
لا شك أن لكلّ علمٍ أصولاً مقرّرةً عند أربابه، فمن هجم على علم بدون مراعاة أصوله أو ارتجل أصولاً من عند نفسه ليس له فيها سلَف، ولم يقرّه عليها خَلَف، أتى بالعجائب والغرائب وخَبَط خَبْطَ عشواء، فضلّ وأضلّ.
والتفسير علمٌ من أجلّ العلوم الإسلامية وضع له علماؤه أصولاً عُرفت باسم (قواعد تفسير النصوص) أو (علم الدلالات) أو (أصول الاستنباط) وكلّها تدور على معنى استخراج المعاني من ألفاظ النصوص بناء على قواعد مقررة عند علماء التفسير.
فإذا نظرنا إلى ما أتى به محمد شحرور في تفسيراته لنصوص القرآن الكريم وجدنا أنها لا تقوم على منهج واضح تنضبط به هذه التفسيرات التي بنى عليها أحكامَه العجيبة التي خرجت عن دائرة ما هو معروف من الدين بالضرورة.. وقد ادّعى الشحرور أنّ ما أتى به يقوم على تحليلاته اللغوية لألفاظ القرآن الكريم، وعندما تتبعت هذه التحليلات وجدتُ منهجه فيها أنّه يضع في ذهنه معنىً يريدُه هو للآية التي يتصدّى لتفسيرها ولكنّ ألفاظ النص بمعانيها المعروفة من اللغة لا تُسعفه لتقرير هذا المعنى المراد في ذهنه.. فماذا يفعل؟؟.. إنه يأخذ اللفظ المحوري الذي يقوم عليه النص ويُرجعُه إلى جذره ثم يبحث في المعاجم عن ذلك الجذر حتى يجد معنى من المعاني له تعلّقٌ أو شبة تعلّق بالمعنى المراد ولو كان هذا التعلّقُ واهياً جداً فيجعل هذا المعنى هو المرادَ من ذلكم اللفظ فيبني عليه ما شاء، ولكن كما تُبنى القصور في الهواء.. وهذا منهج كما ترى منكوس مقلوب يمشي على رأسه لا على قدميه.. فبدلاً من أن يفرض النصّ معناه بحسب الدلالات اللغوية والمقاييس المنطقية والأصول العقلية، يفرض هو على النص ما يُريده من المعاني التي يستكره عليها الألفاظ استكراهاً ظالماً، ويعتسف الطريق إليها اعتسافاً مُنكراً.. ضارباً عُرض الحائط بفهم النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة والتابعين ومن بعدهم كلّ علماء الأمة للآية التي أوحيَ إليه تفسيرُها.
لقد أراد أن يكون معنى (النساء) في قوله تعالى (زُيّن للناس حبُ الشهوات من النساء والبنين) المستحدثات من الأمور (أو الموضة كما قال) فأخذ الجذر اللغوي (نسأ) وبحث في المعاجم حتى وجد أن المرأة التي يتأخر حيضها يقال إنها (نسيء) وجمعُها (نساء).. فليكُن معنى (النّساء) هو كلّ ما تأخر زمنُه وإن لم يستخدمْه أحد من العرب في هذا المعنى.. وما تأخر زمنُه هو (الموضة).. فيا لها من رحلة شاقة للوصول إلى التفسير.
أما كلمة (بنين) فقد أراد أن يكون معناها (الأبنية) لكنّ ذلك لم يتأتّ له إلا برحلة أطول وأعجب.. وبعد التنقيب والتنقير وجد فعلَ (أبَنّ) بالمكان بمعنى (أقام فيه) فطار به فرحاً.. فقال: لا بدّ أن (بنين) جذرها (بَنَن) الذي من معانيه الإقامة والإقامة تكون في المنازل التي هي الأبنية إذاً (البنون هي الأبنية) ومن لم يعجبه فليشرب البحر.. ونسي في غمرة حماسته أن النون الثانية في (بنين) إنّما هي زائدة لسقوطها عند الإضافة كقولنا (بنو فلان) لكن لا يهمّ فهذه قراءة معاصرة لا شأن لها بقواعد اللغة القديمة فقد استبدلت بها قواعدها الجديدة ولو كره سيبويه.
ومن أمثلة تلكم التفسيرات الخنفشارية ما أورده في كتابه (الإسلام والإيمان) في شرحه لمعنى السنّة، فقد أراد أن يقول السنّة هي ما اتفق صلى الله عليه وسلم للرسول من معنى الكتاب بما يكون سهلاً يسيراً في عصره، ثمّ هي ما يتيسّر للناس في كلّ عصر من بعد ذلك ويتفقون عليه وإن خالف ما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم!!! فانظر كيف وصل إلى ما يريد.. لقد بحث في المعاجم عن الجذر (سنن) فوجد من بين المعاني الكثيرة له ما جاء مثلاً في لسان العرب:
(وسَنَّ الماءَ عَلَى وَجْهِهِ أَي صبَّه عَلَيْهِ صَبًّا سَهْلًا)
فقال في الصفحة ٩٨ من الكتاب المذكور:
[جاءت السنّة من فعل (سنّ) وتعني في اللغة: اليسر والجريان بسهولة كقولنا ماء مسنون أي يجري بسهولة، وجاءت كذلك بمعنى الطريقة والمثال. وبالنظر إلى هذين التعريفين اللغويين يتضح لنا جليّاً معنى السنّة، إذ تعني أنه بعدَ أن يتمّ وضع طريقة أو مثال في نمط عيش معيّن يُتفقُ عليه حيث يجري هذا المثال أو هذه الطريقة في المجتمع ويصبح متداولاً بكلّ يُسر وسهولة، مثال أي قانون يُسنّ فيصبح بعدها متعارفاً عليه وممارساً في المجتمع]
ثم أورد الآيات التي تنصّ على انقضاء سنن الأولين كقوله تعالى (فقد مضت سنّة الأولين) إلى أن قال في الصفحة ٩٩:
[[هذه الآيات تُصَرّحُ بأن سنن الأولين قد خلت ومضت، وهذا ينفي عنها صفةَ الأبديّة لأنّ أهمّ صفةٍ للسُنّة هي (التسَنُّه) كما في قوله تعالى (... فانظر إلى طعامك وشرابكَ لم يَتَسَنّهْ ...) – البقرة ٢٥٩- ، فالطعام يتَسَنّه بأن يُصيبَهُ التغيّر، والسّنن تتغيرُ حسبَ ظروف المجتمعات ومتطلباتها وتطوّر مستويات وعيها]]
فاعجب ما شاء لك العجب من قصر معنى السنّة على اليسر والسهولة بسبب أنه من اشتقاقات الجذر (سنن) سنّ الماء أي صبه بسهولة ويسر، ولكن الأدهى هو انتقاله من الجذر (سنن) إلى الجذر (سَنَه) الذي يعني تغيّر الطعام وفساده بمرور الوقت ليستنتج أن السنّة تتغير حسب (ظروف المجتمعات ومتطلباتها ومستوى وعيها).. في استغفال واضح للقارئ الذي يُرادُ له أن لا يدري الفرقَ بين (سنن : سين، نون،نون) وبين (سَنَهَ: سين، نون،هاء).. ولتحترق (قواعد تفسير النصوص) في جحيم (القراءة المعاصرة).
الحلقة السابقة هـــنا
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول