صفاته الخلقيّة وجمال صورته صلى الله عليه وسلم

لقد أجمعت كلمة كلّ من كتب في السيرة، ونقل وقائعها وأحداثها بدقّة على كمال خلقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجمال صورته، وأنّ الله تعالى جمع له محاسن الشرف من أطرافها؛ فهو أشرف الناس أصلاً ونسباً، وأجملهم خِلقةً وصورة، وأعظمهم خُلُقاً، وقد كان شرفُ نسبِه، وطِيبُ مَحتِدِه قرين جمال صورته، وكمال خلقته، وكان ذلك محلّ بداهة في قومه، فلا يعرف اللبس أو الجدل، فهذا عتبةُ بنُ ربيعة، وهو زعيم من كبار زعماء قريش، يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم، بعدما صدع النبيّ صلوات الله عليه وسلامه بدعوته: " يا ابن أخي إنّك منّا حيث قد علمت؛ من السطَة في العشيرة، والمكان في النسب.. " [سيرة ابن هشام 1/293/، والسطة على وزن عِدة، ومعناها الشرف والخيريّة، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا... }[البقرة:143]، أي عدولاً خياراً].

وتحدّث النبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا حباه الله تعالى من شرف النسب والأصل، فجاء في الحديث الشريف عَنِ المُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ: فَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَقَالَ: (أيُّها النَّاسُ ! مَنْ أَنَا ؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ الله، فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إِنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتاً، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتاً، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتاً، وَخَيْرُكُمْ نَفْساً) [رواه الترمذي في الدعوات /3455/، وفي المناقب /3541/ وقال: هذا حديث حسن، ورواه أحمد في المسند /24139/ واللفظ له].

كما عرّف الناس ببعض أسمائه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنّ كثرة الأسماء من شرف المسمّى، فجاء في الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالمُقَفِّي، وَالحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4344/].

وأما صفته الخِلقيّة:

فقد جاء في ذلك ما رواه إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ المُمَّغِطِ، وَلا بِالْقَصِيرِ المُتَرَدِّدِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبِطِ، كَانَ جَعْداً رَجِلاً، وَلَمْ يَكُنْ بِالمُطَهَّمِ، وَلا بِالمُكَلْثَمِ، وَكَانَ فِي الْوَجْهِ تَدْوِيرٌ، أَبْيَضُ مُشْرَبٌ، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، أَهْدَبُ الأشْفَارِ، جَلِيلُ المُشَاشِ وَالْكَتَدِ، أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ، شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعاً، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدُ النَّاسِ كَفَّاً، وَأَشْرَحُهُمْ صَدْراً، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ) [رواه الترمذي في سننه /3571/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ].

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ الأَصْمَعِيَّ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِهِ صِفَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

ـ المُمَّغِطُ: الذَّاهِبُ طُولاً، وَسَمِعْتُ أَعْرَابِيّاً يَقُولُ: تَمَغَّطَ فِي نُشَّابَةٍ أَيْ مَدَّهَا مَدّاً شَدِيداً.

ـ وَأَمَّا المُتَرَدِّدُ: فَالدَّاخِلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ قِصَراً.

ـ وَأَمَّا الْقَطَطُ: فَالشَّدِيدُ الجُعُودَةِ، وَالرَّجِلُ الَّذِي فِي شَعْرِهِ حُجُونَةٌ، أَيْ يَنْحَنِي قَلِيلاً.

ـ وَأَمَّا المُطَهَّمُ: فَالْبَادِنُ الْكَثِيرُ اللَّحْمِ.

ـ وَأَمَّا المُكَلْثَمُ: فَالمُدَوَّرُ الْوَجْهِ.

ـ وَأَمَّا المُشْرَبُ: فَهُوَ الَّذِي فِي نَاصِيَتِهِ حُمْرَةٌ.

ـ وَالأدْعَجُ: الشَّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ.

ـ وَالأهْدَبُ الطَّوِيلُ الأشْفَارِ.

ـ وَالْكَتَدُ: مُجْتَمَعُ الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ الْكَاهِلُ.

ـ وَالمَسْرُبَةُ: هُوَ الشَّعْرُ الدَّقِيقُ الَّذِي هُوَ كَأَنَّهُ قَضِيبٌ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى السُّرَّةِ.

ـ وَالشَّثْنُ: الْغَلِيظُ الأصَابِعِ مِنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ.

ـ وَالتَّقَلُّعُ: أَنْ يَمْشِيَ بِقُوَّةٍ.

ـ وَالصَّبَبُ: الحُدُورُ، يَقُولُ: انْحَدَرْنَا فِي صَبُوبٍ وَصَبَبٍ.

ـ وَقَوْلُهُ: جَلِيلُ المُشَاشِ يُرِيدُ رُءُوسَ المَنَاكِبِ.

ـ وَالْعِشْرَةُ: الصُّحْبَةُ، وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ.

ـ وَالْبَدِيهَةُ: المُفَاجَأَةُ، يُقَالُ: بَدَهْتُهُ بِأَمْرٍ أَيْ فَجَأْتُهُ.

وعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، ضَخْمَ الرَّأْسِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، طَوِيلَ المَسْرُبَةِ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤاً كَأَنَّمَا انْحَطَّ مِنْ صَبَبٍ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ " [رواه الترمذي في المناقب /3570/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ورواه أحمد في المسند].

وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ، وَلَيْسَ بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بِالجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ الله عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ الله عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ. [رواه البخاري في اللباس/5449/وفي المناقب/3284/و/3285/ومسلم في الفضائل /4330/].

ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: (.. وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ) [رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم /173/ في حديث طويل عنه].

ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّمَا الأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ) [رواه الترمذي في كتاب المناقب عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم برقم /3581/، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ].

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ (أي ليلة اكتمال القمر) فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى القَمَرِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا هُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنْ القَمَرِ) [رواه الترمذي في كتاب الأدب عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم برقم /2735/، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ حَدِيثِ الأَشْعَثِ].

أمّ معبد الخزاعيّة تصف النبيّ صلى الله عليه وسلم وَصفاً جَامِعاً:

مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة بقديد بأمّ معبد الخزاعيّة، وهي عاتكة بنت خالد، وكانت برزة جلدة، تحتبي بفناء القُبّة، ثمّ تسقي، وتطعم من يمرّ بها، وكان القومُ مُرملين مُسنتين، فسألوها: هل عندها لبن أو لحم يشترونه ؟ فلم يجدوا عندها شيئاً، وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.

ثمِّ جرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم معجزة عندها، إذ حلب لها من شاةٍ عجفاء مجهدة، وشرب هو ومن معه، وترك لها بقيّة، وعندما حضر زوجها أبو معبد، حدّثته بما رأت من العجب من هذا الرجل المبارك، فقال لها: صفيه لي يا أمّ معبد.

فقالت: " رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، مبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تُزرِ به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزجّ أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سَطح، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلّم سما وعلاه البهاء، وكأنّ منطقه خرزات نظمٍ يتحدّرن، حلو المنطق، فصل، لا نزر، ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة، لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس، ولا مفنّد ". قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتّبعته، ولأجهدنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلاً " [روى قصّتها البيهقيّ وابن خزيمة، والحاكم وصحّحها وصاحب الغيلانيّات، ومن طريقه اليعمريّ عن أبي سليط الأنصاريّ البدريّ، وابن عبد البرّ، وابن شاهين، وابن السكن، والطبرانيّ، وانظر أيضاً البداية والنهاية 3/192، وشرح المواهب 1/410 والاستيعاب، وعيون الأثر، والسيرة النبويّة للشيخ محمّد أبو شهبة 1/488.].

شرح المفردات:

(برزة) ضخمة عفيفة مسنّة، فلم تتخدّر لسنّها، وخرجت من حدّ المحجوبات.

(جلدة) قويّة.

(فناء القُبّة) الفناء المكان الواسع أمام البيت أو القبّة وهي الخيمة.

(مُرملين) نفدت أزوادهم.

(مُسنتين) أصابتهم سنة أي جدب.

(القرى) القرى إكرام الضيف أي ما منعناه عنكم.

(الوضاءة) الحسن والبهجة.

(مبلج الوجه) مشرقه.

(حسن الخلق) بفتح الخاء وسكون اللام أو بضمّهما، وقد عرفت ذلك من تواضعه وحسن معاملته لرفقته.

(ثجلة) بفتح الثاء وسكون الجيم: عظم البطن.

(صعلة) صغر الرأس.

(دعج) شدّة سواد العينين.

أشفاره: رموش عينيه، وطف: طول وغزارة.

(صحل) بفتح الصاد والحاء بحّة خفيفة، فليس في صوته غلظ.

الحور بفتح الحاء والواو: شدّة بياض العينين، وشدّة سواد سوادهما.

الكحل بفتح الكاف والحاء سواد في أجفان العينين خلقة، والرجل أكحل وكحيل، والمرأة كحلاء.

(أزجّ) دقيق الحاجبين في طول.

(أقرن) مقرون الحاجبين.

(سَطح) ارتفاع وطول.

(كثاثة) غزارة من غير دقّة.

(وكأنّ منطقه خرزات نظمٍ يتحدّرن) أي كلام متناسق، ومتّصل بعضه ببعض، فأشبه في تناسقه الدرر، وفي تواليه الخرزات إذا تتابعت.

(فصل) بسكون الصاد: أي كلام بيّن، يفصل الحقّ من الباطل، أو تفسيره ما بعده.

(لا نزر) قليل الكلام.

(لا هذر) أي: كثير الكلام فهو وسط بين هذا وذاك.

(أجهر) أرفعهم صوتاً من غير إفراط مع الوضوح.

(لا تشنؤه من طول) لا يُبغَض لفرط طوله.

(لا تقتحمه عين من قصر) لا تتجاوزه إلى غيره ازدراء له وإعراضاً.

(محفود): مخدوم، (محشود): عنده حشد، وهم الجماعة.

(عابس) مقطّب الوجه، و(المفنِّد) بكسر النون مع التشديد: اسم فاعل، وهو الذي يكثر اللوم.

***

ولقد كان كمال الخلقة وجمال الصورة معبّراً عن طيب المعدن وسويّة النفس، وكمال فضائلها، وحسن استعدادها، فربّما دلّ خلل واحد في تلك على نقيصة في هذه، تقوم عليها صفات رئيسة في حياة الإنسان، ولقد عرف العرب استشراف أسرار باطن الإنسان من صورته الظاهرة، وهو ما يعرف " بعلم الفراسة "، وقد لحظ ذلك الأديب الرافعيّ رحمه الله، فربط بين الصفات الخِلقيّة، وبين الصفات الخُلقيّة العظيمة، التي كان عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول بعدما نقل رواية من صفاته الجسميّة صلى الله عليه وسلم: ".. فتأمّل أنت هذه الصفات، واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنّك متوّسم منها أروع ما عسى أن تدلّ عليه دلائل الحكمة، وسمة الفضيلة، وشدّة النفس، وبعد الهمّة، ونفاذ العزيمة، وإحكام خطّة الرأي، وإحراز جانب الخلق الإنسانيّ الكريم ".

" وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها، وتسع الإنسانيّة بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنّه ملك من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنّه فلك من الأفلاك، وما خصّ بتلك الصفات إلاّ ليملأ بها الكون ويعمّه، ولا كان فرداً في أَخلاقه إلاّ لتكونَ من أخلاقه روح الأمّة " [تاريخ آداب العرب 2/291/]

ولا عجب بعد ذلك أن كان هذا الجمال في الخلقة الذي لا يوصف، والسلامة في البنية أن يتبعهما قوّة نفسيّة وجسميّة لا تبارى، تسخّر في الدعوة إلى دين الله، وتبليغ رسالته، ونشهد آية من ذلك في هذا الموقف المعبّر من أحداث السيرة العطرة:

" كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطّلب بنِ عبد منَاف أشدّ قريش قوّة وبأساً، فخلا يوماً برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكّة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ! ألا تتّقي الله، وتقبل ما أدعوك إليه.؟! قال: إنّي لو أعلم أنّ الذي تقول حقّ لاتّبعتك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أنّ ما أقول حقّ.؟ قال: نعم، قال: فقم حتّى أصارعك، قال: فقام إليه ركانة يصارعه، فلّما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضجعه وهو لا يملك من نفسِهِ شيئاً، ثمّ قال: عد يا محمّد، فعاد فصرعه فقال: يا محمّد، والله إنّ هذا للعجب ! أتصرعني ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتّقيت الله واتّبعت أمري، قال: ما هو.؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني، قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتّى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لها: ارجعي إلى مكانك، قال: فرجعت إلى مكانها.

قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قطّ، ثمّ أخبرهم بالذي رأى، والذي صنع " [سيرة ابن هشام 1/391/].

ومع ما رأيت من قوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم البدنيّة، وصرعه أقوى من عُرف مُصارعاً بين العرب، فهل استخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم قوّته البدنيّة للدفاع عن نفسه في مواجهة عدوان المشركين عَلى بدنه.؟! وما أكثر ما اعتدوا عليه وآذوه ! وكان يسعه ذلك، ويقدر عليه، ولو دافع عن نفسه لما لامه لائم، ولما استطاع أحد أن ينتقص من مكانته وقدره.. ولكنّه كان يرسم من بعده للدعاة منهجاً، ويختطّ لأمّته بأمر ربّه ووحيه سيرة تحتذى، ويريد لحملة الدعوة إلى الله من بعده أن يخلصوا لله في دعوتهم، ويتجرّدوا عن حظوظ أنفسهم، وعندئذٍ لن تكون الغلبة بإذن الله إلاّ لهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين