الشعوب وآمالها في حياة أرقى وأرغد!!

ولا يطلب الاستعمار الثقافي أكثر من هذا الضلال.

ونرى لزاماً علينا أن نكشف الحقائق التي يراد طمسها، وأن نقطع هذه السلسلة من الترهات والأباطيل التي راجت بين القاصرين والأغرار.

عندما احتل الفرنسيون مصر كان الإسلام وحده، ولا شيء غيره هو الذي أشعل نار المقاومة المسلحة والمقاومة السلبية.

لقد استمات المسلمون في مناضلة الغزاة وتعويق تقدمهم، وأرخصوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يجبنوا أما تفوق الفرنسيين العسكري، ورجحان كفتهم في كل شيء.

وقاد الأزهر حرب الدفاع المقدس فحكم الفرنسيون على عشرات من علمائه الشبان بالقتل ونفذ فيهم حكم الاعدام فرادى وجماعات.

كما نفذ حكم الاعدام بطريقة بشعة قذرة في سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، ودخل الغزاة بخيلهم ورجلهم صحن الأزهر.

ولكن الثورة التي اشتعلت في القاهرة والأقاليم لم تنطفئ جذوتها، وظلت جثث القتلى تفوح روائحها في القاهرة وحدها أكثر من ثلاثين يوماً.

ويقدر عدد المسلمين القتلى في مقاومة الغزو الفرنسي بأكثر من نصف مليون قتيل في مدن الوجهين القبلي والبحري والقاهرة...

ولكن الغريب المخزي أن صور هذه المقاومة الباسلة طويت طياً، بل ومحيت محواً من صحائف التاريخ المدروس بين جماهير الطلاب والمثقفين.

وسطر فصول المأساة نفس بارد ميت!!

وقام جهد مزوري التاريخ على أمرين:

أولهما: سحب ذيول النسيان على دور الإسلام في المعركة، وإغفال تضحيات المسلمين الجسيمة وخسائرهم الفادحة في الأرواح و الأموال، والأمر الآخر ـ وهو ما يطيش له اللب ـ إبراز الحملة الفرنسية على أنها خير وبركة لمصر والمصريين!!!

فأي زور هذا الزور؟؟

وقامت الثورة العرابية في مصر، وهي من ناحية الوزن التاريخي لثورات المبادئ تشبه الثورة الفرنسية. إذ هي حركة تمرد على مفاسد الملوك ومظالمهم، وتحرير للشعوب المضطهدة، ورد لحقوقها المسلوبة.

والفارق بين الثورتين أن الفرنسيين قاموا بدوافع إنسانية مجردة، ضد التحالف الجائر بين النظام الملكي ورجال الدين على افتراس الجماهير وانتهاب حقها...

أما الثورة العرابية فقامت بدوافع الأمة ضد طغيان ملك مستبد، وعصبيات جاهلية، ولذلك قادها علماء الأزهر، ودعوا لها ودافعوا عنها وحوكموا من أجلها.

بل إن أحمد عرابي كان أزهرياً يستمد ثقافته العامة وحكمة على الأمور من تعليمه الديني...

وقد دعم الثورة العرابية الفريقان المتباينان من علماء الأزهر، رجال الفكر الحر وفي طليعتهم الشيخ محمد عبده ومدرسته، ورجال التربية والتصوف وفي طليعتهم الشيخ عليش، والشيخ أبو عليان، وسائر شيوخ الطرق.

ومعنى هذا أن رجالات الإسلام على اختلاف مشاربهم  كانوا طهيراً للثورة العسكرية الشعبية ضد مظالم الأسرة المالكة، والأفتيات على الأمة، وأن الإسلام كان موقد هذه المقاومة العامة، وباسط أدلتها، ومضرم مشاعرها، وأنه لم تستود مبادئ من هنا أو من هناك لتشحن قلوب المصريين الفارغة، أو تعلمهم ما يجهلون...

وتدخل الانجليزي لقتل الثورة في مهدها، واستطاعوا بخبثهم الاستعماري أن يستصدروا فتوى من الخليفة التركي بأن عرابي عاص ثائر  لا تجوز مساندته.

ولكن علماء الأزهر سارعوا فكذبوا الخليفة المضلل، وأصدروا فتوى بأن عرابي على حق، وأن العمل معه جهاد... وشاءت الأقدار أن تنهزم هذه الثورة، وأن يحتل الانكليز مصر، وبدأت مأساة تزوير التاريخ...

فأهيل التراب على دور الإسلام والأزهر في كفاح المظالم السياسية والاقتصادية، وأطبق الصمت على ما فعله رجال عظام ـ ببواعث دينية خالصة لاحقاق الحق وإبطال الباطل...

والغرض من هذا التآمر المريب غمز الدين وأهله حتى يبدو الإسلام وكأنه مخدر للشعوب وأنها لخسة محقورة أن يجرد الشريف من فضائله، ثم تطرح عليه معايب الآخرين...

ولكن ذلك ما وقع، فقد محيت الصبغة الدينية عن هذه الثورة وعرضت في الكتب المدرسية وغيرها مجردة من طابعها الإسلامي كما يجرد الدم من كراته الحمراء والبيضاء، فماذا يبقى منه؟!

لقد أصبحت وكأنها قصة قائد ثار على الحكومة في شيلي أو كمبوديا وكفى...

واشتعلت نيران الثورة ضد الاحتلال الانكليزي سنة 1919 وجاء هذا الغليان المحلي بعد أن أفلح الاستعمار العالمي في تقطيع الأمة الإسلامية الكبيرة سبعين قطعة لكل قطعة منها لواء مخطط، وجنسية مقررة وتاريخ خاص.

ولكن المسلمين حيث كانوا أبوا أن يفهموا الوطنية على أنها عبادة التراب، أو يفهموا القومية على أنها التعصب لجنس.

لقد واجهوا الأمر الواقع بتغليب منطق الإيمان وروح الأخوة وافهموا مواطنيهم من أتباع الأديان الأخرى أنهم مرعيوا الذمام محفوظوا العهود والمصالح حتى لا ينخدعوا بالدس الأجنبي.

ولم تشذ ثورة سنة 1919 عن سابقاتها، فكان الأزهر وفروعه في الأقاليم حطبها الجذل، وكان الجهاد في سبيل الله حاديها المسموع، وكان الأمل في جنة الرضوان عزاء الشباب الذي صارع الغزاة حتى الموت...

إن نداء الدين لم تضعفه كل المنسيات والملهيات التي صنعها الاستعمار بدهاء وأناة خلال عشرات السنين.

ولعل الثورة الجزائرية التي قدمت مليون ونصف مليون شهيد لاتمام طرد الفرنسيين من البلاد شاهد صدق على هذه الحقيقة، فبعد مائة وثلاثين سنة بقيت جذوة الإيمان متوقدة تحت التراب، ما أن وجدت النفس الذي يضرمها حتى التهبت نارها واندلعت ألسنتها، واحترق الاستعمار في سعيرها.

بيد أن محاولات الكيد للإسلام لم تنته، ولعل أسوأها الآن إبراز التاريخ السابق واللاحق أو القريب والبعيد، في صورة مأفوكة الملامح مزورة التقاسيم توهم الناظر أنه ليس وراء حركات المقاومة الوطنية دين دافع، ولا عقيدة موروثة...!!!

ورأيي أن ذلك يحدث لخدمة أعداء العرب والإسلام، فإن عزل الدين عن روح المقاومة في الوقت الذي يمتزج الدين فيه بطلائع الهجوم ليس إلا توهيناً للمدافعين، وتثبيطاً لهممهم، وحرماناً لهم من أمضى أسلحتهم...

وليت شعري لماذا يقبل العالم تجمعاً على أساس اليهودية يقوم بالعدوان، ويرفض تجمعاً على أساس الإسلام يقوم بالدفاع؟؟

ولماذا تشوه الأحداث وتلفق الوقائع لاخفاء الوجه الإسلامي الشجاع وهو يكافح بشرف وفداء لحماية نفسه وارضه؟ ولحساب من يقع ذلك كله؟

إن المستفيد من هذا المسلك النابي هو الاستعمار والصهيونية، ونحن وحدنا الخاسرون!

وبجحد الدين وإنكار أثره واختلاق التهم لأهله، أو انتهاز خطأ يقع من أحدهم لتحمل أوزاره جماعات المتدينين في كل مكان، بل ليحاسب الدين نفسه بهذا الخطأ ويحكم عليه بالإبعاد والإهمال!

منذ أيام كنت أقرأ كلمات لشاعر معروف، شاعر اشتهر بالغزل في نعال النسوان وجواربهن وفساتينهن، وفوجئت وأنا أقرأ بحملة غبية على الدين والخطباء والمنابر فتساءلت: ما هذا السخف ؟ وما سره؟

لقد كان هذا الشاعر يشدو لجيل الخنافس، ويلهب الشهوات الهاجعة كي تنطلق لا تلوي على شيء، فهو وأمثاله من أسباب الكوارث التي أصابت الأمة

ثم سمعناه يتألم للهزيمة النازلة فقلنا لعلها توبة، وجدير بالمنحرفين أن توقظهم وخات الهزيمة النكراء التي ألمت بنا... ولقد صحت ضمائر شتى، وتذاكرت ضرورة العودة إلى الدين والإنابة إلى الله بعد الذي وقع...

ولكن سماسرة الاستعمار تحركوا على عجل ليمنعوا التعلق بالإسلام، ويسدوا الطرق المفتحة إليه، إنهم يريدون تطويل الغيبوبة التي وقعت فيها الأمة، إنهم يريدون تكثير الضباب الذي يحجب الرؤية، إنهم يريدون بقاء الزور الذي استخفت وراءه الحقائق...

من أجل ذلك يكتب أحدهم أن الإسلام لم يصنع ثورة شعبية، ويكتب ثان: أن ضياع الإيمان لا مدخل له في الهزيمة، ويكتب ثالث أن: الدين يكتفي بإرسال الدعاء الحار على الأعداء، ويكتب رابع: عن ضرورة إصلاح قوانين الأسرة فهي قضية المصير!!

وتتنافس الأقلام العميلة لاتاهة وتعمية السبل أمام السائرين. لا أشك في أن المتصلين بالدين ناساً لهم أغلاط وسيئات، وتأديب هؤلاء حق...

ولو أن الذين يضيقون بهؤلاء المنحرفين يغضبون لله لشاكرناهم غضبهم وعذرناهم في حكمهم، لكني رأيت من بينهم علماء الدين يطلب الدنيا فلما تأملت في سيرته وجدته مجنوناً يحب الحياة واصطياد أطيابها، ووجدتها يزدري علماء الدين كما يزدري لصوص العمارات لصوص الأحذية أي أن لصاً ذكياً يسخر من لص غبي!!

ووجدت هذا الذي يندد بانحراف المتدينين إذا رأى مؤمناً شريفاً ذكياً نابهاً ضاق به وعمل على هدمه واجتهد في اخفات صوته وإزالة أثره...

لم ذلك؟؟ ولحساب من؟ إن الإجابة ليست بعيدة أن المقصد هو النيل من الإسلام نفسه، والحفاوة بما يؤخره والكراهة لما يقدمه.

ونسأل مرة أخرى: من المستفيد من هذه الأحوال؟ والجواب الفذ: الاستعمار والصهيونية فإن العودة إلى الإسلام مفتاح التغيير للموقف المستغلق في العالم كله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد السادس، السنة الثالثة والعشرون، صفر 1389هـ، أبريل 1969.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين