شيخنا الأستاذ محمد عوامة

 

 

 




بقلم عبد الحكيم الأنيس
 
1428هـ
 
مِن فضل الله تعالى عليَّ أنَّ والدي - رحمه اللهُ وأحسن جزاءه- قد سلكني في طلبة العلم الشرعي في "المدرسة الشعبانية" التي كان يقومُ عليها العلامة الجليل الشيخ عبد الله سراج الدين -رحمه الله-.
          وفي هذه المدرسة المباركة عرفتُ كوكبة من علماء حلب, وشرفتُ بالأخذ والتلقّي عن عدد منهم, ويأتي في طليعتهم فضيلة الشيخ العلامة المحدّث المحقق المربّي الأستاذ أبو الفضل محمد عوامة حفظه الله تعالى, ومدَّ في عمره, وأمده بالصحة والعافية
.
          كنا نحبُّ الشيخ ونقدِّره -وما نزال- وبقدر ذلك كنّا نهابه لشخصيته الحازمة, وأسلوبه في التعامل, وجدّه الذي اتسم به.
          قضيتُ في هذه المدرسة ثلاث سنوات, حظيتُ منها بالجلوس إلى الشيخ والأخذ عنه, والإفادة منه في السنتين: الثانية والثالثة, وقد درّسنا مادة الحديث النبوي.
          كان الكتابُ المقرر في السنة الثانية "مختارات من صحيح البخاري", وما أزال أذكر الشيخ وهو يشرح لنا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين, وإنما أنا قاسم والله يعطي, ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم مَن خالفهم, حتى يأتي أمر الله".
          ويذكر لنا ما جاء في بعض طرق الحديث: "ويلهمه رشده"، ويدخل الشيخ من هذه الجملة إلى موضوع العمل بالعلم, وضرورة هذا وأهميته, والتحذير من علمٍ بلا عمل, ويستقرُّ في أذهاننا أنَّ الفقه والرشد يعنيان: العلم والعمل.
          كان الشيخ يؤكِّد أن يكون مع كل طالب كتابُه، وقلمُ رصاص يضبط به الكلمات, ويكتب بعض الفوائد, ومَنْ أخلَّ بهذا فعليه أن يتحمل عقوبة الخروج من قاعة الدرس.
          والكتابُ شيءٌ مهم جميل محترم, ولابد من العناية به وحفظه, وعدم الكتابة عليه بالحبر, وإذا علقنا شيئاً فيجبُ أن يكون التعليق في الحاشية, بعبارةٍ مختصرة: التحذير الشديد من إفساد الكتاب سواء بقي لنا أو استُرِدَّ في نهاية العام الدراسي.
          وكان من عادة الشيخ أَنْ يتصفح الكتبَ المُستردّة وينظرَ ما فعل الطلابُ بها, وما تركوا فيها من آثار, ويكون هذا مما ينبّه إليه الطلاب, ويشجعهم عليه أو يحذِّرهم منه.
          وبهذه الطريقة أيضاً كان يكتشف الطالبَ الجيِّد من غيره, والمجدَّ من المهمل, والمرتَّبَ من الفوضوي, والحريصَ من المعرض, والذكيَّ من غير الذكي.
          ولك أَنْ نتصور أثر هذا في الطلاب, وخوفَهم وحذرَهم مِن أَنْ يحمل عنهم شيخُهم الذي يحبونه ويهابونه انطباعاً غير حسن.
          وفي هذه السنة كان في الدروس المقررة - وهي سبعة عشر درساً- درسٌ بعنوان "القراءة" نقرأ فيه نصوصاً قراءةً تطبيقية لمَا نتعلمه من نحوٍ وصرف وغير ذلك.
          وقد وضع الشيخُ لنا كتاباً سماه "المُستجاد" افتتحه بنصوص من القرآن والسُّنة, وانتقى فيه من أحوال العلماء وأقوالهم وأفعالهم ما يؤدِّي أكثرَ من غرض, وتكون قراءته مقوّمةً للألسن, موجهةً للنفوس, شاحذةً للهمم.
          وهو الكتاب الذي طُبع بعد ذلك بعنوان" "المختار من فرائد النقول والأخبار" في ثلاثة أقسام, وما أزالُ أعودُ إليه بين الحين والآخر فأقرأه مستفيداً ومستذكراً ومعتبراً, وأشكر للشيخ هذا الصنيع العلمي التربوي الجميل... وما أحسنَ لو تفرغَ دارسٌ لهذا الكتاب فبيّن ما انطوى عليه من توجيه عميق, وتأديب رفيع.
          وفي السنة الثالثة درَّسنا الشيخ في "التجريد الصريح من الجامع الصحيح" للزبيدي, وشرحه "فتح المبدي".
          كان الشيخ يقرّر الدرس, ثم نقرأ الشرح, فنضبطُ الكلمات, ونفقّرُ الجمل, ويفيض علينا الشيخُ من علمه, وسعة اطلاعه, وحسن توجيهه, ما يملاً عقولنا ونفوسنا.
          وتعلّمنا في هذا الدرس كيفيةَ التعامل مع العبارة, والتدقيق فيها, والأدب مع العلماء, وفهم مصطلحاتهم في تآليفهم, ومن ذلك العبارة التي تتكرر كثيراً: "وفيه نظر".
          وفي نهاية هذا العام غادرَ الشيخُ مدينة حلب إلى المدينة المنورة وأقام هناك, وغادرتُ أنا وأخي الشيخ عبد السميع - الذي التحق بالمدرسة الشعبانية بعدي- إلى العراق, وتابعنا دراستنا هناك, وسأعودُ إلى الحديث عن هذه المرحلة.
          لقد استفدنا من الشيخ في هذه السنوات الثلاث فوائدَ عظيمة, عن طريق القراءة, وعن طريق السؤال, وعن طريق النظر إلى سَمْته وهديه.
          وهو الذي فتحَ وعينا مبكّراً إلى تفاوت الكتب في قيمتها, والمعتمد منها من غير المعتمد, والذي نقرؤه من الذي لا نقرؤه, وما ينفعنا في السنِّ التي كنّا فيها إلى ما لا ينفعنا, وهو الذي كان يدلنا على الكتب الجديدة التي تصل إلى حلب, وينبّهنا إلى تفاوت الطبعات, ويرشدنا إلى الكيفية المثلى في تكوين المكتبة.
          وما أزال أذكرُ يوم سألتُه عن "عرائس المجالس" للثعلبي, وتحذيرَه إياي من قراءته والوثوق به.
          وما أزالُ أذكرُ يوم وصل "بذل المجهود بحل أبي داود" إلى حلب وحديثه عنه. وهكذا.
          ومن الشيخ تعلّمنا أنَّ التأليف ليس أمراً سهلاً يتسلقه كلُّ مَنْ أراد... ويومَ حملتُ إليه كتاباً في تخريج أدعية حزبٍ يُعرف بـ "حزب الفرج" منسوب إلى الإمام العارف الزاهد الشيخ أحمد الرفاعي, لأحد الفضلاء الأدباء في حلب نَظَرَ فيه وعلّق تعليقاً سريعاً بأنَّ هذا ليس من صنعته...
          كان الشيخ يُتابِع طلابه متابعة جادة, تأخَّر مرة طالبٌ بضع دقائق عن موعد الدوام - وكان الشيخ آنذاك موجِّه المدرسة- فرآه واقفاً أمام غرفة الإدارة, وسأله عن سبب تأخره.. فقال له: لدى الوالد ضيوف استدعتْ خدمتهم هذا. وكان تعليقه أنَّ طروء الضيوف أمرٌ يتكرر كثيراً, ولابد من الحذر من التأخر مرة أخرى...
          ومن متابعته لطلابه حديثُه مرةً عن أدب طالب العلم في الطريق, وما ينبغي له من غضِّ البصر, والتعقل في مشيه, وحفاظه على زيه المدرسي, وثناؤه على مَن التزم بهذا, وعرفنا أنّه يقصِدُ طالباً رآه في إحدى طرق المكتبات.
          والشيخ كان قدوةً في المدرسة وخارجها, في تدريسه, وفي وقوفه في ساحة المدرسة مع بعض المدرِّسين أو بعض الطلاب من المتقدمين أو المبتدئين الذين يقبلون عليه سائلين مسترشدين.
          وما زلت أذكرُ يوماً رأيتُ فيه الشيخ متوجهاً إلى مسجده (مسجد نور الدين في الفرافرة) وكان يصلّي فيه إماماً وقد رأى امرأةً مقبلة، فوقف الشيخُ، واستدارَ إلى الحائط إلى أنْ مرَّت المرأة.. كنت أمشي خلفَ الشيخ أريد مسجدَهُ والصلاةَ خلفه في صلاة المغرب ولا يعرف بي.
          وقد انغرس هذا المشهدُ في نفسي, وتعلّمتُ منه أشياء كثيرة.
          كان التحاقي بالمدرسة الشعبانية سنة 1397هـ , وفي هذه السنة صدر كتابُ الشيخ الأول: "مسند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه" للباغندي, وكان عمل الشيخ فيه تخريجاً لأحاديثه, وشرحاً لها, وتكملة لمروياته, وفي مقدمته يشيرُ الشيخُ إشارة تُفصح عن همِّه واهتمامه وأسفِه على واقع العلوم الإسلامية فيقول: "وأرجو من الله الكريم أنْ يتفضَّل عليَّ بقبوله والإثابة عليه, والنفع به, والتوفيق إلى خدمة سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم, وتقريبها إلى المسلمين على حين فترةٍ منهم عنها وعن علوم الإسلام عامة !"
          وفي آخر مقدِّماته وبعد أنْ ذكرَ عملَه في المُسند قال: "وهو جهدٌ متواضعٌ أمام جهد مؤلفه الإمام الباغندي الذي طوَّف البلدان للأخذ بالسماع والمشافهة عن شيوخه, وعملٌ ضئيلٌ أمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه, وفضله, وخدمةٌ لا تُذكر لسُّنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم, لكنّه جهدُ المقل, وزادُ الفقير..."
          فانظرْ إلى هذا التواضع الرفيع, والأدب العالي, وهضم النفس، ونكران الذات, ثم ألق نظرةً على ما تعجُّ به المجتمعات العلمية اليومَ من زهوٍ فارغٍ, وإعجاب مقيت, وتقديسٍ للألقاب الأعجمية, والتعالي بها على عباد الله...
          وفي السَّنة التالية صدرتْ رسالته المهمة: "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم"، وقرأنا في مقدمتها أنّ الشيخ عرضَ ما كتبه - إحياء لسنة علمية لسلفنا الصالح- على ثلاثة من شيوخه هم: العلامة الشيخ عبد الله سراج الدين, والعلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة, والعلامة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي الذي زارَ حلب تلك السنة ونزلَ في بيت الشيخ, ووافقوه على ما كتب...
          وعلى حداثة أسناننا وعهدنا بطلب العلم توقفنا عند عبارةٍ كتبها الشيخُ عبد الفتاح أبو غدة في وصف المؤلِّف وهي قوله: "فالحمد لله على ما وفّق مؤلفَه الجِهْبذ المحقق إليه..." ممّا زادنا تقديراً لمنزلة الشيخ, وكان اسم الشيخ عبد الفتاح يملأ دنيا العلم والعلماء..
          كما توقّفنا عند وصف الشيخ عبد الفتاح له في تعليقه على "قواعد في علوم الحديث" ص 100 بقوله: "أخي تلميذ الأمس وزميل اليوم الأستاذ الشيخ محمد عوامة", وكان هذا سنة 1392هـ.
          وقد صدرتْ هذه السنة (1428هـ) الطبعة الخامسة من هذا الكتاب (أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء) في "275" صفحة, وفيه تقديمٌ لاثنين من أئمة العلماء: الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي, والأستاذ مصطفى الزرقا.
          وعلى ذكر الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي لابُدَّ أَنْ أذكرَ أننا رأيناه وحظينا بدعواته بفضل شيخنا إذْ جاء معه إلى المدرسة الشعبانية         (حين زار حلب سنة1398هـ), وطاف على الصفوف بمعية الشيخ عبد الله سراج الدين, ومعية الشيخ, ودعا للطلاب, ولم أرهُ بعد ذلك, ولكنَّ صورته - بزيه الهندي- مازالتْ منطبعة في الذاكرة وكأنَّ زيارته اليوم.
          وممَّن طاف علينا في المدرسة كذلك الشيخُ عبد الغني الدقر الدمشقي حين زار حلب.
          وخلالَ هذه السنوات لم نتجرأ على زيارة الشيخ في بيته إلا مرةً واحدة, فقد ذهبتُ إليه أنا وأخي الشيخ عبد السميع - والدنيا قائمة قاعدة- نستشيره في السفر إلى الهند لاستكمال التعليم هناك, وربما كان هذا بتأثير ما قرأناه عن الهند وعلمائها في كتب الشيخ عبد الفتاح, وقد استمع الشيخُ إلينا بوقاره المعهود, واهتمامه البليغ, وكان رأيه استكمال المسيرة في حلب أولاً, والصبر, تفاؤلاً بالهدوء والاستقرار، ولفت أنظارنا إلى اختلاف البيئة الهندية عن بيئتنا...
          كان الشيخُ حريصاً على حضور مجالس الشيخ عبد الله سراج الدين عصر يوم الجمعة في جامع بانقوسا بحلب، وهذه الدروس شجَّعته على إخراج كتاب "مجالس في تفسير قوله تعالى: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) لابن ناصر الدين الدمشقي, وفي هذا يقولُ:
          "إنَّ المصنّف - رحمه الله- اختار هذه الآية الجامعة لكليات الإيمان, واختيارُه لها أذكرني أولَ ما رأيتُ مخطوطة الكتاب بالمجالس العامرة بالإيمان والعلم والروح, من مجالس شيخنا العلامة القدوة الربّاني المتكلّم المفسّر المحدّث سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين- حفظه الله تعالى بخير وعافية-, مجالسه حول هذه الآية في الجامع الكبير بمحلة بانقوسا بحلب, بعد عصر كل يوم جمعة, والتي دامت سنوات, وهو يتكلم فيها عن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة: يتلو عليهم آياته, ويزكيهم, ويعلّمهم الكتاب والحكمة.
          ولمّا تذكرتُ هذه المجالس برؤية مخطوطة الكتاب, بادرتُ إلى تصوير نسخة عنها وتقديمها هدية إليه, والآن أتقدَّم بإهداء خدمتي للكتاب إلى سماحته راجياً قبولها ورضاه.
          ثم إنه انتقل بعد تلك المجالس إلى الكلام عن قوله تعالى: (البينة, رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة)، وقد استغرق في ذلك سنواتٍ أيضاً, وهو يتكلّم على كون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة اللهِ العظمى وحجته على خلقه, ومبيّناً عن الله عزَّ وجل شرعَه ودينه. وهذه المجالس وتلك جميعها محفوظٌ لديه, لا تحتاج طباعتُها إلا إلى تنقيح يسير.
          وكان مَنْ يحضر تلك المجالس - من العلماء وغيرهم- يشهد أنها مجالس تنقل صاحبَها إلى روح وريحان من روح الجنة وريحانها. والحمد لله رب العالمين.
          ومع هذا فإن شيخنا - أطال الله في عمره- لا يرى أنَّ ما يتكلم به يَصلح أَنْ يُسمّى تفسيراً لكتاب الله عز وجل, فشأنُ تفسير كتاب الله أجلُّ عنده من هذا, كما هو واضحٌ من كتبه التي طبعها وتكلم فيها عن سورة الفاتحة, والحجرات, و ق, وغيرها, فإنّه سمّى كلاً منها: حول تفسير سورة كذا, وما رضي أنْ يسمّي كتابَه: تفسير سورة كذا" ا.هـ
          وقد أطلتُ بنقل هذه الكلمة لما اشتملتْ عليه من فوائد تاريخية وتربوية عالية, هي شأن الشيخ "في كل ما يكتبه".
          والشيخُ شديد الصلة بشيوخه, وحين يتحدّثُ عنهم يتحدَّثُ بحبٍّ وتقدير عمّا رآه وسمعه وملأ قلبَه ونفسَه, ولديه عنهم كلُّ نفيس معجب... وكم رجوتُه أَنْ يدوِّن هذه الذكريات والمذكرات ليعم نفعها وينتشر ... خاصةً بعد مجلسٍ حظيت فيه بالجلوس إلى الشيخ في المدينة المنورة كان محوره الحديثُ عن الشيخ عبد الله سراج الدين وفضائله وفواضله, وعلمه وعمله, وعقله وأدبه, وأثره الكبير على العلم وأهله, وفوائده وفرائده.
          وأذكرُ من ذلك هذه الفائدة العجيبة:
        قال شيخنا: سمعت الشيخ عبد الله سراج الدين يقول - وذلك قبل أن يطَّلع على كتاب نظم الدرر للبقاعي-: المفسِّر إذا لم يفسِّر سورة الفاتحة بسورة الناس فليس بمفسِّر.
          ومن كلام الشيخ أنَّ محفوظات الشيخ عبد الله سراج الدين من الحديث النبوي الشريف مئة ألف حديث, ويبيِّن ذلك...
          أمّا كلامُه على عقل الشيخ، وحسن تصرُّفه، وبُعْدِ مداركه، فهو ممتعٌ رائع. وفَّقه الله تعالى إلى تسجيله وبثِّه.
          لم تنقطع صلتُنا بالشيخ بعد سفره وسفرنا, وبقينا نزوره ونتزود منه في مواسم الحج والعمرة, وقد قدّر اللهُ لنا الحج في موسم 1401 و 1402 و 1403 و 1405 ثم انقطعتُ إلى موسم 1420هـ, ويسّر الله لي الاعتمار في 1423 و 1425هـ.
          وفي هذه الزيارات كلِّها أجلس إلى الشيخ مستفيداً متزوِّداً.
          وكان الشيخُ يحضنا في المواسم الأولى على التزود من العلم, والاهتمام بالأخذ عن العلماء, ويحضُّنا كثيراً على الاهتمام بالعربية, ويحذّرنا ممّا يراه من فوضى في الحياة العلمية, ويسألنا عما اقتنيناه من كتب من مكتبات الحرمين, ومن فوائده حضُّه على قراءة كتب الشيخ علي الطنطاوي وبيان أهم كتابين له, وهما: رجال من التاريخ، وقصص من التاريخ.
          ومن وصاياه لنا آنذاك جلب الكتب التي درسناها لتكون معنا, ومن وصاياه فيما بعد نقل الكتب التي اقتنيناها إلى المكان الذي نكون فيه, ولا يَعلمُ قيمة هذه الوصايا إلا مَن عانى البُعدَ عن كتبه, وذاقَ غصة حاجته إليها، وحاجته إلى ما علَّق عليها دارساً ومدرِّساً.
          وكان على صلةٍ بما يَصدرُ من الكتب في العراق, ولهذا كان يطلب بعضها, ومن ذلك طلبُه شراء "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" للزمخشري.
          وكان يُكرمنا بكتبه مباشرةً -أو مع الواردين-, وبذلك تزداد الصلة وثوقاً.
          ومازلت أذكرُ فرحتي بكتابه "صفحات في أدب الرأي" الذي طُبع أول مرة سنة 1412هـ-1991م وقد أكرمني بنسخةٍ منه مع أخي وصديقي الشيخ (الدكتور فيما بعد) عمر بن عبد العزيز العاني.
          وفي المدينة المنورة عمِل الشيخُ في مركز البحث العلمي التابع للجامعة الإسلامية, وزرناه يوماً فيه, وذكر لنا الشيخُ في تلك الزيارة الحديثَ الشريف: "إن الإيمان ليأرزُ إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" وشرحه, بياناً لفضل المدينة, وترغيباً بالإقامة فيها.
          ثم تفرّغَ للعمل العلمي بنفسه, وكان آخر ما صدر له "المصنّف" لابن أبي شيبة بعد عمل استغرق ست عشرة سنة.
          وهو -إلى هذا- يزورُ ويُزار, ويُقبل عليه أهلُ العلم وطلابُه من كل مكان.. يقول العلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري (ت: 1413هـ) في كتابه "سبيل التوفيق" في كلامه على عمرته في شعبان سنة 1404هـ: "التقيتُ بجماعة من تلامذتي وغيرهم بالمدينة المنورة منهم ... الشيخ محمد عوامة, وهو عالم فاضل جم الخلق".
      وكان قد ذكره في تلامذته قبل ذلك فقال: "لي تلاميذ كثيرون, في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية, منهم قضاة، ومفتون، وأئمة وخطباء, وأذكر مِنْ أعيانهم عدة" وقد ذكر شيخَنا وشيخه فقال: "الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: الأستاذ بجامعة الرياض والمعروف بتحقيقاته القيّمة، والشيخ محمد عوامة: له أيضاً تحقيقات قيمة".
          ولو دُوِّنت مجالسُ الشيخ مع زائريه من أهل العلم وطلابه لرأينا فيها من الفوائد العلمية, والتحقيقات البحثية, والشؤون الدعوية, والنظرات النقدية, والتنبيهات الاجتماعية ما يُقرُّ العينَ, ويسرُّ الخاطر, ويمتع العقل, ولعل اللهَ يوفّق أبناءَ الشيخ الفضلاء لتدوين ما يمكنُ تدوينه, وتسجيل ما يمكن تسجيله.
          وحين انتقلتُ إلى دبي وعملتُ في دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث, وكُلّفت بإدارة تحرير مجلة الأحمدية فُتح لنا بابٌ جديد من الاستفادة من الشيخ وعلومه وتحقيقاته وتدقيقاته مِن خلال تقويم عدد من البحوث الحديثية الواردة إلى المجلة بهدف نشرها.
          وقد رأينا في تقارير الشيخ العلمية الإتقانَ, والدقة, وأداء الأمانة كاملة, ومراعاة الوقت المحدد, وقد يكون تقريره قريباً من عدد صفحات البحث المدروس !
          ولولا سريةُ هذه التقارير لدعوتُ إلى نشرها ليُستفاد منها في هذا المجال.
          ولا أنسى أَنْ أتطرق إلى كتابه القيّم النافع "من صحاح الأحاديث القدسية" الذي انتفعتُ به أيما انتفاع في خُطب الجمعة, ولعلي استنفدتُه كلَّه, كنتُ آخذ الحديث, وأقرأ شرحَ الشيخ المتين له, وأجعل ذلك موضوع الخطبة, وجريتُ على هذا وقتاً كان من أطيب الأوقات, وأظهرها أثراً لدى المصلّين.
          أقول هذا لأشكر للشيخ, ولأدعو له, ولأذكّر إخواني من الذين يخطبون الجمعة بالاستفادة مِن هذا الكتاب القيّم المنوّر.
 
          وأخيراً فإنَّ إحصاء ما استفدناه من الشيخ عَبْرَ دروسه ومجالسه وزيارته ومهاتفته شيءٌ عسير, وهذه كلماتٌ قليلة لا توفّي الشيخ حقَّه, ونسألُ الله أَنْ يجزيه عنّا وعن العلم والدين خيرَ ما يجزي العلماء العاملين.