شيخ الدعوة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة

 

جمعت جماعة الإخوان بين جنباتها شتى الأطياف ، ومختلف الثقافات ، فترى الطبيب والمحامي والقاضي ، وترى الأستاذ الجامعي والأمي ، لا يختلفون على مبدأ ولا غاية ، فقد جمعتهم فكرة واحدة ، ومنهج واحد ، وغاية واحدة 

 

تربوا على التجرد لله ، والعمل في شتى المجالات لدين الله ، وتحملوا في سبيل ذلك شتى أنواع الأذى ، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات على تحمل الصعاب من أجل هذه المبادئ ، وتحملوا في سبيلها الكثير 

 

لم يكن هدفهم هي الدنيا ، أو التمكن لجماعة بعينها ، لكن كان هدفهم وغايتهم هو الله ، والدفاع عن دينه القويم ، ونشر تعاليمه السمحة في شتى بقاع الارض . 

 

كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة أحد الذين بايعوا على نصرة دين الله ، والدفاع عن سنة رسول الله عليه السلام ، 

حنفي المذهب ، لكنه يكره تتبع الرخص ، والأخذ بشواذ الأقوال والتعصب لمذهب 

 

التقى الشيخ أبو غدة بالإمام حسن البنا وقت أن كان يدرس في الأزهر الشريف وتعرف عليه وأعجب به ، وصاحبه في لقاءاته ، وانطوى تحت لواءه ، وقد أطلق على الإمام البنا اسم ( الأستاذ الناصح الراشد المرشد ) 

 

وعاد إلى حلب وسار مع إخوانه الدعاة يرفعون راية الإسلام ، ويخوضون كل ميدان من أجل نشر الوعي الإسلامي وتربية الجيل على منهج الإسلام ، وتحرير البلاد الإسلامية من سلطان الاجنبي ، والتصدي لموجة التغريب العلماني ، والفكر الماركسي ، والهجمة الصليبية الصهوينية 

 

كان موقعه في حلب كموقع الشيخ محمد الحامد في حماة والدكتور مصطفى السباعي في دمشق والشيخ محمد علي مشعل في حمص 

حمل الشيخ ابو غدة على عاتقه عبء الدعوة الى الله فكان له نشاطه الدعوي ، وتعلق الاخوان بدورهم بالشيخ ووثقوا به ، فنال ثقة العامة والخاصة واحترام أقرانه ، لورعه وتقواه وعلمه ، ورجاحة عقله وحكمته ، فكان مرشدا وسندا وموئلا 

 

كان مدرسة دعوية حية متحركة ، تتلمذ على يديه ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين ، كلهم يفخر بانه قد نال شرف الاغتراف من بحر هديه رحمه الله ، فتراه في دار الارقم مرشدا ومربيا ومعلما وهاديا ، حضر مع الشباب رياضة الحركات السويدية صباح عيد الأضحى المبارك ، في مركز الجماعة قرب باب النصر ، مع أطفال وشباب ، نزع العمامة وخلع الجبة ، وشارك الشباب نشاطهم الرياضي 

 

انتخب الشيخ نائبا عن مدينة حلب عام ١٩٦١ بأكثرية كبيرة فنال ثقة مواطنيه ، على الرغم من تألب الخصوم عليه من كل الاتجاهات ومحاولاتهم المستميتة للحيلولة بينه وبين الوصول إلى مجلس النواب ، فأقيم له حفل انتخابي ضخم أمام جامع التوحيد الآن حضره آلاف الشباب وكان فيه نصارى فكان الهتاف يارب فاشهد عيسى أخو أحمد 

 

في مجلس النواب قام الشيخ مع أخوانه بنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في سوريا 

 

عام ٦٥ غادر الشيخ حلب ليعمل مدرسا في كلية الشريعة بالرياض وذلك بعد عامين على حل المجلس النيبابي 

عاد لبلده صيف ٦٦ فأدخل السجن مع ثلة من رجال الفكر والعلم والسياسة ، ومكث في سجن تدمر الصحراوي أحد عشر شهرا ، وبعد كارثة الخامس من حزيران ٦٧ أفرجت الحكومة عن جميع المعتقلين السياسيين ، وكان الشيخ رحمه الله من بينهم 

 

كانت عضوية الشيخ في جماعة الإخوان مبنية على قناعته بضرورة العمل الجماعي لنصرة الإسلام والمسلمين لا جريا وراء المناصب والمسميات لكنه اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل معهم بعض المسؤوليات التنظيمية ، فكان أن تولى على غير رغبة منه أو سعي منصب المراقب العام للاخوان في سوريا مرتين ثم تخلى عنه في أقرب فرصة مناسبة متفرغا للعلم والتأليف 

 

يعد الشيخ من العلماء الثقات الذين يفخر بهم العالم الاسلامي في هذا القرن ، فقد أحاط بالعلوم الشرعية ، وملك زمام اللغة العربية والشعر والتاريخ ، وتبحر في علمي الفقه والحديث ، حيث انكب على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين وغيرهما 

 

يمتاز تحقيق الشيخ بأنه يقدم مع الكتاب المحقق كتابا آخر مليئا بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة تسدد وتصوب وترجح وتقرب العلم إلى طالبه 

 

له رحمه الله ولع شديد بكتب العلم فكان يصرف وقته وجهده وماله في سبيل اقتنائها وخدمتها ، فتجمعت لديه مكتبة تعد من أمهات المكتبات ذهبت جلها في الأحداث الأليمة في طالت الوطن في أعوام ٧٨ / ٨٢ 

 

لم يكن الشيخ في التحقيق والتأليف يهدف إلى ربح مادي ، أو شهرة معنوية ، لذا كان الكتاب يبقى لديه حبيس التأليف والتحقيق سنين طويلة يعكف على مراجعته المرة تلو المرة 

 

ألفّ وحقق حوالي مائة كتاب طبع منها أكثر من ستين كتابا ،

علا بنفسه عن سفاسف الحياة ، وعلا بالعلم الذي بين جنبيه عن سوق التسول والاتجار 

 

بهي الطلعة ، عذب الروح ، حلو الشمائل ، سريع الدمعة ، كثير العبرة ، كريم غاية الكرم ، أديب خلوق ، ظريف لماح 

 

توجت جهوده العلمية فاختاره مركز اكسفورد للدراسات الاسلامية في لندن لتكريمه فنال جائزة علمية تحمل اسم سلطان بروناي ، في حفل كبير في لندن صيف ١٩٩٥ تقديرا لجهوده في التعريف بالإسلام ، ومساهماته القيمة في خدمة الحديث النبوي الشريف 

 

انتدب الشيخ رحمه الله استاذا زائرا لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان ، ولجامعة صنعاء في اليمن ، ولمعاهد الهند وجامعاتها ، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات ، وطاف العالم الإسلامي بحثا عن المخطوطات

 

درّس في الأردن والباكستان وتركيا والجزائر والعراق وقطر، وعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض

 

اختير الشيخ لثميل سوريا في المجلس التآسيسي لرابطة العالم الاسلامي ، بعد وفاة الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان يشغل المقعد رحمه الله

 

تلقى الشيخ دعوة في عام ٩٥ ليعود إلى وطنه ، استجاب الشيخ لهذه المبادرة آملا أن تكون بداية للرأب الصدع وللافراج عن المعتقلين ، فعاد إلى سوريا ولم يلتق الشيخ بالرئيس 

 

عام ١٩٩٦ شعر الشيخ بضغف في بصره فعاد إلى الرياض ليتلقى العلاج ، واشتكى في أواخر رمضان من ألم في بطنه ، ادخل على اثره مشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض ، ومالبث ان التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد ٩/ شوال / ١٤١٧ هجرية ( ١٩٩٧) عن عمر يناهز الثمانين عاما 

 

عرفته رحمه الله مراكز الدعوة الإسلامية ، ففقدت بقده داعيا ومعلما ومرشدا ، بكته القلوب قبل العيون ، لأنها فقدت بموته العالم الثبت المحقق الصدوق 

 

نقل في اليوم الثاني إلى المدينة المنورة حسب رغبته ، وصلي عليه عقب صلاة العشاء ، ودفن في البقيع 

 

رحمه الله واسكنه المولى فسيح جناته مع النبين والصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا 

 

والله أكبر والعاقبة للمتقين