صفحات في تاريخ باكستان

 

في السادس من المحرم من عام 1389 الموافق 25 آذار/مارس 1969 استقال الرئيس الباكستاني محمد أيوب خان بعد فترة 11 سنة في حكم هذه الدولة الإسلامية الفتية، وجاءت استقالة الرئيس الثاني للباكستان إثر انتفاضة شعبية أطاحت بحكمه كان وراءها الأحزاب السياسية المعارضة وعلى رأسها ذو الفقار علي بوتو.

 

ولد أيوب خان سنة 1325=1907 في مقاطعة الحدود الباكستانية لأسرة بَشتونية، وكان والده ضابطاً في جيش الهند البريطاني، ودرس أيوب خان في جامعة عليكرة ثم قطع دراسته قبل إكمالها عندما قُبل في الكلية الملكية العسكرية في ساندهرست بإنجلترا، وخدم بعد تخرجه في جيش الهند البريطاني، وحارب معه في بورما في الحرب العالمية الثانية، وانضم إلى الجيش الباكستاني الوليد بعد استقلال الباكستان، وكان قائد جيش الباكستان الشرقية، ثم جرت ترقيته وتعيينه نائباً لرئيس الأركان السير دوجلاس جريسي، البريطاني الجنسية، وفي سنة 1951 انتهت خدمة رئيس الأركان البريطاني فقام رئيس الوزراء لياقة علي خان، المولود سنة 1313=1895 والمتوفى غيلة سنة 1371 =1951 بترقيته وتعيينه رئيساً لأركان الجيش الباكستاني، وتجاوز في هذا 3 ضباط أقدم من أيوب خان، وذلك بتأثير من وزير دفاعه اسكندر ميرزا، والذي كانت حجته في هذا التجاوز أن أيوب خان هو أقل الجنرالات طموحاً وأكثرهم إخلاصاً للحكومة!

 

وفي سنة 1954 أصبح أيوب خان وزيراً للدفاع في وزارة محمد علي بوكره، ثالث رئيس وزراء في الباكستان والمولود في البنغال سنة 1327=1909 والمتوفى سنة 1382=1963، وفي سنة 1374=1955 أقال الوزارة إسكندر ميرزا الذي أصبح الحاكم العام لباكستان، وهو منصب يعادل منصب الرئيس الذي سيستحدث فيما بعد، وعين رئيساً للوزراء شودري محمد علي، المولود سنة 1323=1905 والمتوفى سنة 1401=1980، وأبقى شودري أيوب خان في منصب وزير الدفاع.

 

ولم تدم وزارة شودري إلا 13 شهراً، فقد توالت الانشقاقات في حزبه؛ الرابطة الإسلامية، وكون المنشقون حزباً جديداً أسموه الحزب الجمهوري، وادعوا أن لديهم الأغلبية في المجلس النيابي، وهو ما كذبته الرابطة الإسلامية، وأرادت من شودري أن يقمع الحزب الجمهوري فرفض قائلاً إن ولاءه لمصلحة الأمة مقدم على ولائه الحزبي، ولما تفاقم الصراع استقال شودري من رئاسة الوزراء ومن الرابطة الإسلامية في سنة 1376=1956.

 

وفي هذه الأثناء جرى استحداث منصب الرئيس في أوائل سنة 1956، وتولاه إسكندر ميرزا الذي كان الحاكم العام من قبل، والمولود في البنغال سنة 1307=1889 والمتوفى سنة 1389=1969، فقرب العسكريين وبثهم في مناصب الدولة المختلفة، ونورد هنا نبذة عن حياته فنقول إنه كان أول ضابط هندي يتخرج من كلية ساندهرست العسكرية، وتولى من قبل منصب وزير الدفاع، ثم حاكم الباكستان الشرقية واتسم حكمه فيها بالشدة وقمع المعارضة السياسية.

 

وعين إسكندر ميرزا رئيساً جديداً للوزراء هو حسين شهيد سهروردي، المولود في البنغال سنة 1310=1892 والمتوفى سنة 1383= 1963، وكان سياساً محنكاً ذا شعبية في باكستان الشرقية، بنغلاديش اليوم، بدأ حياته السياسية عمدة لكلكتا أيام بريطانيا، وكان رئيس وزراء البنغال قبل الاستقلال، وكان له دور في توجيه الولايات البنغالية المسلمة للانضمام إلى باكستان، وبعد الاستقلال انشق في سنة 1952عن الرابطة الإسلامية ليساهم في تشكيل حزب الرابطة الشعبية، المعروف بحزب عوامي، ذي الميول اليسارية الطفيفة، والذي فاز فوزاً ساحقاً في باكستان الشرقية في انتخابات سنة 1954، وأبقي سهروردي أيوبَ خان في منصب وزير الدفاع.

 

وكذلك لم تدم وزارة سهروردي إلا 13 شهرا، أقالها بعدها الرئيس إسكندر ميرزا! ذلك إن سهروردي أراد تعميق النظام الفيدرالي في البلاد بواسطة منح المقاطعات صلاحيات أكثر، ولقيت خطته الاستحسان لدى الناس في باكستان الشرقية، ولكنها لقيت معارضة شديدة في باكستان الغربية من  الرابطة الإسلامية والأحزاب الأخرى، حتى اضطر سهروردي لتعديلها فخلت من مضمونها، وعلى الصعيد الاقتصادي أراد سهروردي إدخال فكرة الخطة الخمسية التي تجعل من الدولة موجهاً للاقتصاد، فعارضته في باكستان الغربية النخبة الاحتكارية ورجال الأعمال، فقد خشيت أن توّجه الحكومة كثيراً من المشاريع إلى الباكستان الشرقية التي كانت أقل تطوراً، وكان سهروردي لا يخفي عزمه على تقليل الفارق بين جناحي بلاده الشرقي والغربي.

 

وانتهز سهروردي فرصة قيام الرابطة الإسلامية بإعادة تنظيم صفوفها وتجديد قياداتها وأراد أن يتفاهم معها، وبدأ مناقشات للوصول إلى تفاهم مشترك على خطة سياسية تلم شمل البلاد، ولكن الرئيس إسكندر ميرزا، الرجل العسكري القوي الذي لم تعجبه الديمقراطية إلا إن تحكم بها، أدرك أن هذا أقوى تهديد يواجه سيطرته على مقاليد الأمور، وبخاصة أن سهروردي كان دائماً يتصدى لمحاولات الرئيس بسط نفوذه وتحكمه في الدولة، ولذا قرر أن يدفعه باتجاه الاستقالة، فرفض الاستجابة لطلبه دعوة البرلمان للانعقاد ومنحه الثقة، وهدده مراراً بالعزل، وحرك عليه صغار القيادين في حزبه ومنّاهم بالمناصب، فما كان من سهروردي إلا أن استقال في سنة 1377=1957.

 

وعين إسكندر ميرزا رئيساً جديداً للوزراء ينتمي لحزب الرابطة الإسلامية هو إسماعيل إبراهيم جندريجكار، على رأس وزارة ائتلافية تضم الحزبين الكبيرين وحزبين آخرين، ولكن الائتلاف فشل في الاتفاق على تعديل نظام الانتخابات، وبقيت الوزارة ضعيفة تراوح مكانها، وتزايد الغضب الشعبي عليها، فلم يدم جندريكار في منصبه سوى شهرين قبل أن يقدمه ميرزا قرباناً للجماهير الغاضبة، وبقي أيوب خان كذلك وزيراً للدفاع في هذه الوزارة.

 

وجاء إسكندر ميرزا برئيس جديد للوزراء ينتمي للحزب الجمهوري هو فيروز خان نون، وبقي أيوب خان وزيراً للدفاع في وزارة نون، ولكن التطورات السياسية لم تجر كما اشتهى ميرزا، ذلك إن نون وسهروردي تفاهما على أن يتعاضدا ويخوضا الانتخابات القادمة لمنصب الرئيس ورئيس الوزراء، كما أن الرابطة الإسلامية بزعامة قائدها الجديد عبد القيوم خان بدأت في العودة بقوة إلى الساحة السياسية، فما كان من الرئيس ميرزا إلا أن أقال الوزارة التي دامت قرابة 10 شهور.

 

وفي هذه المرة لم يعين الرئيس وزارة جديدة، بل قام بحل البرلمان ومجالس نواب المقاطعات، وأعلن لأول مرة في تاريخ باكستان الأحكام العرفية في 23 ربيع الأول 1378= 7 تشرين الأول/أكتوبر 1958، واستند في هذا الانقلاب إلى تأييد الجيش والجنرال أيوب خان له، وطلب ميرزا  من الجيش أن يتولى إدارة البلاد، وعين المشير محمد أيوب خان حاكماً عرفياً للبلاد، وألغى الدستور الذي جرى إقراره قبل سنتين، ووعد الأمة في بيانه الإذاعي أنه سيقوم على إعداد دستور جديد يكون أكثر انسجاماً مع عبقرية الأمة الباكستانية، فقد كان ميرزا يعتقد أن أن السياسيين بخربون البلاد، وأن الديمقراطية لا تصلح للباكستان التي يبلغ معدل الأمية فيها 85% إلا إن كانت ديمقراطية موجهة.

 

وتوهم إسكندر ميرزا أن يبقى متحكماً في البلاد والعباد، ولكنه سرعان ما تبين له أن الوحش الذي أطلقه من عقاله سيفترسه، فقد تصرف أيوب خان على أساس أن الجيش أصبح الحاكم الفعلي لباكستان، ولمس ذلك ميرزا على الفور وعبر عن ندمه بعد أسبوع من الانقلاب في مقابلة صحفية قال فيها: لم أكن راغباً في ما حدث... وسنحاول إجراء الانتخابات وإنهاء الأحكام العرفية في أقصر وقت ممكن.

 

وللخروج من موقفه الضعيف أصدر ميرزا مرسوماً بتشكيل وزارة يترأسها أيوب خان ويتكون معظم وزرائها من غير السياسيين، وضمت ذا الفقار علي بوتو في أول منصب وزاري له؛ وزيراً للمياه والطاقة، ولكن ذلك لم يرق لأيوب خان الذي كان مطلق الصلاحيات في منصب الحاكم العرفي، وكان ميرزا قد بدأ كذلك في استمالة قادة الجيش والبحرية والطيران تمهيداً لتحرك يذهب بأيوب خان، ولكن هؤلاء أخبروا أيوب خان بما يحاك من مخططات، فقام أيوب خان بإجبار الرئيس ميرزا على الاستقالة، وعجّل بإرساله إلى انجلترا منفياً حيث عاش فيها على راتب تقاعدي متواضع وعمل في مطعم باكستاني حتى وفاته إثر أزمة قلبية سنة 1389=1969، ورفض أيوب خان أن يسمح بدفنه في باكستان، فقام محمد رضا بهلوي شاه إيران بإرسال طائرة خاصة أحضرت جثمانه إلى طهران، وأجريت له فيها جنازة رسمية، لم يحضرها حتى أقاربه الذين أعاقت الحكومة الباكستانية سفرهم حتى انتهت الجنازة.

 

وفي سنة 1960 أجرى أيوب خان استفتاءاً على حكمه صوت فيه قرابة 80.000 عضو مجلس بلدي، وصوت 96% منهم بنعم على سؤال: هل تثق بالمشير محمد أيوب خان؟ واعتبر هو نتيجة التصويت تفويضاً شعبياً ليشكل نظامه الجديد، وكانت هذه المرة الأولى من مرات كثيرة تالية تدخل فيها الجيش الباكستاني تدخلاً مباشراً في حكم البلاد ورسم سياساتها.

 

وفي سنة 1961 أصدر الرئيس أيوب خان قانون جديداً للأسرة، وضع ضوابط على تعدد الزوجات منها موافقة الزوجة الأولى وإنشاء مجالس توفيق زوجية تصدر ترخيصاً للزواج من الثانية، ومن صلاحياتها كذلك التوفيق والتحكيم بين الزوجين وتقرير مبلغ نفقة الزوجة والأولاد.

 

وفي سنة 1962 دفع أيوب خان بدستوره الجديد الذي لم ينص على أن الإسلام دين الدولة، وتضمن انتخاب الرئيس بواسطة 80.000 عنصر ديمقراطي، جرت زيادتهم إلى 120.000 فيما بعد، وادعى أيوب خان أنه استلهم هذا النظام من جمعية الناخبين التي يقوم عليها النظام الانتخابي الأمريكي، وأن ملهمه السياسي هو الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون، ثالث رئيس أمريكي، واستولت حكومة أيوب خان على الصحف الرئيسية المعارضة، وذراً للرماد في العيون تضمن دستوره وجود مجلس نيابي إلا أن صلاحياته كانت جد محدودة.

 

وفي سنة 1964 بلغت ثقة أيوب خان بشعبيته مقداراً جعله يقدم على الدعوة لانتخابات رئاسية، وشجعه أن المعارضة كانت تعاني من انقسامات حادة، ولكنه فوجئ أن الأحزاب الخمسة التي تشكل المعارضة الرئيسية تناست خلافاتها بسرعة واتفقت أن ترشح ضده السيدة فاطمة جناح أخت مؤسس باكستان محمد على جناح، والتي كانت تتمتع باحترام وشعبية كبيرين، وجرت الانتخابات في أول سنة 1965 وكانت نتيجتها فوز أيوب خان بنسبة 64% من الأصوات، وهي نتيجة افتقدت إلى المصداقية حيث جرت الانتخابات بطريقة لم تلتزم بالمعايير الدولية للانتخابات الحرة، وشابها كثير من الترهيب والترغيب.

 

كان أيوب خان مستبداً عسكرياً تتوفر فيه كل خصائص المستبد: فقد كان يرى أن الديمقراطية لا تصلح لبلاده، وكان يكره السياسيين والأحزاب السياسية، ومنح نفسه وسام باكستان؛ أعظم وسام في البلاد، ورقى نفسه إلى رتبة مشير أعظم، وكانت له علاقة وثيقة بدولة عظمى، هي أمريكا في هذه الحالة، والتي بدأت في أوائل الخمسينات عندما زارها أيام كان وزيراً للدفاع في وزراة لياقة علي خان، وكان له دور في إقناعها، أيام تولى إسكندر ميرزا منصب الرئيس في عام 1958، أن من الأفضل ألا تضغط على حكومته لإجراء انتخابات في ظل ظروف مواتية لفوز التيار اليساري، مما سيضعف موقف الجيش وبالتالي يزعزع استقرار الباكستان ويضر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وتابع أيوب خان بعد استيلائه على السلطة العلاقة مع أمريكا والغرب، وقدم لوكالة المخابرات المركزية تسهيلات سرية في قاعدة بِشاور الجوية التي كانت طائرات التجسس الأمريكية يو-2 تنطلق منها للطيران على ارتفاعات عالية فوق أراضي الاتحاد السوفيتي قبل أن يتمكن الروس في سنة 1960 من إسقاط طائرة وأسر طيارها، وهو أمر ساهم في زيادة حنق روسيا وتوجهها لتعاون أوثق مع الهند.

 

وفي سنة 1962 قامت الصين الشيوعية بهجوم على شمالي الهند واستولت على آسام الشرقية التي طالبت الصين بها منذ استقلال الهند، وجاء ذلك في أوج الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي وبين المعسكر الرأسمالي، وتغيرت السياسة الأمريكية على إثر ذلك وتوجهت للتقارب مع الهند بل وتسليحها، وإزاء ذلك اتجه أيوب خان لتوثيق العلاقات مع الصين وبخاصة العلاقات العسكرية، ولا تزال السياسة الخارجية الباكستانية إلى يومنا هذا تعتبر العلاقة مع الصين ركناً ركيناً للتوازن مع الهند، وفي سنة 1963 عين أيوب خان ذا الفقار علي بوتو في منصب وزير الخارجية.

 

وكان لباكستان كذلك مطالب إقليمية مع الهند في القسم الذي بقي معها من ولاية كشمير ذات الأغلبية المسلمة، والذي أحاط بضمه للهند كثير من الخداع والتجاوزات القانونية، وفي أبريل 1965 قامت الباكستان بمناوشات اختبرت فيها المقدرات الدفاعية الهندية في السند وفي كشمير، وحققت فيها القوات الباكستانية انتصارات جيدة، ثم توقفت المناوشات بتدخل دول رابطة الكومونولث والأمم المتحدة، ولكن بوتو اعتقد أن الباكستان يمكن أن تحقق انتصاراً خاطفاً عبر المنطقة الضيقة من كشمير وتخنق القوات الهندية المتبقية فيها، وألح على شن هجوم آخر وافقه عليه الرئيس أيوب خان رغم معارضة وزراء آخرين.

 

وفي أغسطس 1965 شنت الباكستان هجوماً شاملاً على القسم الهندي من كشمير بغرض ضمه للباكستان، ولكن الحرب التي دامت أسبوعين لم تأت بالنتائج المرجوة، فقد شنت القوات الهندية هجوماً بالدبابات على 3 محاور استهدف لاهور وسيالكوت ونجح في الاقتراب من لاهور، ووافق الطرفان على قرار للأمم المتحدة نص على وقف إطلاق النار وعودة القوات إلى مواقعها قبل الحرب.

 

وكانت نتائج الحرب سيئة للطرفين، فقد كانت خسائرهما بالغة، وكادت الذخائر عندهما أن تنضب بسبب حظر على تصدير السلاح فرضته بريطانيا والولايات المتحدة، وخسرت الباكستان مساعدات غربية مقدارها 500 مليون دولار كل سنة، وانتهت الأمور إلى عقد مؤتمر في يناير 1966 في طشقند برعاية الاتحاد السوفيتيي حضره أيوب خان ورئيس الوزراء الهندي شاستري، وتكلل بإعلان الطرفين عملهما على إعادة العلاقات الطبيعية والسلمية، وهو الاتفاق الذي لم يدم طويلاً فقد مات شاستري بنوبة قلبية في طشقند، وخلفته وزيرة إعلامه أنديرا غاندي التي سارت بالبلاد في الاتجاه المعاكس.

 

وعلى الصعيد الاقتصادي كانت سياسات أيوب خان رأسمالية بحتة، وتميز عهده بقيام عدد كبير من المصانع ومشاريع الري والزراعة، وأثمر ذلك في نمو سنوي جيد في باكستان الغربية، واكبه نقص سنوي مضطرد في باكستان الشرقية، وقد صاحب ذلك النمو في باكستان الغربية توزيع مجحف للثروة، فكان الأغنياء يزدادون ثراء فيما ينحدر الفقراء في العوز والبؤس، ويكفي أن نذكر أن 22 عائلة كانت تسيطر على 66% من المصانع و80% من البنوك وشركات التأمين.

 

ولاهتمامه بالجانب الاقتصادي خفض أيوب خان الإنفاق العسكري وميزانية هيئة الطاقة الذرية الباكستانية التي أسسها رئيس الوزراء سهروردي في سنة 1958، وهنا حادثة ينبغي إيرادها، ففي سنة 1965 طلب العالم النووي الباكستاني منير أحمد خان بصورة عاجلة مقابلة مسؤول باكستاني، فقابله في لندن ذو الفقار علي بوتو وزير خارجية أيوب خان آنذاك، وأخبره منير أنه بحكم عمله في وكالة الطاقة الذرية الدولية قد اطلع على أن الهند قد بدأت في إنشاء برنامج نووي، فجمعه بوتو على الفور على انفراد مع الرئيس أيوب خان، وشرح له العالم عواقب القوة النووية الهندية على الباكستان ،وأن لإسرائيل كذلك مشروع مماثل، وأنه ما من عائق - آنذاك -  يحول بين الباكستان وبين تأسيس قوة نووية، ولما سأله الرئيس عن تكلفة ذلك، قدرها منير بمبلغ 150 مليون دولار، وكان جواب أيوب خان أن الباكستان أفقر من أن تستطيع إنفاق ذلك على القنبلة النووية، وأنها لو احتاجتها فستشتريها جاهزة في المستقبل!

 

على أنه في جانب آخر استطاع عالم الفيزياء محمد عبد السلام، المولود سنة 1344=1926والمتوفى سنة 1417=1996، إقناع أيوب خان بإنشاء برنامج صواريخ باكستاني تحت اسم وكالة الفضاء الباكستانية، وتولى عبد السلام إدارة المشروع الذي حقق نجاحاً جيداً لا تزال آثاره إلى اليوم في الصواريخ الباكستانية العابرة للقارات، وإن كان تقليص النفقات قد ناله مع المشاريع العسكرية الأخرى.

 

و كما هو الحال مع أكثر المستبدين، جاء سقوط أيوب خان بسبب الاقتصاد، رغم ضعف شعبيته قبل ذلك، وبخاصة بعد اتفاق طشقند الذي استقال بسببه بوتو من وزارة الخارجية، واعتبره أغلب الشعب  الباكستاني خيانة لتضحياته وتنازلاً لا يغفر مقابل الهند.

 

فقد توالت الشائعات حول الفساد والثروة غير المشروعة التي جمعها ابنه جوهر، وكانت السياسة المركزية المطلقة التي سار عليها أيوب خان تظهر لأهل باكستان الشرقية أنه مع أكيد علمه بمعاناتهم لم يهتم بشؤونهم، وكانت أحوالهم الاقتصادية المتردية تزيد في شعبية حزب الرابطة الشعبية، عوامي، المنادي بالاشتراكية والذي ترأسه من قريب مجيب الرحمن، وتفاقمت النقمة إلى حد أن أيوب خان تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة خلال زيارة له لباكستان الشرقية، وجاءت قاصمة الظهر عندما نجحت الاحتكارات في تخزين السكر والتلاعب بأسعاره لتزيد زيادة فاحشة، فهب الشعب كله في مظاهرات يطالب باستقالة أيوب خان، وكان ذو الفقار علي بوتو يؤجج الجماهير بخطبه المدوية المنددة بالطغيان والفساد، وينادي بالديمقراطية، ورد ساخراً على ادعاء أيوب خان أنها لا تصلح للباكستان مشيراً أن الهند الأفقر والأكثر جهلاً نجحت في اتخاذها طريقا للحكم وإدارة البلاد.

 

وتفاقمت الأزمة تفاقماً كبيراً، وبدا أن الجيش بدأ في الانفضاض من حول أيوب خان، فقرر هو أن الوقت قد حان للانسحاب من الساحة السياسية، وبدأ في التفاوض مع معارضيه باستثناء علي بوتو الذي استمر في الضغط عليه للاستقالة، وفي السادس من المحرم من عام 1389 استقال أيوب خان فجأة، ولكنه بدلاً من أن ينقل سلطاته إلى رئيس البرلمان كما يقتضي الدستور الذي وضعه هو، تذرع بأن الأوضاع أعقد من أن تستطيع حكومة مدنية معالجتها، وقام بتسليم السلطة إلى الفريق يحيى خان رئيس القوات المسلحة، والذي كان ساعده الأيمن الوفي، والذي كان قد عينه في هذا المنصب قبل 3 سنوات متجاوزاً 7 ضباط كانوا أحق بالمنصب منه، وهكذا أصبح الفريق يحيى خان ثالث رئيس لباكستان!

 

ولد يحيى خان في الهند سنة 1917، وعمل ضابطاً في جيش الهند البريطاني سنة 1938، وقاتل معه في ليبيا في الحرب العالمية الثانية حيث أسره الإيطاليون فأفلت من الأسر بعد محاولته الثالثة وعاد يقاتل في صفوف الجيش البريطاني، ولما استقلت الباكستان اختار الالتحاق بها، ورقي إلى رتبة عميد وهو في سن الرابعة والثلاثين، وعُرف عنه ولعه بالخمر والنساء، وكان له دور كبير في دعم أيوب خان في انتخابات سنة 1965 فكافأه على ذلك بترقيته إلى لواء وتعيينه قائداً لفرقة المشاة السابعة، وهي الفرقة التي اخترق الجيش الهندي خطوطها في حرب 1965 وتقدم في الأراضي الباكستانية حتى أصبحت لاهور في مرمى دباباته.

 

ورغم هذا الإخفاق المشين رقاه أيوب خان إلى رتبة فريق، وبعد فترة من تعيينه نائباً لرئيس القوات المسلحة، جعله كما أسلفنا قائداً لها، وسط استياء عامة الشعب وكبار الضباط، ثم أتى به ليصبح رئيس جمهورية باكستان الإسلامية، ويظهر على التلفاز الباكستاني معلناً الأحكام العرفية وإلغاء الدستور وحل البرلمان والوزارة المدنية، ويهدد بأنه: لن يتساهل مع الفوضى، فليزم كل امرئ حدوده!

 

ووعد يحيى خان بإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، ومما يذكر له أنه وفى بوعده، فباشر في الإعداد لها، وقام بإصلاحات في قانون الانتخابات والبرلمان أعادت الطابع الديمقراطي للانتخابات وللبرلمان الذي ستأتي به.

 

وأجرى يحيى خان انتخابات نزيهة في آخر سنة 1970، وكانت نتيجتها نتيجة سيئة أظهرت انقسام البلاد فعلياً، ففي باكستان الشرقية فاز حزب عوامي برئاسة مجيب الرحمن، ولكنه لم يحصل على أي مقعد في غرب البلاد التي كانت من نصيب حزب الشعب برئاسة ذي الفقار على بوتو، واستطاع أعرق الأحزاب الباكستانية؛ حزب الرابطة الإسلامية، أن يحصل على مقاعد في الشرق والغرب، ولكنها كانت 10 مقاعد لا تغني ولا تسمن!

 

وبدت نذر انقسام البلاد في الأفق واضحة جلية، فقد خاض مجيب الرحمن الانتخابات على أساس برنامج أسماه النقاط الست، كان من الواضح أنه خطوة على طريق الانفصال، وعلمت الاستخبارات الباكستانية أنه قد التقى قبل الانتخابات في لندن بمسؤولين هنود واتفق معهم على الانفصال عن باكستان، ولذا لم يكن عجباً أن تفشل المفاوضات بين بوتو وحزب الشعب وبين مجيب الرحمن وحزب عوامي على تشكيل حكومة باكستانية مشتركة تقوم بإصلاحات منها توسيع صلاحيات حكومة باكستان الشرقية.

 

وفي ظل هذا الجمود السياسي كانت الأعمال المسلحة في باكستان الشرقية تزداد كماً وكيفاً وجرأة، وانشق عن الجيش الباكستاني عدد من الجنود والضباط وبدأوا حرب عصابات في البنغال، وقرر يحيى خان القضاء على بؤر الانفصال العسكرية والسياسية في عملية عسكرية شاملة، ولكنها لم تحقق النجاح المتوقع، فقد كانت المقاومة البنغالية، ومن ورائها الدعم الهندي، أعتى مما توقعه العسكريون، واضطروا بعد شهر للتوقف بعد أن قتلوا عشرات الآلاف، وأعلن مجيب الرحمن استقلال البلاد فاعتقله  يحيى خان بتهمة الخيانة العظمى، وأصدرت محكمة عسكرية حكمها عليه بالإعدام، فزاد هذا في حنق البنغاليين الذين أعلنوا حرب تحرير انضمت إليهم فيها قوات هندية، وآلت في النهاية إلى هزيمة ساحقة واستسلام  مذل للجيش الباكستاني في آخر سنة 1971، وتسلمت البلاد حكومة مجيب الرحمن في أول سنة 1972، وتلا ذلك أعمال انتقام فظيعة من معارضي الانفصال وبخاصة ممن قاتلوا مع القوات الباكستانية.

 

ولم يكن مجيب الرحمن إلا مستبداً آخر ارتدى ثوباً بنغالياً، ورغم أنه نال الأغلبية الساحقة في انتخابات جرت عام 1973 إلا أن سار بالبلاد على طريق الاستبداد والفساد والمحسوبية، ونزلت بالبلاد مجاعة في سنة 1974 مات من جراءها 50.000 شخص، وما لبث الجيش أن قام في أواخر سنة 1975 أن انقلب على مجيب الرحمن وقتله مع أغلب أفراد أسرته.

 

نعود إلى يحيى خان، الذي خرجت الجموع في الباكستان تطالب باستقالته بعد أن بلغتها الهزيمة المنكرة في باكستان الشرقية، وبدأت الشائعات تتحدث عن انقلاب عسكري وشيك يقوم به صغار الضباط الذين آلمهم حال البلاد وفساد الحكام، فقام يحيى خان في ذي القعدة 1391= ديسمبر 1971 بالاستقالة وتسليم رئاسة الباكستان لذي الفقار علي بوتو بصفته زعيم الحزب الذي حاز أكثر الأصوات في الانتخابات الأخيرة، وأصدر ذو الفقار أوامره بوضع يحيى خان تحت الإقامة الجبرية، فبقي فيها سنوات، ثم وافته المنية في أواخر سنة 1980.

 

تلك صفحات من تاريخ باكستان، ولنا عودة إليها بعد حين.

 

?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين