صدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته، وحفظه للعهد وبرّه ووفاؤه (1)

الصدق والأمانة أعلى مظاهر العظمة النفسيّة، وهما ملتقى الفضائل النفسيّة كلّها ومجمعها، وفصّها وأسّها.. وأمّا الأمانة فقوامها: اعتدال الفطرة، وسموّ الهمّة، واتّزان الشخصيّة، وعفّة النفس، وتجرّدها عن سفساف الأمور والتعلّق بالدنيا، وحصر الاهتمام عليها، فلا عجب بعد ذلك أن تكون تلكما الصفتان أوّل لوازم حياة الرسل، وأعظم صفاتهم.

وحقيقة الصدقِ قوّة النفس ووقوفها مع الحقّ بتجرّد، ونصرته بكلّ ما أوتيت منْ قوّة، لا تحيد عَنْه ولا تتوارى، ولا تستثقل تكاليفه، ولا تتباطأ عنها، فهو عنوانها، فهي منه، وهو منها، لا تعرف سواه، ولا ترى وجودها ورفعتها إلاّ به..

ومعلوم أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم افتتح دعوتَه إلى قومه باستنطاقهم عن موقفهم مِنْ صدقه: أيرونه صادقاً فيما يقول ويخبر، أم أنّهم عهدوا عليه أنّه لا يعدّ الكذب أمراً ذا بال، فهو لا يتورّع عنه، ولا يأنف من اقترَافه.؟!

روى الشيخان والبلاذري عن ابن عباس، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم عن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}[الشعراء:214]، قام على الصفا فعلا أعلاها حجراً ثمّ نادى: يا صباحاه.

فقالوا: من هذا؟ وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً.

فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقذ نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار فإني لا أملك لكما من الله شيئاً، غير أن لكما رحماً سأبلها ببلالها، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد.

وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ لَمّا أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين}[الشعراء:214]، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتّى أَتَى الصّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ فَهَتَفَ " يَا صُبَاحَاه "، فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ "؟ قَالُوا: مَا جَرّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا. قَالَ " فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّا لَك سائر اليوم أَلِهَذَا جَمَعْتنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب}[المَسَد:1]، إلى آخر السورة.

ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إنّي قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة [سبل الهدى والرشاد 2/324/].

وأمّا الصدق في شخصِ الرسُول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من رسالة فهو لا يقف عند صدق القول والخبر، وإنّما يتّسع ليشمل حياة الإنسان كلّها، فهو يشمل صِدقَ الفعل ليتطابق مع النيّة والقصد، وصدق الرغبة فيما عند اللهِ لتقع الأعمال خالصة لله، لا تشوبُها شائبة، وصدق العزيمة في الوقوف مع الحقّ، ونصرته وتأييدِه، فلا يقف في وجهها عائق، وصِدقَ الحَالِ، فلا تصدّه الدعاوى الملبِّسة..

ولقد كان أشدّ ما اغتمّ له الرسول صلى الله عليه وسلم تكذيب المشركين له، ومن ثمّ فقد جاء تخفيف القرآن عنه بأنّهم لا يكذّبونه حقيقة، وإنّما هم يجحدون بآيات الله، ويستنكرون وقوعها، يقول الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُون}[الأنعام:33]{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين}[الأنعام:34].

ولقد شهدت قريش بإجماع رجالها وعقلائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة قبل نبوّته وشهد له القرآن الكريم بالخلق العظيم بعد رسالته، ولا بدّ من نظرة إلى شهادة قريش من زاويتين:

ـ الزاوية الأولى: من زاوية الدافع إلى هذه الشهادة وقيمتها؛ فلا بدّ أن الأمانة التي تحلّى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة محلّ بروز وتألّق وتميّز، في شخصيّته صلى الله عليه وسلم وسلوكه، بصورة جذبت أنظار المراقبين، ولفتت انتباه المجتمع من حوله، وانتزعت منهم شدّة إعجابهم، كما كانت تعبيراً عن اجتماع حقائقها، وتآلف معانيها، لتكون حقيقة كبرى، تنتظم من خلالها شخصيّة المصطفى صلى الله عليه وسلم بصورة معجزة إنسانيّة، لم يسبق لها مثيل، كلّ ذلك كان في بيئة، لم تكن بيئة علم وتثقيف، ولكنّها كانت بيئة فطريّة نقيّة في كثير من جوانبها، ولم تعرف من الأمانة إلاّ جزئيّات متناثرة، ولم تعرفها كلاًّ لا يقبل التجزيء والتبعيض إلاّ في حياة محمّد صلى الله عليه وسلم وسلوكه، ولولا فقد بيئته لهذه الصفة، واجتماع حقائقها، وتآلف معانيها فيه لما أجمع قومه على وصفه بها، ولما كان في ذلك كبير فائدة، أو مزيد مزيّة.

ـ والزاوية الأخرى: أن هذه الشهادة من قريش كانت عن مرحلة تعدّ أخطر المراحل التي يمرّ بها الشاب، وهي مرحلة اكتمال الرجولة، واتّقاد الغرائز، وهي مرحلة تختلف فيها الأغراض والغايات وتضطرب، وتتناكر النوازع والاتّجاهات وتحترب، وفي الشابّ في تلك المرحلة من موفور القوّة وقوّة الغريزة ما يجعله يندفع وراء تحقيقها إلى أقصى المدى، متوارياً من عادات قومه، وأعراف بيئته حيناً، أو متجاوزاً متحدّياً حيناً آخر.. ومع ذلك كلّه فقد بقي هذا اللقب يصحب محمّداً صلى الله عليه وسلم، ويطبع شخصيّته طيلة حياته قبل البعثة، ولم تعرف عنه قريش ما يخرم هذه الأمانة أو يشذّ عنها، فمن ثمّ لم تستطع قريش أن تنزع هذا اللقب عن محمّد صلى الله عليه وسلم بعد رسالته، كما أنها لم تستطع أن تمنحه أحداً من زعمائها، حتى أولئك الذين كانوا محلّ إجماعها، وكانت تأتمر بأمرهم، وتصدر عن رأيهم، وتظهر لهم مزيد التقدير والاحترام.

فهل أنطق الله تعالى قريشاً بما قالت، ليكون من قولها حجّة ساطعة لمن يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوّة وبعدها؟ ولتكون تلك الحجّة على لسان المخالف المعادي أبلغ في الشهادة وألزم، وأقوم في البيّنة وأحكم، وأدنى ألا يرتاب المرتابون.؟

ثمّ إن هذه الشهادة من قريش تدلّ على أن الأمانة التي عرفتها قريش في شخصيّته صلى الله عليه وسلم، كانت خلقاً أصيلاً نابعاً من فطرته، التي فطره الله عليها، واختصّه بها، بما تحوي من الفضائل والكمالات، فمن ثمّ فقد كان صلى الله عليه وسلم معزولاً عن البيئة المحيطة به، ومحصّناً عنها؛ فأنى لها أن تؤثّر فيه، أو تغيّره؟ وإن منطق الحقّ في مثله أن يؤثّر فيما حوله ولا يتأثّر، وأن يغالب الظواهر الاجتماعيّة، ويتغلّب عليها، حتى يصهرها في فضائله، ويشحنها بنسائمه، ويطبعها بطابع منهجه ورسالته.

والأمانة النبويّة لا تقبل التجزئة أو التنازل تحت أيّ ظرف أو موقف، ولا تخضع لشيء من النفعيّة والمساومة..

والأمانة في مفهوم الإسلام أوسع من أن تكون حفظاً لوديعة مادّيّة، ثمّ ردّاً لها، إنّها عنوان عامّ لحياة المسلم، يشمل ذلك، كما يشمل القيام بالواجب دون تقصير، والاضطلاع بالتكاليف دون تقاعس، والاهتمام بأمر العامّة، دون تهاون أو محاباة، وكتمان السرّ، وإخلاص الرأي وحسن المشورة..

لقد بلّغ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربّه كلّ ما أوحي إليه، حتّى ما وجّه إليه من عتاب، ولم يتقاعس في القيام بواجب الدعوة إلى الله، ولم يتراخ في الاضطلاع بمهامّها، ولم تزده الشدائد التي اعترضته إلاّ ثباتاً، ولا المحن التي صادفته إلاّ قوّة ومضاءً.

وكان حين يسأل عن أمر لا دراية له به يتوقّف حتّى يأتيه الوحي من الله في شأنه.. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على هذا، منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون}[البقرة:219].

وقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ... }[المائدة:4].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ... }[الأعراف:187].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}[الأنفال:1].

وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}[الإسراء:85].

وقد سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه السنّة الحسنة، وقرّر هذا المنهج الأخلاقيّ لأمّته، وعلّمهم أن لا يتجرّأوا على الفتوى بغير علم، وبخاصّة في الأمور الشرعيّة، فذلك من القول على الله بغير علم، وهو من أكبر الكبائر.. وتلك من الناحية الأخلاقيّة غاية الأمانة، ومن الناحية الحضاريّة قمّة النضج العلميّ والفكريّ، وقد قرّر ذلك القرآن بأوجز بيان معجز، إذ يقول تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا}[الإسراء:36].

وكان صلى الله عليه وسلم من شدّة أمانته على الوحي، وحرصه التامّ على وعيه، وخوفه من ضياع شيء منه، يعجل في متابعة جبريل عليه السلام عندما يتنزّل عليه بشيء من القرآن، فطمأنه الله تعالى بقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه}[القيامة:16 ــ19].

وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114].

والمال أمانة فلا يؤخذ إلاّ بحقّه، ومن حلّه، ولا يوضع إلاّ في حلّه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للناس في ذلك، وقد جاء في الحَديث الصحيح:

(.. وَاللهِ لَوْ أَنَّ لَكُمْ شَجَرَ تِهَامَةَ نَعَماً قَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لَمْ تَلْقَوْنِي بَخِيلاً، وَلا جَبَاناً، وَلا كَذُوباً، ثُمَّ أَتَى بَعِيراً، فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: هَا إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ، وَلا هَذِهِ، إِلاّ خُمُسٌ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ.. وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَدُّوا الخِيَاطَ وَالمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَاراً وَشَنَاراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [رواه النسائيّ في كتاب الهبة برقم /2628/ في قِصّةِ وَفْدِ هَوَازِنَ، بعدما وقع من سبيهم في الغزو].

وحذّر صلى الله عليه وسلم من العدوان على شيء من أموال الناس، ولو عوداً من أراك، ففي الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حقّ مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم /196/ وفي رواية مالك في كتاب الأقضية /1215/ كرّر (وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) ثلاثاً.

وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ: وَلا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) رواه أحمد في المسند برقم /22391/، وأصله في الصحيحين.

وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (المُسْلِمُ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَالتَّقْوَى هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَلْبِ، قَالَ: وَحَسْبُ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ) رواه أحمد في المسند برقم /15444/، وأصله في الصحيحين.

* ومن أروع مواقف الأمانة موقفه صلى الله عليه وسلم يوم أراد الهجرة، فقد أهدرت قريش دمه، وسعت كلّ جهدها لقتله، وأغرت من يأتي به أو بصاحبه حيّاً أو ميتاً بأثمن الجوائز.. وفي الوقت نفسه كان صلى الله عليه وسلم هو المؤتمن على كرائم أموال المشركين، لا يجدون أميناً سواه، أفما كان يسعه صلى الله عليه وسلم أن يحجز أموالهم ليساومهم عليها، وهم قد أهدروا دمه.؟ أو يهمل حفظها لهم، فتضيع بين ظهرانيهم، فيكون ذلك أقلّ جزاءاً ممّا يستحقّون.؟! أو يجحد أماناتهم، بعدما أعلنوا عليه هذه الحرب الظالمة الأثيمة.؟! وسيجد من يعذره فيما فعل.. كلاّ، ثمّ كلاّ، إنّ ذلك كلّه لا يلتقي مع أمانة النبوّة المطلقة، ولا مع عظمة الأخلاق النبويّة المشرقة.. إنّ أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم أسمى وأزكى ممّا يتصوّر البشر جميعاً.. فكيف تصرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم.؟ لقد عرّض صلى الله عليه وسلم حياة ابن عمّه عليّ رضي الله عنه للخطر، فأمره أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة، وأن يتأخّر عنه في هجرته، وهذا أيضاً باب من أبواب الخطر، ولكنّه صلى الله عليه وسلم بشّره أنّه لا يصاب بأيّ أذىً منهم.. وكلّ ذلك ليؤدّي الأمانات إلى أهلها، فأيّ أخلاق أعظم من هذه الأخلاق وأسمى.؟!

وقارن هذا الموقف العظيم بموقفه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكّة فاتحاً منتصراً، وطأطأ كبار المشركين رءوسهم أمامه، خاضعين لقوّة الحقّ، واشرأبّت أعناقهم إليه، تنتظر بم يقضي فيهم هذا الطريد المهاجر بالأمس.؟! وطلب النبيّ صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة، ودخل إليها، وصلّى فيها ركعتين، وهدم ما فيها من الأصنام، وكان يسعه صلى الله عليه وسلم ـ ولا رادّ لقضائه إلاّ الله ـ ألاّ يردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، وحجّته في ذلك وجيهة ظاهرة.. ولكنّها الأمانة التي لا تقف عند حدّ.. وعظمة أخلاق النبوّة، التي لا تحيط بها عقول البشر..

روى ابن سعد عن عثمان بن طلحة: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، فدعاني إلى الاسلام فقلت: يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتّبعك، وقد خالفت دين قومك، وجئت بدين محدث، وكنّا نفتح الكعبة في الجاهلية الاثنين والخميس، فاقبل يوماً يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت عليه، ونلت منه، فحلم عني، ثمّ قال: (يا عثمان! لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت) فقلت: لقد هلكت قريش وذلّت.

قال: (بل عمرت يومئذ وعزت)، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منّي موقعاّ، فظننت أنّ الامر سيصير كما قال، فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبراً شديداً، فلمّا كان يوم الفتح قال لي: (يا عثمان! ائت بالمفتاح) فأتيته به.

فأخذه مني، ثم دفعه إليّ وقال: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلاّ ظالم، يا عثمان إنّ الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف)، فلما ولّيت ناداني، فرجعت إليه، فقال: (ألم يكن الذي قلت لك؟) فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: (لعلّك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت).

فقلت: بلى، أشهد أنّك رسول الله، فقام عليّ بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟ فدعا فقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء) قالوا: وأعطاه المفتاح ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبع بثوبه عليه، وقال " غيبوه، إنّ الله تعالى رضي لكم بها في الجاهليّة والاسلام) انظر البداية والنهاية 4/301.

وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا ناول عثمان المفتاح قال له: (غيّبه)، قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح.

وروى ابن عائذ وابن أبي شيبة من مرسل عبد الرحمن بن سابط: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، فقال: (خذوها خالدة مخلّدة، إنّي لم أدفعها إليكم، ولكنّ الله تعالى دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلاّ ظالم).

وروى ابن عائذ أيضاً والأزرقيّ عن ابن جريح رحمه الله تعالى أنّ عليّاً رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية فنزلت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...}[النساء:58] سبل الهدى والرشاد 5/244/.

وفي غزوة خيبر بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الأمانة في مال الأعداء واجبة الحفظ والرعاية والأداء، لا تبرّر العداوة وحالة الحرب القائمة إهمالها، وإذا كانت أموال الأعداء تغنم في القتال، ويأخذها المسلمون، ويقسمونها بينهم، فإنّ ذلك ممّا أحلّه الله لهذه الأمّة في الحرب، وليس من قانون الإسلام خيانة الأمانة، ولو مع العدوّ المحارب.

روى موسى بن عقبة عن عروة بن الزبير: أنّه جاء عبد حبشي أسود من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلمّا رأى أهل خيبر قد حملوا السلاح سألهم ماذا تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ، فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل بغنمه حتّى عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى من تدعو؟ قال: أدعوك إلى الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله، فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك، وآمنت بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة إن متّ على ذلك، قال الرجل المؤمن: يا رسول الله إن هذه الغنم عندي أمانة، إذ كان يرعاها، وهنا أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤدي أمانته، ولم يقل إنّها غنيمة للمسلمين، ولم يضمّها إلى أموال الله؛ لأنّ الأمانة يجب أن تراعى لذاتها، لا فرق فيها بين عدوّ محارب، وولي مناصر، بل قال الرسول الأمين: أخرجها من عسكرنا، وارمها بالحصى، فإنّ الله سيؤدي عنك أمانتك، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيّدها، فعرف اليهوديّ أنّ غلامه قد أسلم.

ولقد قتل ذلك العبد الأمين في خيبر شهيداً، فأدخل في قماط الرسول صلى الله عليه وسلم.

وإن هذا درس حكيم للذين يخونون أموال الناس، ويبرّرونها بعداوة لهم، وقد يكونون ظالمين في العداوة كما هم ظالمون بالخيانة، والله عليم بذات الصدور. انظر: خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم للشيخ محمّد أبو زهرة 2/ 913 ـ 914/.

وبعد؛ فانظُر أيّها العاقل المنصف إلى كلّ ما جاء في القرآن الكريم من أمر ونهي، وإرشاد وتوجيه تجد السيرة النبويّة العطرة هي التطبيق العمليّ الدقيق، والمرآة النقيّة، الصافية الأمينة لكلّ ذلك، وتلك من أهمّ سمات أمانته صلى الله عليه وسلم، وتاجها وحليتها، وبسط ذلك يحتاج إلى إفراد بالحديث يطول فيه القول ويمتدّ، وهو منجم من البحث بكر، لا أعلم من تناوله بالتفصيل والبيان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين