صلاة ركعتين

صلاة ركعتين

عليّ الطنطاوي رحمه الله

 

أكثرنا لا يصلّي، وإنما يقوم ويقعد، ويركع ويسجد، وإنّ العامل الذي يذهب ليقابل رئيس الشركة، والمعلم الذي يمضي ليدخل على وزير المعارف، وكل من يكون منا على موعد من رئيس أو أمير أو ملك، يستعدّ لهذه المقابلة بزيّه وثيابه ويهتمّ بها بفكره وقلبه، أكثر مما يستعدّ للصلاة ويهتمّ بها.

وهذه الحقيقة لا نستطيع أن ننكرها (مع الأسف)، مع أنّ المصلي إنما يدخل على الله، ملك الملوك، ومَنْ كل خير عنده، وكل أمر بيده، ومَنْ إن أعطى لم يمنع عطاءه أحد وإن حَرَم لم يعطِ بَعده أحد.

وإن كان مَن يدخل على الملك المطلق، لا يفكر في سؤال حاجته وزيرًا أو عاملًا بل يسأل الملك الذي يأمر الوزير والعامل، فكيف نقوم بين يدي الله، وعقولنا متعلقة بغيره، وأفكارنا مشتغلة بسواه؛ نرجو النفع من البشر، ونخاف منهم الضرر، ولا يخطر على بالنا أن نتوجَّه إلى الله، الذي نقوم بين يديه، نطلب منه هذا الذي ينفعنا ونسأله دفع ما يضرُّنا؟

ونحن نتلو بألسنتنا، ما لا تصغو إليه قلوبنا، ولا تعيه عقولنا، فلا تكون صلاتنا إلا رياضة للأعضاء، وتحريكًا للّسان، مع أنّ هذه الرياضة كالجسد من الصلاة، والخشوع هو الروح، فكيف تصعد صلاتنا إلى الله وهي جسد بلا روح؟ وهل تطير جثة لا حياة فيها؟

وأنا لا أصف لكم الصلاة الكاملة، التي كانت قُرّة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويكون لها الأثر الدائم في سلوك صاحبها، وفي أخلاقه وطباعه، الصلاة التي يحسّ صاحبها القوة بالله فلا يخشى في الحق أحدًا، ويستشعر الضعف أمام الله فلا يحاول التعدّي على أحد. لا، ولكن أصف لكم أدنى درجات الخشوع في الصلاة، وهي أن يفكر المصلي في معاني ما يتلو، وأن يتدبر بقلبه ما يتحرك به لسانه.

**

فإذا سمع المؤذن يدعوه إلى هذه (المقابلة)، استعدَّ للوقوف أمام الله، فطهَّر جسده وثوبه ومكانه، وذكر أن الله لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه لا ينظر إلى الصور وحدها ولكن إلى النيَّات والسرائر، فلم يكتف بتطهير ظاهره من الأنجاس الماديَّة، حتى يطهر قلبه من الأرجاس المعنويَّة: من الشرك والرياء والطمع والحسد وهاتيك الأوضاع كلها، ثم يستقبل القبلة، فيتصور الكعبة أمامه، لا يستقبلها على أنها صنم يُعبد، أو على أنها تنفع أو تضر، بل لأنها هدف جامع ينظّم المسلمين في أرجاء الأرض في دوائر تقترب وتبتعد، لا تمنعها الجبال ولا الصحارى ولا البحار، من أن تلتئم وتستدير حول هذا الهدف ثم تتراصّ بنظام وإحكام كجيش مستعدّ لبذل الروح والمال إرضاءً لله، وإعلاء لكلمة الله، وإقرارًا للعدل والخير والفضيلة في هذه الأرض.

ويحاول أن يُحضِرَ في نفسه بواعث الخشوع، فيتصوَّر أن قد انقضت هذه الحياة، وهي حتمًا إلى انقضاء، وأن قد جاء يوم الحساب، وهو قادم لا محالة، فيبصر الصراط أمامه، والجنة عن يمينه تدعوه بنعيمها المقيم، والنار على شماله تلوّح له بعذابها الدائم،

ثم يفكر في عظمة الله، فتهون حيالها الدنيا والآخرة، والجنة والنار؛ لأنه أكبر منها ومن كل ما يخطر على العقل البشري من كائنات، هو أوجدها من العدم بكلمة، وهو قادر على أن يذهب بها بكلمة، ويرفع يديه حيال أذنيه كأنما يطرد شواغل الدنيا عن ذهنه ويقول من أعماق قلبه: (الله أكبر) وبذلك يكون قد دخل الحضرة الإلهيّة.

**

ولو تُرِكَ البشر لعقولهم، لما استطاعوا أن يُحصوا الثناء على الله، فكان من نِعَم الله على المسلم أن علّمه كيف يرفع التحية إلى ربه في مطلع صلاته، وكيف يُثني عليه، فهو يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك)، ومعنى التسبيح: التنزيه، تنزيهه تعالى عن كل ما يمرّ في فكرك من الصفات البشرية المادية (كل ما خطر على بالك، فالله بخلاف ذلك). ويجمع إن شاء بينها وبين التوجه إلى الله، (وجهت وجهي) لمن؟ لبشر أو لحجر؟ لا، بل (لله الذي فطر السماوات والأرض) وكل ما فيها من خلائق.

فإذا استوفى التحية يطلب حمايته أولًا من عدو البشر الألدّ، الذي يتربَّص به، يزيّن له الشر، ويحبِّب إليه المعصية، ويفضّل له هذه الدنيا الزائلة، ولذّاتها الذاهبة، على الآخرة الدائمة، ونعيمها المقيم.

ويسألُه أن يعيذه منه، حين يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

ثم يعلن الابتداء باسم ربه: {بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ} لا باسم جلالة الملكة، كما يقول الإنكليز، ولا باسم الشعب السوري، كما نقول نحن، ولا باسم صنم ولا وثن، ولا باسم رابطة قومية أو حزبية أو رابطة منفعة أو مال، بل بما هو أعلى من ذلك كله وأعظم وأسمى، بما تمّحي أمامه فروق اللون والجنس واللسان، وما تسكت أمامه أصوات الشهوة والسيطرة والجاه والغنى، وما يعود البشر أمامه عبيدًا سامعين مطيعين، متجردين للفضائل والخيرات: (باسم الله).

***

ثم يقرأ الفاتحة، ولكل كتاب بشري فاتحة: مقدمة تُجْمِلُ مقاصده، وتُوضِّح مطالبه؛ وهذه مقدمة الكتاب الإلهي الباقي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي نزّله الله وتعهّد بحفظه.

{الْحَمْدُ للّهِ}: الحمد لله على نعمه التي لا تحصى: نعمة الحياة، نعمة الصحة، نعمة الأمن، نعمة السمع والبصر، نعمة الأهل والولد.

إنَّ الإنسان لا يعرف قيمة النّعم إلّا عند فقدها؛ إن سدّ أنفك الزكام عرفت قيمة الشم، وإن أغلق عينك الرمد عرفت قيمة البصر، وإن دهمك الخوف عرفت قيمة الأمن، وإن لُوِيَتْ قَدَمُك فلم تقدر أن تمشي عرفت قيمة الرّجل، فتصوَّروا هذه النعم حين تقولون: (الحمد لله).

{رَبّ الْعَالَمِين}: هل تعرفون معنى الرب؟ ليس معناها الحاكم ولا الملك ولا الإله، الربّ فيها معنى العناية والتربية، والحفظ والإنماء، الربّ المربي، والعالَمون جمع عالَم، فعالَم الأرض، وعالم السيارات وعالَم النجوم وعالَم السماء، وعالَم الجن، وعالَم الشياطين، وعالَم الملائكة، والعوالم كلها هو حافظها وموجدها ومُربِّيها.

فتصوروا هذه المعاني كلها، حينما تقرؤون هذه الكلمات الأربع: {الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِين}.

{الرّحْمنِ الرّحِيمِ}: وصف نفسه بالرحمة، وكرّرها لتكرّر رحمته، ولم يقل: الجبار المنتقم، ولا القوي العزيز، ولكن: {الرّحْمنِ الرّحِيمِ}.

أشعرنا رحمته، التي وسعت كل شيء؟ أَتَرَوْن رحمة الأم بولدها الذي تُرضِعُه على صدرها؟ إنَّ الله أرحم بعباده منها بولدها، إنَّ الأم إذا أساء إليها ولدها، أو خالفها، أو استعمل مالها في معصيتها، هجرته وحجزت المال عنه، والكافر يستعمل لسانه الذي أعطاه الله إيّاه في الكفر بالله، والله يرحمه ويرزقه ويحسن إليه. وإن الله أنزل في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الناس، وتعطف الأم على ولدها، والأخ على أخته، والرجل على امرأته، وأبقى تسعًا وتسعين ليوم القيامة. ورحمة الله هذه من أَوْل النعم التي تستحق الحمد.

بعد أن يقول العبد في الصلاة {الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. الرّحْمنِ الرّحِيمِ} ويستشعر رحمة الله يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ}.. فيستشعر عظمته، ليعلم أن الله رحيم فلا ييأس من رحمته، وأنه جبار فلا يأمن بطشه.

ويومُ الدين هو يوم القيامة، يوم يقف الناس جميعًا، من قُتل في الحرب، ومَن مات على فراشه، والذي أكله السّبُع، والذي غرق في البحر، والذي احترق وصار جسده فحمًا، يجمعهم الله جميعًا، الأوّلين والآخرين، فيقف الملك بجنب الصعلوك، والغني بجنب الفقير، وتسقط الفوارق ولا يبقى من فرق إلا بالعمل الصالح، هنالك ينادي المنادي: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ للسلاطين؟ للجبارين؟ للأغنياء؟ لا، بل {لِله الْوَاحِدِ الْقَهّارِ}.. ذلك هو رب العالمين، ومالك يوم الدين.

**

{إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ}، أي: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا بك.

والعبادة هي كل ما فيه إقرار بالربوبية للمعبود، فالصلاة عبادة، والسجود عبادة، والدعاء عبادة، والطواف بالقبور بنية التعظيم وقياسًا على طواف الكعبة عبادة.

والاستعانة هنا هي الاستعانة بما هو وراء الأسباب، فلا تُمنع الاستعانة بالطبيب على وصف الدواء، ولا الاستعانة بالمحامي على حسن الدفاع، ولا الاستعانة بأرباب الصناعات، بل الاستعانة الممنوعة إلّا بالله وحده، هي طلب ما وراء الأسباب، كمن يطلب من غير الله أن يشفي مريضه، أو يُرجع فقيده، أو يُطلق سجينه، أو يُفرّج كربه.

بعد أن حمدت الله على نعمه، وعرفتَ بأنه رب العالمين، وأنه أرحم الراحمين، وأنه هو مالك يوم الدين، وبعد أن نزَّهته عن الشريك (الشرك الظاهر والشرك الخفي) وخصصته وحده بالعبادة، فإن الله يعلِّمك، كيف تطلب منه ما ينفعك. وقد أجمل لك الخير كله في كلمة واحدة: {الصّرَاطَ المُستَقِيمَ}.

{اهدِنَا الصّرَاطَ المُستَقِيمَ}: أي: دُلّنا على الطريق الموصل إلى كل خير في الدنيا وفي الآخرة.

{صِرَاطَ الّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيِر المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضّالّيَن}.

 المغضوب عليهم عرفوا الحق، ولم يتَّبعوه، ومنهم اليهود. والضالون لم يعرفوه، ولم يتَّبعوه، ومنهم النصارى.

والذين أنعم الله عليهم عرفوه، واتَّبعوه، وهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون.

(آمين)؛ أي: اللّهم استجب لنا، وتقبّل دعاءنا.

**

ثم يقرأ السورة متدبّرًا معناها مفكّرًا فيها. ولنختر لك سورة من أقصر سور القرآن سورة "الماعون".

في هذه السورة بيان ثلاثة أصناف من الناس.

الصنف الأول: الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يتصفون أبدًا بالكمالات الإنسانية، ويجمعون أطراف الخُلق الكريم.

الصنف الثاني: الذين يؤمنون ولكن لا يعملون بما يؤمنون به، ولا يحافظون عليه، فهم ينسون الصلاة، ويمتنعون عن القيام بأيسر أعمال الخير، وهو إعارة ماعون للجار.

الصنف الثالث: المكذبون بالدين، الذين فقدوا مزايا الإنسانية، حتى إنهم ليقسون على اليتيم، ولا يبالون بالعطف على المسكين.

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}. الخطاب من الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول له: ألا تعجب من هذا الذي يكذب الحقائق الظاهرة، وينكر بلسانه ما يصدق به قلبه، ويؤمن به عقله، وهل في الحقائق كلها ما هو أثبت من وجود الله؟ وهل في طرق الخير ما هو أقرب وأظهر، من هذا الدين؟

{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي يقسو عليه، ولا يرحم ضعفه. وتلك هي نتيجة للتكذيب بالدين، وملازمة لها. {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، ولا يرغب فيه، ولا يفكر في آلام غيره، ما يهمه في الحياة إلا نفسه. وهذا هو النموذج للصنف الثالث.

أما الصنف الأول، فيفهم من هذه الآيات، فكما أنَّ المكذب بالدين، يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين، فالمصدِّق بالدين، يرحم الأيتام، ويهتمُّ بإطعام المساكين، ويكون عاملًا على كل ما فيه الخير للناس.

والقسم الثاني، ضرب الله مثلًا عليه، المصلين الذين يسهون عن صلاتهم. تهاونًا بها واشتغالا عنها. {فَوَيْلٌ} والويل كلمة عذاب {لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}

{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} إن صلوا بصلاتهم، لا يقصدون بها وجه الله، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}؛ لأن من صفاتهم أنهم لا يقدّمون لأحد خيرًا مهما قلّ. فمن غفل عن صلاته ثم تاب وأدَّاها مخلصًا لا مرائيًا، وكان ممَّن يحب الخير، لم يكن من هذا الصنف.

**

ثم يقول: (الله أكبر) ويركع، يحني رأسه ليجمع بين الخشوع المادّي والمعنوي، خشوع الجوارح وخشوع القلب.

وقد جُعلت (الله أكبر) شعار الصلاة، يردِّدها المصلي عند كل حركة، لتكون سلاحًا

بيدك، فكلما وسوس إليك الشيطان، وقال لك: عجّل في صلاتك فإن فلانًا ينتظرك وهو كبير في الناس، قلت: أسكت واخنس، فإني بين يدي الله و (الله أكبر).

وإن شغل فكرك بتجارة أو ربح، أو لذّة أو متعة، أو رغبة أو رهبة، قلت: (الله أكبر).

وتسبّح الله ربك العظيم، ممتلئًا قلبك بتنزيهه والتفكير في عظمته، وتخرج من جسدك، ومن مطامع دنياك، ويكون الشرع هو الذي يتكلّم على لسانك، يقول لك مبشرًا: (سمع الله لمن حمده). فتقول أنت مستبشرًا فرحًا: (ربنا لك الحمد).

ثم يكون سجودك، تعبيرًا آخر أقوى وأظهر، على خضوعك واستسلامك، تضع جبينك خضوعًا لله على الأرض، وتقول: (سبحان ربي الأعلى)، فيجمع الله لك لذة العبودية بهذا الخضوع، ولذة العزّة بهذا التسبيح، وتذوق حلاوة الإيمان ولذلك جاء: (إنّ العبد يكون أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد).

**

ثم تعود، فتقرأ الفاتحة، وسورة أخرى. ولنأخذ سورة قصيرة من ثلاث جمل صغار، ولكنها تصلح أن تكون دستورًا للفرد وللجماعة، لم تترك بابًا من أبواب الخير إلا فتحته، ولا خلة من خلال صلاح الفرد والجماعة إلا تعرضت لها. حتى إن من العلماء من قال، وأظن أن القائل هو الشافعي:" لو لم ينزل الله من القرآن إلا هذه السورة لكفت الناس" - ومن معجزات القرآن، أنه جمع تلك المعاني كلها في آيات ثلاث صغار.

هي: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}.

وأنا لا أسرد أقوال الناس في العصر: هل هو الدهر، أو هو وقت العصر، أو هو صلاة العصر، لأن الله كشف لي معنى آخر، هو أن العصر، الزمان. وكل إنسان يخسر بفعل الزمان: يخسر عمره، إذ لو كان مقدَّرًأ له أن يعيش سبعين سنة، فإنه يخسر سنة منها كلما عاش سنة، ويخسر شبابه، ويخسر قوَّته، ثم ينتهي بمرور الزمان إلى الموت، فيخسر كل شيء، حتى الحياة، ولا يبقى له إلا الإيمان والعمل الصالح.

فالإيمان، كما أنهم يتعلق بصحة «المذهب"، والعمل الصالح يتعلق بالتطبيق، والمعنى: أن على الإنسان الذي يريد اجتناب الخسارة، أن يبني مذهبه في الحياة على معرفة الحق من الباطل، ويؤمن بالحق وحده، فيكون صحيح النظر والفكر، وأن يطبق الحق الذي عرفه وآمن به على حياته.

وهذا دستور شامل لحياة الفرد العقلية والعملية، ومن عرف الحق وعمل به فقد بلغ أعلى درجات الكمال.

وفي الآية التالية دستور لحياة الجماعة، فلا يكفي أن يعرف الفرد الحق في نفسه، بل ينبغي أن يوصي غيره به، ويدله عليه، ولا يكفي ان يعمل به وحده، بل لا بد من التواصي على العمل الجماعي، والصبر على مشاقّ هذا العمل.

وهنا تعليقات ثلاث لا بد منها:

الأولى: أن القسَم من الناس لا يكون إلا بالله، لا يجوز لهم الحلف بغير الله أصلا، لأن هذا الحلف يدل على التعظيم المطلق والعبادة: اما قسم الله في القرآن بأشياء مخلوقة: والعصر. والضحى. والليل. والسماء. فهو للدلالة على مزايا فيها ولفت الأنظار إليها.

الثانية: أن أولى الحقائق التي ينبغي أن يؤمن بها الانسان لينجو في الآخرة هي وجود الله، وأن له وحده الخلق وله الأمر وهو المخصوص بالعبادة، ثم التصديق برسالة محمد والعمل بها.

الثالثة: أن الصبر على أنواع: منها الصبر على المصيبة، والدنيا مملوءة بالمصائب، ولا ينجو أحد من نكبة في صحة أو مال أو موت صديق أو فقد قريب، ولا عزاء عنها إلا بالتواصي بالصبر، وذكر ثواب الله للمصابين، ولعله إذا اطلع على ما أعد الله له، فرح بالمصيبة، كمن يذهب ماله أو يخرب بيته في زلزال أو حريق. إذا عوضته الحكومة منه أضعافا فرح بذهاب المال وخراب الدار.

والصبر على ألم الطاعة، فمن ترك فراشه الدافئ، وقام إلى صلاة الصبح في ليالي الشتاء يتألم، ومن حمل الجوع والعطش في أيام الصيف في رمضان يتألم، ومن قهر نفسه على إخراج الزكاة يتألم، ولكنه إن ذکر ثواب الله وصبَّر النفس، تحول هذا الألم لذة.

والصبر عن المعاصي، وهذا أصعب أنواع الصبر، وهو الامتناع عن لذة المعصية مع القدرة عليها، كالموظف الذي يرى زملاءه يرتشون ويسرقون وهو يقدر على ذلك ولكنه يمتنع عنه ويصبر نفسه، والشاب الذي يرى التبرج والإغراء ويسمع من إخوانه أحاديث مغامراتهم الغرامية، ولكنه يمتنع عن مجاراتهم خوفا من الله ويصبِّر نفسه، أن الله يظله بظل العرش يوم الموقف الأكبر، يوم لا يجد تاس ظلة ولا وقاية من أمر الله

***

ثم يكبّر ويركع ويسجد، فإذا فرغ من هذا كله، قعد يرفع إلى ربه تحية الخروج من الصلاة، كما رفع في أولها تحية الدخول فيها، فأثنى على ربه الذي توجّه إليه وحده، مخلصًا له مريدًا ثوابه، طالبًا منه كل خير يريده، ثم صلّى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان واسطة هذا الخير، ثم سلّم على نفسه التي تطهَّرت بهذه الصلاة، وعلى عباد الله الصالحين.

وهذه أعظم مكافأة للمصلّي، أن يكون من الصلاة تحية نفسه مع تحية الله ورسوله، ثم يجدد البيعة ويؤكد العهد بترديد الشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد بالعبودية والرسالة، ثم طلب ما يشاء من الحاجات، فبدأها بسؤال الله الرحمة والسلام والبركات، على من كانت هذه النعم عن يديه: محمد صلى الله عليه وسلم مصليًّا الصلاة الإبراهيمية، وهي أفضل صيغ الصلاة على الرسول على الإطلاق، وسأل لنفسه وللمسلمين.

ثم يودع بالسلام (السلام عليكم ورحمة الله)، ويعود إلى هذه الدنيا ولكن بغير النفس التي تركها بها، يعود وفي قلبه حلاوة الإيمان، ولذّة المناجاة، وهذه المعاني التي أثارها فيها ما تلا من قرآن وذِكر، وهذه الخشية التي أحسّ بها وهذه القوة التي استشعرها.

 

المصدر: مجلة (المسلمون) العدد الرابع من السنة الأولى: ذي القعدة 1374= حزيران 1955

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين