شجاعته صلى الله عليه وسلم

حديثنا هنا يرمي إلى تصوير الشجاعة التي انطوت عليها نفس محمد، صلى الله عليه وسلم، تلك الشجاعة المنقطعة النظير، وقد آثَرْتُ أن أُصَوِّر حالة المجتمع العربي وقت ظهور الدعوة، ومقدار نفور القوم منها؛ ليدرك الناس مدى الكفاح الذي كافحه محمَّد، ومقدار ما يلزم لمثل هذا الكفاح من الشجاعة. كما آثرت سوْق أمثلة من مواقفه صلى الله عليه وسلم، تُبَيِّنُ بسالته محاربًا، وشجاعته النفسية مصلحًا دينيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا.

جاء محمد لقومه بدعوة، في قبولها قلبُ حياتِهم رأسًا على عقب، لم تكن تلك الدعوة تتناول دينهم وحده، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت، ولم يكن طَبَعِيًّا ولا مألوفًا أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية؛ فكان إذن لا بد لهم من ردّ هذه الدعوة، وقهر صاحبها؛ ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فَيُعَظِّم حرماتهم التي يعظمون.

كانت مكة للعرب مَحَطَّ الرحال، ومصدر الهدى، إليها يحج الناس خاشعين، وفيها قريش سَدَنة الكعبة، وحماة البيت، أتاحت لها تلك المكانة الممتازة أن ترحل في الصيف إلى الشام والعراق، وفي الشتاء إلى اليمن، آمنة على نفسها وأموالها وتجارتها، فَأَثْرَت واعتزت، وامتن الله عليها بقوله: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) } [قريش: 1- 4].

فقريش الآمنة، العزيزة الجانب الثَّرية، لا شك تعادي من يريد لدينها تبديلًا، ولنظامها تغييرًا؛ ومحمد يدعو أوّلًا إلى توحيد، وينذر ثانيًا بالبعث؛ فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.

وعبادة الأوثان، وإن بانت لنا الآن بعد مئات السنين من قبول التوحيد غريبة مُنكَرَة، لم تكن كذلك في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، بل كانت اليهودية والنصرانية محل سخرية العرب ومقتهم، وكانت الوثنية مستقرة في نفوس القوم.

والعجيب من شأن هذه الوثنية التي يأباها العقل، أنها قريبة لغرائز البشر، فقد ارتد إليها بنو إسرائيل سِراعًا في غَيبة موسى، وقالوا: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف: 138].

وَعَبَدَ المصريون القدماء آلاف السنين أنواعًا من الأوثان والكواكب والحيوان؛ فليس بعجيب أن نرى قريشًا يعزُّ عليها فراق ما عبده آباؤها جيلًا بعد جيل.

ولو أن محمدًا صلى اله عليه وسلم قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك إعناتًا، ولكنه دعا كما قلت إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا: { إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } [المؤمنون: 38].

سخروا من هذه الفكرة، واستدلوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة، مشى إليه يومًا أُبَيُّ بن خلف بِعَظْمٍ بَالٍ، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله؛ فردّ القرآن على ذلك بقوله: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }[1][يس: 78-79].

صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دينَ قريش وعقلَها فسخرت من الداعي، ثم هبَّت إلى الإيذاء والعدوان، لم يكتف محمد صلى الله عليه وسلم بدعواه هذه الغريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر والميسر، والزنا، والربا، وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة؛ ففيها مُتَعُهُم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.

فربا قريشٍ كان في القبائل كلها، ومحمد يريد أن يحرم عليها ما تعده من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنّى لها أن تستطيع على ذلك صبرًا؟

ولكي نتصور تَمَكُّن الخمر والزنا والميسر والربا من نفوس القوم؛ أسوق لكم مثَلًا، تعلمون منه كيف كانت الرذيلة سلاحًا في يد قريش، تُنَفِّرُ به العرب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: جاء أعشى قيس إلى مكة يريد الإسلام، ويمدح الرسول بقصيدة يقول فيها[2]:

وآليتُ لا أُرثِي لها[3] من كَلَاَلَةٍ ولا من حفى حتى تُلَاقِي محمدا

نبيٌ يَرَى ما لا ترون وذكره أَغارَ لعمري في البلاد وأنجدا

فلما كان بمكة، أو قريبًا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فقال له: يا أبا بصير[4]، إنه يحرم الزنا، فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب[5]، فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعُلالات[6]، ولكني منصرف، فَأَترَوَّى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم، فانصرف، فمات في عامه ذاك[7].

لم يكتف محمد بالتوحيد، والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب مستنكر لديهم؛ ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب، فما بال محمد يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟ إنها للكبيرةُ التي لن ترضى قريش أن تُقِرَّه عليها، قريش التي أنِفَت أن تُسوَّى بالناس، فحرَّفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تُفيض منه كما يقف الناس ويُفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج، قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة، قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى لمحمد أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقول لعشيرته: «يا بني هاشم لا يجئني الناس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم»[8].

بل من الغريب أن محمدًا، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوَّى نفسه ببقية الأمة، قبل أن يكون رسولًا يوحى إليه.

لم تستطع قريش صبرًا على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول محمد إنصافًا.

ولم يكتف بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث و حساب شديد، وقوَّض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا، وسوَّى بينها وبين العبيد والمستضعفين، بل قام بطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقًّا في أموال الأغنياء: { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [الذاريات: ١٩] يؤخذ منهم قسرًا، ويُضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما مات الرسول كانت تلك الضريبة أول ما عصَوا عليه، وارتدوا من أجله.

ذلك مجمل من القول، يصور لكم حالة المجتمع الذي قام فيه محمد صلى الله عليه وسلم، داعيًا إلى الله تعالى، وإلى نظام سياسي واجتماعي بَغيض إلى القوم، وقد صور ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: { وقالوا إن نتبع الهدى مَعَك نتخطف من أرضنا } [القصص: 57].

إذا تصورتم ذلك كله، أدركتم ما ينبغي لمثل هذا الكفاح من الشجاعة والصبر، والشجاعة والصبر هما عماد البشرية، يمسكانها على الأرض كما تمسكها الجبال أن تمِيدَ[9] بمن عليها، وقد ضرب الأبطال والشهداء للناس أمثلة في الشجاعة هي النور في تاريخ الحياة، يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وقد امتحنت شجاعة معلم الأبطال صلى الله عليه وسلم طول حياته؛ فما تطرق إليها وَهْن، هذه الشجاعة لازمته منذ الصبا، فهو فيها المجلَّى في الجاهلية والإسلام.

استُحلِف مرة وهو صبي باللات والعزى، فقال: لا تسألني بهما شيئًا، فوالله ما بَغِضْت شيئًا بُغْضي لهما[10].

هذا الصبي يتحدث بهذه الجرأة عن آلهة القوم، لا يخشى بطشًا، وهو المشهور بالحياء، حتى قيل فيه: «إنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها»[11].

خرج إلى اليمن في قافلة مع عمَّيه، وكان في السابعةَ عشْرةَ من عُمُرِه، فرأوا في واد فحلًا من الإبل، قد توحش وجمح؛ فتعرض له محمد وكبح جماحه[12].

وفي حرب الفجار وهو دون العشرين كان يَنبُل[13] على أعمامه.

واعترض القافلة واد مُلئ ماء، فهابته الجماعة، فتقدم وقال: اتبعوني، اتبعوني.

هذه أمثلة من جرأة الصبا، ولكن الأمثلة التي نريدها، والتي ينحني لها أبطال العالم إكبارًا وإجلالًا، هي تلك التي ضربها بعد الرسالة، وبعد أن جهر بالدعوة، وقال الله له: {{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشر كين } [الحجر: ٩٤]،. قال علي: كنا إذا حمي البأس، واحمرَّت الحدق[14]؛ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه[15].

وهاكم حادثتين، هما عندي المثل الأعلى في شجاعة المحارب؛ فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ صوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا، وقد سبقهم إلى ذلك الصوت، واستبرأ الخبر على فرس عُري، والسيف في عنقه، وهو يقول: «لن تُراعوا»[16].

ويوم حنين وقف على بغلته، والناس يفرون عنه، وهو يقول:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

فما رؤي أحد يومئذ كان أثبت منه، ولا أقرب للعدو[17].

ولقد اخترت هاتين الحادثتين من تاريخ طويل؛ لأن الأُولى منهما هبَّ فيها رسول الله إلى مكان الخطر، قبل أن يتحرك الناس، وفي الثانية ثبت في مكان الخطر وقد فرَّ الناس، والذين لهم علم بالحرب يعرفون أنه بهذين الموقفين تُمْتَحَن الشجاعة، فليس أصعب على النفس من السبق إلى الخطر، ولا من الصبر عليه وقد استولى الخوف، وغلب الرعب.

هذه الشجاعة التي امتاز بها أبطال الأمم، والتي كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها النصيب الأوفر، ليست عندي الشجاعة التي اختصَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي هي أعلى صفات البطولة، ولكن شجاعته حين خرج على قومه مفاجئًا بالدعوة التي كرهوها، وشجاعته وهو يصابر على الأذى والسخرية، وشجاعته وقد تعاهدت قريش في صحيفة عُلِّقَت بالكعبة على مقاطعة عمه أبي طالب، ومن تبعه من بيت هاشم والمطلب؛ لحمايتهم له، فبَقُوا في الشدة ثلاث سنين، وهو على هذا، دائب على أن يصلي في البيت ويجهر بالقرآن[18]، وشجاعته وقد بعث أنصاره إلى الحبشة فرارًا من الأذى والموت، وصبره هو بعدهم وحيدًا يتعرض للأذى والموت؛ وشجاعته وقد مات عمه أبو طالب وزوجه خديجة في أيام متتابعات، وكان في عمه وزوجه النصير والوزير، ثم يبقى بعد ذلك قائمًا بمكة، تمر الحادثات عليه كأنها الأعاصير تعصف في ذروة الطود الراسخ، وثباته في الموقف وحيدًا إذ يعرض نفسه على القبائل، ويلقى السخرية وأشنع الرد بالقول والفعل، حتى إذا ما انصرف كل أنصاره مهاجرين ليثرب، جاء البيت يومًا بعد يوم، يقيم صلاته ونسكه جهرًا، ويتلو القرآن جهرًا.

تلك صور لو رسمت وعرضت؛ لكانت أبهج ما تنشرح له صدور الأبطال في كل جيل وأمة، ولجعلت إمامته في الشجاعة النفسية مرضية للأجناس والأديان: سودًا وبيضًا، موحدين ومشركين.

تلك الشجاعة النفسية أو الأدبية التي لا تهن للسخرية، ولا تذل للوعيد، ولا تطيش للوعد، والتي أمسكت الخُلق المحمدي، فكانت سنده الذي لا يتزلزل؛ هي شجاعة مقطوعة النظير في تاريخ البشر.

انظروا إليه وقد سلطوا عليه سلاح السخرية، وهي أفتك ما يكون بالعزيمة، وأقتل ما يكون لحماس الرجال، هي أفتك من الأذى والاضطهاد.

وقف مرة على الصفا ينادي قريشًا، فلما جاءوا يستمعون، أنذرهم حساب الله، فتركوه وانصرفوا، ولم يزد أبو لهب على أن قال: تبا لك! ألهذا دعوتنا[19]؟ كانوا يتواصون فيما بينهم: { لاً تَسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لَعلكم تغلبون } [فصلت: ٢٦].

فهم كانوا يعلمون أن سلاح الهزء والسخرية أنكى على الدعوة من الاضطهاد والأذى؛ فلم يغفُلُوا عن هذه السخرية، فلما أشار القرآن إلى شجرة الزقوم تخويفًا لهم، ازدادوا بها طغيانًا، وقال بعضهم مستهزئًا: يا معشر قريش، أتدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ إنها عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمسكنا بها لنَتزقَّمَنَّها تزقُّمًا[20].

ولما أشار القرآن إلى جهنم، وأن عليها تسعة عشر من الزبانية؛ قال أبو جهل وهو يهزأ برسول الله: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر عددًا، أفيعجِزُ كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟ فنزل القرآن: { وَمَا جَعَلناً أصحاب النار إلا ملائكةً وَمَا جَعَلناً عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا }[21][المدثر: ٣١].

كان الرسول إذا جلس مجلسًا يعظ الناس؛ خَلَفه في مجلسه النضرُ بنُ الحارثِ، وكان قَدِمَ الحِيرة[22]، وتعلم بها أحاديث الفرس، وأحاديث رُستم واسفنديار، فيقول: يا معشر قريش، أنا والله أحسن من محمد حديثًا، فهلمُّوا إليَّ، فأنا أحدثكم، وأنزل مثل ما أنزل الله، ثم يحدثهم عن رستم واسفنديار وملوك الفرس[23].

انظروا أيضًا إلى هذه السخرية بمحمد وأتباعه: ذهب خَبَّاب بن الأرت، أحد المستضعفين من أصحاب رسول الله، وكان صانعًا للسيوف، ذهب يتقاضى من العاص بن وائل، أحد عظماء مكة، أجر ما صنع، فقال له: يا خَبَّاب، أليس يزعم محمد صاحبكم أن في الجنة ما ابتغى أهلُها؟ قال خَبَّاب: بلى، قال: فأنظِرني إلى يوم القيامة يا خَبَّاب، حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكونن أنت وأصحابك يا خَبَّاب آثرَ عند الله مني، ولا أعظم حظًّا[24].

وكان الوليد بن المغيرة قد انفرد بالرياسة في مكة، وأبو عروة بن مسعود الثقفي قد انفرد بالرياسة في الطائف، فكانوا يقولون تهكمًا: { لَولا نزل هذا القرآن عَلَى رَجُل من القريتين عظيم } [الزخرف: ٣١] تصغيرًا من شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وَزِرَايةً به[25].

لم تزدهم هذه السخرية على إضرارها بالدعوة إلا غفلة، ولا زادته إلا صبرًا واستبسالًا، فمرت السنون على هذا التهكم والأذى، والشجاعة النفسية تسنده، وتعلو به، وتقر هيبته، وتُلقي الرعب في نفوس أعدائه.

فلما تحطمت أسلحة السخرية والأذى على جَنَبات النفس الأبيَّة، وتآمر المشركون على قتله؛ خرج مُستخفيًا مهاجرًا، فكان وهو في الغار يقول لصاحبه: { لا تحزن إن الله مَعَنا }[26] [التوبة: ٤٠].

وابتدأ بذلك دور الصراع، الذي لمع فيه السلاح، كما لمعت النفس التي صقلتها الشجاعة؛ فعرف رسول الله كيف يصبر ويرضى، و كيف يثور ويغضب، وبقي خالدًا تنطوي صفحات الأبطال؛ وصفحته منشورة، تقرأ فيها آيات الشجاعة والصبر، ويظل بها رسول الله المثل الأعلى.

من كتاب" بطل الأبطال" للدكتور عبد الرحمن عزام باشا

تحقيق وتعليق الدكتور علي عبد العظيم علي

[1] أسباب نزول القرآن، النيسابوري، تحقيق: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح – الدمام، الطبعة الثانية: 1412 هـ - 1992م (1/364).

[2] نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423 هـ (18/73).

[3] رَثَى لَهُ: أَي رَقَّ لَهُ، لسان العرب (14/309).

[4] يقال للأعمى: أبو بصير.

[5] أرب: الإِرْبَةُ والإِرْبُ: الحاجةُ، وَفِيهِ لُغَاتٌ: إِرْبٌ وإرْبَةٌ وأَرَبٌ ومَأْرُبةٌ ومَأْرَبَة، لسان العرب (1/208).

[6] علالات: قال في اللسان: «والعُلالة، بِالضَّمِّ: مَا تَعَلَّلت بِهِ أَي لَهَوْت بِهِ، وتَعَلَّلْت بالمرأَة تَعَلُّلًا: لَهَوْت بِهَا» (11/470).

[7] السيرة النبوية لابن هشام (1/388).

[8] رواه البيهقي في شعب الإيمان حديث (4/289) برقم (5137).

[9] تميد: تتحرك، قال في اللسان: «ومادَ الشيءُ يَمِيدُ مَيْدًا: تَحَرَّكَ وَمَالَ» (3/411).

[10] أخرجه البهقي في الدلائل (362).

[11] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3562) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[12] ذكره ابن كثير في السيرة النبوية (1/232)، ولم يذكر له سندا.

[13] ينبل: يناولهم النَّبْل، قال في اللسان: «ونَبَلَ عَلَى الْقَوْمِ يَنْبُلُ: لَقَطَ لَهُمُ النَّبْل ثُمَّ دَفَعَهَا إِليهم لِيَرْمُوا بِهَا» (11/643).

[14] أي: اشتدت ساعة القتال.

[15] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند الإمام علي رضي الله عنه برقم (1042)، انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل،تحقيق: أحمد محمد شاكر،الناشر: دار الحديث – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1995 م، (2/49).

[16] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق، برقم (6033)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[17] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: بَابُ مَنْ صَفَّ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الهَزِيمَةِ، وَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَاسْتَنْصَرَ، برقم (2930) من حديث البراء رضي الله عنه.

[18] السنن الكبرى للبيهقي، جُمَّاعُ أَبْوَابِ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرَبْعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ غَيْرِ الْمُوجَفِ عَلَيْهِ، بَابُ إِعْطَاءِ الْفَيْءِ عَلَى الدِّيوَانِ وَمَنْ يَقَعُ بِهِ الْبِدَايَةُ، (6/594) برقم (13076).

[19] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: تفسير القرآن، باب: بَابُ قَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، برقم (4801) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

 

[20] (الزَّقُّومُ) اسْمُ طَعَامٍ لَهُمْ فِيهِ تَمْرٌ وَزُبْدٌ. وَ (الزَّقْمُ) أَكْلُهُ وَبَابُهُ نَصَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43] قَالَ أَبُو جَهْلٍ: التَّمْرُ بِالزُّبْدِ (نَتَزَقَّمُهُ) أَيْ نَتَلَقَّمُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] الْآيَةَ. (مختار الصحاح1/136).

[21] السيرة النبوية لابن هشام (1/213).

[22] الحِيرَةُ: بالكسر ثم السكون وراءٍ: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النّجف.

[23] السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة، دار القلم - دمشق

الطبعة: الثامنة - 1427 هـ (1/297).

[24] السيرة النبوية لابن هشام (1/357).

[25] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط. العلمية (7/207).

[26] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم (3615) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين