عناصر المادة
1- أثر قسوة القلب على الفرد والمجتمع2- أسباب قسوة القلب، وعلاجها
مقدمة:
مخلوقٌ صغيرٌ: إن استنار بنور الهدى، وأشرقت جوانبه بالإيمان؛ فاض على الجوارح شفقةً ومحبّةً ولطفًا، وإذا أظلم وفسد؛ قسا وغلظ، حتّى يكون أشدّ مِن الحجارة، فتُظلم جوانحه، وتفيض على الجوارح سوءًا وفسادًا، وظلمًا وجبروتًا، فيهوي حتّى يكون بمنزلةٍ أدنى مِن منزلة البهائم، أتدرون ما هو هذا المخلوق الصّغير؟ إنّه القلب.
القلب: محلّ التّفكير والفهم، يقرأ ما في الكون مِن صُنع الخالق، فيتأمّل دلائل العظمة ومواطن الإبداع، فيُرسل ذلك للجوارح، عَنِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (... أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ). [ 1 ]
فهناك قلوبٌ مطمئنّةٌ هادئةٌ مَهديّةٌ، يُشرق فيها الإيمان، فتأنس بذكر الله جل جلاله، وتنعم بالطّاعة، فهي بين ذكرٍ ودعاءٍ، وطاعةٍ وعبادةٍ، وعلى العكس، فهناك قلوبٌ قاسيةٌ مظلمةٌ، لا تنتفع بالموعظة، ولا تؤثّر فيها النّصيحة، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
إنّ عموم الآية يشير إلى كلّ مَن ابتلي بهذا الدّاء الرّوحيّ والمرض القلبيّ، الّذي بات مِن أكثر الأدواء انتشارًا، وأشدّها فتكًا بقلوب المسلمين، فالقلب قابلٌ للتّأثّر بآيات الله عز وجل وعظمته، ومهيّأٌ لمعاملة النّاس بالرّأفة والرّحمة واللّين، إلّا أنّه قد ينقلب في بعض الأحيان إلى أشدّ مِن الصّخور في الصّلابة والغلظة، إذا عُرض عليه عارض الجحود والاستكبار، ولقد توعّد الله سبحانه أصحاب هذه القلوب القاسية فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزّمر: 22].
فلا تلين قلوبهم لكتابه، ولا تتذكّر بآياته، ولا تطمئنّ بذكره، بل هي معرضةٌ عن ربّها سبحانه، فهؤلاء لهم الويل الشّديد والشّرّ الكبير. [ 2 ]
قلوبٌ أظلمت فعميت عن الحقّ، فهي تترنّح بالكفر والنّفاق، كما قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجّ: 46].
فكان لهذه القسوة آثارٌ سلبيّةٌ على أصحابها، بل على المجتمع بأسره، ممّا يوجب على كلّ فردٍ منّا أن يتفقّد قلبه، فإن وجده مريضًا شخّص الدّاء، وبحث عن الدّواء، وإن وجده سليمًا معافىً حمد ربّه على أن أصلح له قلبه.
1- أثر قسوة القلب على الفرد والمجتمع
إنّ الأمراض الّتي تصيب الإنسان نوعان: فمنها ما يصيب الأبدان، ومنها ما يصيب القلوب، وإنّ أمراض القلوب لهي أشدّ فتكًا وأعظم خطرًا، ذلك أنّها مرتعٌ خصبٌ للشّيطان، وإنّ مِن أخطر هذه الأمراض مرض قسوة القلب، ذلكم الدّاء القاتل والوباء الفاتك، فالقلب القاسي بعيدٌ عن الرّحمن، معرضٌ عن الحقّ، سريعٌ إلى الفسق، سريع التّأثّر بالشّبهات والوقوع في الضّلال، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحجّ: 53].
فمَن قسا قلبه لا يتأثّر لآلام المسلمين، ولا يحزن لجراحاتهم، ولا تؤلمه بِرَكُ الدّماء وتطاير الأشلاء، فلا ينصر مظلومًا، ولا يردع ظالمًا، ولا يواسي فقيرًا، ولا يرحم يتيمًا، فأيّ قسوةٍ في قلبٍ لم يهتمَّ لأمر المسلمين! ولا يتمعّر وجهه عند رؤية المنكرات، فتجده لا يتألّم للتّقصير في الطّاعات، وفوات مواسم الخيرات، ولقد وصف ربّنا جل جلاله المؤمنين البكّائين فقال: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التّوبة: 92].
ولكن إذا قسا القلب جفّت المآقي، وإذا رقّ فاضت العيون.
ولو أنّ عينًا ساعدت لتوكّفت سحائبها بالدّمع ديمًا وهطّلًا
ولكنهّا عن قسوة القلب قحطُها فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللًا
ولقد نادى الله عز وجل على المؤمنين نداءً يأخذ بالألباب، ويهزّ المشاعر، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].
عَنْ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الْآيَة إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ". [ 3 ]
وانظروا إلى هذه اللّفتة البديعة بعد هذه الآية، حيث قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17].
وذلك أنّ الأرض قد تجدب فيقلّ ماؤها، ويذهب بهاؤها، فإذا جاءها الغيث أزهرت وأثمرت، قال تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحجّ: 5].
كذلكم القلب قد يتكّدر صفوه، ويقلّ خشوعه، ولكن إذا سُقي بماء القرآن، وأُسعف برحيق الهدى، وصُقل بعبير الإيمان، ذهبت قسوته، وعادت له رقّته.
2- أسباب قسوة القلب، وعلاجها
إنّ مَن يجول ويصول -اليوم- في الكثير مِن أماكن اجتماع النّاس، كالمصانع والدّوائر الحكومية والأسواق وغيرها، يجد أنّ هذا الدّاء قد بات يهدّد الكثير من القلوب، وإنّه ليُفاجَأ بقلوبٍ قاسيةٍ غليظةٍ، لا تنفعها عبرةٌ، ولا تستفيد من أوقاتٍ شريفةٍ، ولا أزمنةٍ مليئةٍ بالعبر، كالوباء والبلاء، والحوادث والكوارث، ولا تتأثّر لسماع القرآن، قلوبٍ قست وغلظت، وجفت وأعرضت، وإنّ لهذه القسوة أسبابًا كثيرةً، تزداد هذه القلوب قسوةً كلّما تعدّدت الأسباب، ولعلّ مِن أهمّها: مرض الغفلة، ذلكم الدّاء الوبيل، والمرض الخطير، الّذي إن استحوذ على القلوب، وتمكّن مِن النّفوس، أدّى إلى انغلاق كلّ أبواب الهداية، وحصل الختم، قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النّحل: 108].
قلوبهم قاسيةٌ لا ترقّ ولا تلين، فكأنّها قُدّت من صخورٍ صمّاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
كما أنّ مصاحبة أهل الفجور والمعاصي ممّا يقسّي القلب أيضًا.
لا يمكن أن يستقيم قلب العبد على الإيمان حتّى يكون سليمًا من الشّبهات والشّهوات، وعندئذٍ يصبح أفضل النّاس، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ). [ 4 ]
وإنّ الأمور الّتي تُعين على صلاح القلب ورقّته كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، ولعلّ مِن أهمّها: تدبّر القرآن والتّفكّر في معانيه، والإكثار من ذكره عز وجل، والتّضرّع بين يديه، فإنّ الغاية مِن القرآن تدبّر آياته، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
فالقرآن شفاءٌ لأمراض القلوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57].
وبذكر الله اطمئنان القلب، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرّعد: 28].
والله سبحانه يقلّب القلوب كيف يشاء، فلا بدّ للمرء مِن أن يسأل ربّه التّثبيت لقلبه، وهذا مِن هديه صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عز وجل يُقَلِّبُهَا). [ 5 ]
خاتمةٌ:
لم يعد مرض القلب -إذن- مرضًا نادرًا، كما كان عليه الأمر في زمن السّلف الصّالح، وإنّما أضحى اليوم وباءً يجتاح القلوب، ويُفسد الأرواح، ويحتاج بإلحاحٍ إلى العلماء والدّعاة الرّبانيّين، المختصّين بعلاج أمراض القلوب والأرواح، لتعالج قلوبًا استمرأت الذّنوب، واستهانت بالمعاصي، قلّ نكيرها، وضعف إيمانها، فتلاشت حلاوة الإيمان، وضعفت غيرتها للرّحمن، فالقلب محلّ الإيمان والمحبّة والخشوع، وأعمال القلوب آكدُ شُعب الإيمان، وصلاحٌ لسائر الأعمال، وسعادة الفرد والمجتمع منوطةٌ بصلاح القلوب، الّذي ينتج عنه استقامة الجوارح، ولذا كان لا بدّ للعبد مِن أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربّه سبحانه، ومحاسبة نفسه، وتعداد ذنوبه، والعمل على إصلاح قلبه، فقسوة القلب تلين بالإيمان، والإكثار مِن ذكر الرّحمن، وتدبّر آيات القرآن، فتخشع القلوب لخالقها، وتلين أمام بارئها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. [الأنفال: 2].
1 - البخاريّ: 52
2 - تفسير السّعديّ: 1/722
3 - صحيح مسلم: 3027
4 - سنن ابن ماجه: 4216
5 - مسند أحمد: 12107
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول