صفحة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة خوَّات بن جبير مع النبي صلى الله عليه وسلم 

روى الطبراني عن خوَّات بن جبير رضي الله عنه قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظهران ـ اسمه اليوم وادي فاطمة شمال مكة ـ قال: فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني فرجعت فاستخرجت عَيْبتي ـ حقيبتي ـ فاستخرجت منها حُلَّة ـ بدلة ـ فلبستها وجئت فجلست معهنَّ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته فقال: أبا عبد الله ما يجلسك معهن؟

فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبتُه واختلطتُ ـ أي ارتبكت وخلطت الصواب بالخطأ ـ. قلت: يا رسول الله جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً ـ أي: ضاع جملي فأنا أبحث عنه ـ فمضى واتبعته، فألقى إليَّ رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه ـ ظهره ـ في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره ـ أو قال: يقطر من لحيته على صدره ـ فقال: أبا عبد الله ما فعل شِرَاد جملك؟ ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟ فلمَّا رأيت ذلك تعجَّلتُ إلى المدينة واجتنبتُ المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فلمَّا طال ذلك تحيَّنت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فقمت أصلي ـ لعله وقت الضحى ـ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حُجَره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطوَّلت رجاء أن يذهب ويدعني فقال: طول أبا عبد الله ما شئت أن تطول فلستُ قائماً حتى تنصرف. فقلت في نفسي: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدره، فلما قال: السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلم ـ يعني نفسه أنه لم يرتكب معصية منذ أسلم ـ فقال: رحمك الله ثلاثاً ثم لم يعد لشيء مما كان.

المرجع: الأساس في السنة وفقهها. السيرة النبوية للشيخ سعيد حوَّى ـ رحمه الله تعالى ـ ج3ص1098.

رواه الطبراني في المعجم الكبير 4/203 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد9/401: رواه الطبراني من طريقين. ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن خُلد وهو ثقة.

والأراك: شجر يتَّخذ منه السواك، وهو مكان في مرّ الظهران، ومعنى ما فعل شراد جملك؟ أي: نفسك حتى حملتك على مخالطة النساء.

تعليق:

الصحابة رضي الله عنهم كانوا خير أمة عرفها التاريخ ديناً وخلقاً وصدقاً واستقامة... لكنهم قبل الإسلام كانوا جزءاً من الجاهلية العربية الأولى أشركوا وارتكبوا الموبقات، ثم أسلموا فَجَبَّ الإسلام ـ أي: قطع ـ ما قبله.

وروي أن لخوَّات رضي الله عنه قصةً في الجاهلية أراد امرأة على نفسها أعرابية فرفضته فغاب عنها غيبة طويلة حتى نسيته فجاء إلى خبائها وأهلها خلوف ـ غائبون ـ وعلم أنها تبيع السمن فقال: هل عندك سمن للبيع ؟ قالت: نعم. قال: أرنيه ففتحت له ظرفاً أو نحياً فذاقه. ثم قال: هل عندك غير هذا؟ قالت: نعم. فأعطته فم الظرف ليمسكه وفتحت له ثانياً ليذوقه فأعاد لها الأول مفتوحاً وبيدها الثاني مفتوحاً، فشغل كلتا يديها بالنحيين، ثم اعتدى على عفافها وهي تستغيث ولا مغيث ولا تسخو نفسها أن تترك النحيين ـ أو الظرفين ـ يُراقان على الأرض. وقال الناس لما سمعوا بالقصة: أحير من ذات النَّحيين. وهذا مثل يضرب لشدة الحَيْرة.

كان هذا في الجاهلية وعفا الله عما سلف، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم سمع به وخطر له لما رأى خَوَّاتاً رضي الله عنه جالساً بين الأعرابيات بثوب حسن فاستخرجه من بينهن، وسأله عما يجلسه معهن بأسلوب لطيف وكرر السؤال على وجه يشعر بأنه يشك في الجواب، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكذّب أحداً من الناس لخلقه الحسن لا مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً إلا أن ينزل قرآن يكذبه. ولم يحدِّث النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الناس أي ستره ولم يفضحه. وهذا شأن المؤمن ـ الكريم ينصح واللئيم: يفضح ـ وما زال به حتى طمأن خوَّات النبي صلى الله عليه وسلم أنه منذ أسلم لم يرتكب قط معصية، فقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الجواب منه ودعا له ولم يعد يسأله.

في هذا الحديث الطويل دروس إسلامية عمليه من الحبيب صلى الله عليه وسلم منها: أن الستر مطلوب. والنصيحة من الدين. وأن تكون مع أخيك على الشيطان ولا نكون مع الشيطان على أخينا، ومنها: الرفق بالمؤمنين وأن لا نكذبهم. ورضي الله عن عمر القائل: لست بالخب ولا الخبُّ يخدعني. ومنها: الحذر من مجالسة النساء وقد ورد: أُمرت أن أباعد بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء إلا المحارم من النساء لضرورة الحياة وعدم الشهوة، وإلا المتنفس الوحيد الأزواج وملك اليمين. وهذا الأسلوب الحسن مما يحبب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل يرينا سرَّ حبِّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم . وصدق الله العظيم:[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4} .

ملاحظة: خوات بن جبير أخو الصحابي عبد الله بن جبير الأنصاري قائد الرماة الخمسين الذين كانوا على جبل عينين يوم أحد، وقد استشهد عبد الله ذلك اليوم.

نشر هذا الموضوع بتاريخ 1/اكتوبر/2009 وقد أعيد تنسيقه ونشره اليوم 15/12/2018

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين