صراع بين رسالتين

 

 

كان بنو إسرائيل أول أمرهم ممثلين لعقيدة التوحيد وسط شعوب قلما تعرف حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر.

 

والانفراد بعقيدة صحيحة بين أمم ضالة يتطلب غير قليل من العناء والمصابرة، فقد يسأم الإنسان تكاليف الغربة الروحية، وقد يبتلى بمن يضيق به وبعقيدته ويحاول فتنته عنها...

 

ومن هنا رأينا يعقوب عليه السلام يجمع أبناءه قبيل موته، ويريد أن يطمئن على مسيرتهم بعد أن يغادر الحياة، ترى أيظلون على الإيمان الذي شرفوا به، أم يتَّبعون غيرهم على الشرك والفساد؟!

 

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] {البقرة:133}.

 

وكلمة الإسلام قديماً وحديثاً هي العنوان الفذّ للدين الأثير عند الله، بما يتضمنه هذا الدين من توحيد للخالق واستقامة على أمره وإنفاذ لوصاياه، وإقامة لأحكامه.

 

وقد كان يوسف الصدِّيق عليه السلام أشرف رجال هذه الأسرة، وأصلح أولاد يعقوب عليه السلام وأرعاهم لتعاليم أبيه في حياته وبعد مماته.

 

وكان يقدِّر نعمة الاختيار الإلهي لبيت يعقوب كي يحرس التوحيد ويرفع لواءه.

 

ولذلك رأيناه في السجن ينتهز الفرص فيدعو المسجونين إلى الله وينفرهم من الوثنيَّة ويشرح لهم معالم الإيمان الحق...

 

وكان السجناء قد لحظوا قدرته على استنباط الغيوب من خلال تعبير الرؤيا، فقال لهم يوسف:[ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ] {يوسف:38}.

 

ويوسف بهذه الكلمات ينوّه بمكانة أسرته، ووظيفتها الرفيعة في قيادة الناس إلى الله الواحد، ونبذ الوثنية السائدة على عهده.

 

ولذلك يتابع نصحه لرفقاء السجن قائلاً:[يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:40}.

 

ومن الإنصاف أن نقول: إن أبناء يعقوب في تاريخهم المتقدم، وفوا بعهدهم لأبيهم، وقاوموا أمواج الوثنية التي حاولت أن تجرفهم، ولعلهم تحملوا في ذلك آلاماً رهيبة.

 

وأي آلام أبشع من تذبيح الأبناء واستحياء النساء؟ لكنهم مع تلك المحن لم يفقدوا شخصيتهم، ولم يذوبوا في غيرهم ولم ينسوا أصل رسالتهم.

 

وفي ذلك يقول القرآن الكريم عنهم: [وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ] {الدُخان:33}.

 

لكن بني إسرائيل مع سير الزمان، واختلاف الليل والنهار ،أخذوا يبددون أمجادهم، ويغاضبون ربهم ، ويتنكرون لمواريثهم، ولم ينشأ هذا الانحراف من غلبة عدو عليهم وتأثيره فيهم، بل نشأ من اغترارهم بالله وجراءتهم عليه وابتذالهم لنعمه، وأضحوا كالولد المدلل لا ينتظر منه أدب، ولا تثمر في تقويمه عظة.

 

وتطرق هذا العوج إلى المبادئ التي اختيروا لإعلاء منارها وتمهيد سبلها، فإذا هم يخلطون التوحيد بالشرك، ويذهلون ذهولاً مطلقاً عن اليوم الآخر، ويرتكبون المعاصي دون حذر، وينسون قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينطلقون على ظهر الأرض ما تسيرهم إلا غرائزهم الدنيا مقترنة بدعاوى عريضة ومزاعم مكذوبة، فكانوا بهذا المسلك الجديد من الأمم التي كلفوا قديماً بتعليمها وتأديبها، وفضلوا تفضيلاً عليها...

 

ومن رحمة الله بعباده :أنه يقبل عثراتهم ويغفر زلاتهم ولا يؤاخذهم لأول ما يفرط منهم، وقد أمهل بني إسرائيل طويلاً كيما يثُوبوا لرشدهم ويعتذروا عن أخطائهم، وبعث فيهم أنبياء كثيرين يذكِّرونهم بالله ويخوِّفونهم نقمته...

 

لكن القوم لم يرعَووا ويدَعوا ما هم فيه، بل تأدبت بهم الشراسة الجامحة أن يعدوا على أنبياء الله فيقتلوا من ضاقوا بنصحه منهم:[لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] {المائدة:71}.

 

وكان آخر اختبار سقطوا فيه موقفهم من عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فقد جاءهم هذا الإنسان الصالح يبغي ترقيق قلوبهم وتهذيب طباعهم وإلزامهم حدود الله وتعاليم الوحي الأعلى، واعتناق حقيقة الدين بدل الاستمساك بقشوره والخروج على جوهره.

 

ولكنهم سخروا منه أقبح سخرية، ورموه وأمه بأغلظ الإفك، ثم ابتغوا قتله كشأنهم مع من سبقه، بيد أن الله نجَّاه منهم ووقاه شرهم...

 

وكان هذا كما قلنا آخر اختبار لبني إسرائيل فقد كانت النبوات وقفاً عليهم، وهدايات السماء تنبعث من أرضهم.

 

وطالما سطعت أشعَّة الوحي من ساحات المسجد الأقصى على أيدي رسل كرام غير أن هذه الأشعة ضاعت بين غيوم كثيفة من الشهوات، ومحا أثرها شعب عز على العلاج بعد أن تغلغل الفساد الخلقي والاجتماعي في أعماقه...

 

وقررت العناية العليا أن تنقل قيادة الإنسانية من جنس إلى جنس، أو من أولاد إسرائيل إلى أولاد إسماعيل، أو من اليهود إلى العرب...

 

كان عيسى بن مريم آخر إسرائيلي يرسل إلى قومه، وكان تكذيبهم له آخر جرم يختم به تاريخهم الديني.

 

ثم يجيء دور العرب بعدئذ ليفتحوا صفحة جديدة في الحياة، بعدما ملأ اليهود الصفحات السابقة بمخازيهم ومآسيهم:[وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الصَّف:7}.

 

وفي تسويغ هذا الانتقال الحاسم، وسرْد أسبابه وملابساته، وفي تعريف العرب بمكانتهم الإنسانية الجديدة ودورهم القيادي الخطير، وفي تقرير الواجبات الثقيلة التي تفرضها هذه الرسالة العظمى على العرب، في هذا كله نزلت آيات شتى نريد أن نتدبّرها ونتدارس دلالاتها وأبعادها.

 

يقول الله لنا - نحن العرب - :[لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {الأنبياء:10}.

 

ويقول للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم: [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] {الزُّخرف:44}.

 

ويقول عن منازل الناس في خدمة هذه الرسالة والوفاء لها:[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] {فاطر:32}.

 

وفي مواضع كثيرة من القرآن الكريم بيَّن الله تعالى للعرب لماذا ملَّكهم زمام الوحي بعد أن انتزعه من اليهود، وكيف يتقاضاهم ذلك الاخلاص لله وحراسة رسالته والسهر على أدائها...

 

فلننظر إلى سورة الجمعة، وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى يوم العروبة، حتى غلبت التسمية الشرعية نظراً للصلاة الجامعة التي تشد الناس فيه.

 

بدأت هذه السورة بتسبيح الله سبحانه، والثناء عليه بما هو أهله، ثم شرعت تتحدث عن العرب وكيف اختار اله منهم نبياً يربيهم ليربي بهم العالم، ويعلمهم ليعلم بهم الآخرين:[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {الجمعة:2}.

 

نعم كان العرب قبل الإسلام في جاهلية طامسة وتأخُّر ظاهر، ثم أحيا الإسلام مواتهم، وأعلى ذكرهم، ونقلهم بتعاليمه من السفوح إلى القمم، ومن ذيل القافلة البشرية على طليعتها، [ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] {الجمعة:4}.

 

ثم يذكر الله جلَّ شأنه في هذه السورة لماذا آثر العرب بهذه المنزلة بعد أن كانت قديماً لغيرهم:[مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الجمعة:5}.

 

وهذه الآية واضحة في أن اليهود فقدوا صلاحيتهم لحمْل رسالات السماء فقداناً أبدياً لأنهم فقدوا القدرة على الانتفاع بالوحي الإلهي، ولم يستطيعوا تهذيب أنفسهم به، فكيف يقدرون على تهذيب غيرهم؟؟!!..

 

إن صاحب القلب القاسي لا يجدر به أن يحمل عناصر الرحمة لغيره، وصاحب الذهن المغلق ليس أهلاً لتوعية الآخرين، وفاقد الشيء لا يعطيه...

 

وحامل الكتب الذي لا يدري ما فيها لا يصلح تلميذاً فكيف يكون أستاذاً..

 

لهذا صرف الله رسالته عن اليهود إلى العرب لعل الآخرين يحسنون الوصاية عليها والسير بها...

 

وإن كان اليهود بعدما رأوا هذا التحول المباغت في ابتعاث الأنبياء قد استماتوا في تكذيب الرسالة الجديدة والعدوان على صاحبها، فقال الله جلَّ شأنه: [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33}.

 

وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم سجلت هذه المقارنة بين اليهود والعرب تسجيلاً يحمل في أطوائه مسالك يجب أن تدرس وفرائض يجب أن تعرف، لأنها تعرفنا ما وقع من غيرنا، وما ينبغي أن يقع منا...

 

في سورة آل عمران وصفنا الله بقوله:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لماذا ؟ أهو امتياز عنصري أو تفضيل جزافي؟ كلا؟ لا هذا ولا ذاك...

 

إنما هو لخصائص خلقيّة وفكريّة تنفع الإنسانيّة جمعاء بعدما تنفع أصحابها أولاً، هذه الخصائص هي قوله: [تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.

 

وهذه الخصائص هي التي فقدها أصحاب الرسالة السابقة فعزلوا عن منصب القيادة العامة للناس، لذلك قال مباشرة: [ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ].

 

والأمم تؤاخذ بما يسود كثرتها الكبرى من عوج ورذيلة، ووجود قلة صالحة بها لا يغني عنها ولا يجنبها المصير المحتوم.

 

وظاهر من تعبير القرآن الكريم أن قدر الأمة مرتبط بمدى إيمانها، وأن سبقها لغيرها وترجيحها عليه منوطان بحرصها على فضائلها وإلا فسوف صيبها ما أصاب غيرها...

 

ومن أخطاء أهل الكتاب الأولين: أنهم ظنوا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وأنهم قادرون على فضله يمنحونه من شاءوا، وقادرون على مغفرته يبيعونها صكوكاً لمن يدفع الثمن، وهذا كله تطاول بالباطل فإن الأفراد والأمم تعلو إذا قدرت على التحليق، وتهبط إذا فترت منها الهمم، وغلب عليها الكسل، وليس لأحد قط أن يتدخل في هذه القوانين الصارمة: [ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا] {الكهف:26}.

 

ولذلك عندما رسم القرآن الكريم الطريق أمام الأمة الجديدة بيَّن أن الله تعالى يختار من يشاء من خلقه ليحمله ما يشاء من أمره، وأن هذا التحميل اختيار مقيد لا اختيار مطلق فقال جلَّ جلاله: [اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] {الحج:76}، .  ثم شرح بعد ذلك الرسالة التي آذن العرب بحملها والأعباء الشريفة التي تقترن بها فقال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78}.

 

وظاهر من هذا السرد التاريخي أنه كان هناك شعب مختار فسد فعزل...

 

وأن هناك شعباً آخر وقع عليه الاختيار، ليبلغ رسالات الله ويضيء الطريق أمام الأحياء...

 

نعم هناك شعب آخر مكلف أن يتصدَّر الركب الإنساني المنطلق يحدوه باسم الله، ويعطيه الأسوة الحسنة من تمسكه بهداه...

 

شعب يتعلم من محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم يعلم الآخرين ويطبِّق تعاليمه على نفسه، ثم يجعل منها نماذج لغيره:[ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143}.

 

تلك هي الحقيقة التي تاه عنها جمهور كثيف من العرب فتخطّفته زبانية الأرض ثم هَوَت به في مكان سحيق...

 

والصراع الدائر الآن هو بين المطرودين من أصحاب الرسالة الأولى وبين التائهين من أصحاب الرسالة الخاتمة...

 

إن بني إسرائيل بعد قرون طوال من تشردهم في الأرض عادوا إلى فلسطين لا يحملون من رسالتهم القديمة إلا دعوى الاختيار الإلهي، ومجموعة من المشاعر المشبوبة بالحقد على أهل الأرض أجمعين، وعلاقة بالله لا تضبطها حقيقة، ولا تطيب بها نفس، ولا تنهض عليها حضارة... ولكنهم على أية حال عادوا!...

 

أما أصحاب الرسالة الخاتمة فهم زاهدون في نسبهم السماوي، لا يعرفون من دينهم إلا ظواهر خفيفة الوزن عديمة الأثر، وهم يبكون لما أصابهم لكن هل يجدي البكاء؟!!

 

إنَّ شيئاً واحداً فقط هو الذي يصحِّح الأوضاع، ويقيم الموازين القسط، ويجعل اللاجئين الجدد أصحاب بلد، وأصحاب رسالة في وقت واحد. ...........

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

المصدر مجلة لواء الإسلام العدد 12 شعبان 1393 السنة27 اكتوبر 1973

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين