(لا تبدووا اليهود ولا النصارى بالسلام)؟
وجه لي أحد الفضلاء بالأمس سؤالا هذا نصه:
هناك أحاديث تنشرُ ثقافة الكراهية بين النَّاس، وتحث المسلمين على ظلم غير المسلمين والإعراض عنهم والتضييق عليهم حتى في الطرقات:
ففي الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)) ([1]).
فما هو الجواب عن هذه الشبهة؟
الرد على الشبهة:
أولًا: الحديث صحيح وقد روي في كل من صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وفي مسند الإمام أحمد وفي غيرها من كتب السنة([2])..
ثانيًا: إن سبب هذا الفهم الخاطئ للحديث هو الجهل بسبب وروده، فالحديث خاصٌّ بواقعة بعينها وذلك لما سار المسلمون إلى بني قريظة بعد أن نقضوا العهد ووقفوا إلى جانب الكفار للقضاء على المسلمين.
كما عند النسائي في الكبرى عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي رَاكِبٌ إِلَى يَهُودٍ، فَمَنِ انْطَلَقَ مَعِي، فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ))([3]).
وجاء عند أحمد في روايتين متعاقبتين بلفظ: ((إنا غادون)):
عَنْ أَبِي بَصْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّا غَادُونَ عَلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) ([4]) .
قال ابن القيم رحمه الله:
(وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تبدؤوهم بالسلام))
- وهذا لـمَّا ذهب إليهم ليحاربهم وهم يهود قريظة –
فأمر ألا يُبدؤوا بالسلام؛ لأنه أمان،([5])
ماأروع هذا الفهم من ابن القيم، وماأحلاه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى بني قريظة لمحاكمتهم على خيانتهم ونقضهم العهد، فلو سلم عليهم فهذا ضمان منه صلى الله عليه وسلم ، ولو سلم عليهم صلى الله عليه وسلم لاعتبر ذلك أمانا.
ولو سلم عليهم صلى الله عليه وسلم لعد هذا منه حكما، وحاشاه بعدها أن ينقض عهده، وأمنه.
ثالثًا: قاعدة في فهم الشبهات والرد عليها:
علينا في كل شبهة أن ننظر إليها من خلال المحاور التالية:
أولا- القرآن الكريم.
ذكر ماورد في كتاب الله سبحانه وتعالى من الهدي في كل أمر من الأمور، من الأصول والقواعد في التعامل مع أهل الكتاب بشكل عام، واليهود بشكل خاص.
ثانيا-جمع روايات الحديث لفهم الحدث كاملا.
ثالثا-نفي النسخ أو الخصوص.
رايعا: وهذه أهم مسألة وهي بيان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في التعامل معهم بشكل عام.
النص القرآني:
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالبر في التعامل :
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة : آية 8.].
والبر شامل لكل أوجه الإحسان والخلق الحسن.
وأمرنا سبحانه وتعالى بالخلق الحسن مع الناس:
قوله سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة : آية 83].
قال ابن كثير: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا ولينُوا لَهُمْ جَانِبًا وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فالحُسْن مِنَ الْقَوْلِ: يأمُر بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُق حَسَنٍ رَضِيَهُ اللَّهُ) .
قال القرطبي: (قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، قال الله تعالى: : ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[الممتحنة: 8]
وقوله سبحانه وتعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . الزخرف :89.
قال الطبري:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, جوابا له عن دعائه إياه إذ قال: " يا ربّ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون: ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ) يا محمد, وأعرض عن أذاهم ( وَقُلْ ) لهم: ( سَلام )..
والآيات كثيرة في هذا الباب.
لفتة هامة:
الكافر إذا سلم سلاماً واضحاً وقال: السلام عليكم، يُرد عليه بالمثل: وعليك السلام، ولا يقال له: وعليك فقط، لعموم قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، وذا هو الذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة، والله يأمر بالعدل والإحسان.
وإنما نقول لهم: وعليك إذا تأكدنا أنهم قالوا لنا: السام عليكم. ([6])
عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
*-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: ((تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)) ([7])
فهو أمر عام، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
*-عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيامٌ، تَدخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ.
لفتة:
هل تجوز غيبة أهل الكتاب:
*- سئل عبد الله بن وهب صاحب مالك عن غيبة النصراني فقال: أو ليس من الناس؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله عز وجل يقول {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة : آية 83].
سؤال: هل يجوز ابتداء أهل الذمة بالسلام؟
وقيل لمحمد بن كعب القرظي: إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: ترد عليهم ولا تبدؤوهم! فقال محمد بن كعب: أما أنا فلا أرى بأسًا أن تبدأهم بالسلام، قيل له: لم؟ فقال: لقوله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف : آية 89] .
*- ومن هديه صلى الله عليه وسلم النهي عن سبهم وشتمهم عندما سبوا وشتموا، بل أمر بالرفق في الأمر كله.
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ)) ([8])
وفي رواية أخرى للبخاري:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ اليَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ ، قَالَ : وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : السَّامُ عَلَيْكُمْ ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَهْلًا يَا عَائِشَةُ ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ ، أَوِ الفُحْشَ قَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ. ([9])
والأدلة كثيرة في هذا الباب، وفروع المسألة كثيرة، وفي هذا كافية ان شاء الله لمن أراد الهداية، والله يتولانا ويتولاكم بالحفظ والرعاية.
([1]) أخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ السَّلَامِ ـ بَابُ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ـ جـ 4 ـ صـ 1707 ـ حديث رقم 2167، وأخرجه أبو داود في سننه ـ أَبْوَابُ النَّوْمِ ـ بَابٌ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ـ جـ 4 ـ صـ 352 ـ حديث رقم 5205.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه ـ كِتَابُ السَّلَامِ ـ بَابُ النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالسَّلَامِ وَكَيْفَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ ـ جـ 4 ـ صـ 1707 ـ حديث رقم 2167، وأخرجه أبو داود في سننه ـ أَبْوَابُ النَّوْمِ ـ بَابٌ فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ـ جـ 4 ـ صـ 352 ـ حديث رقم 5205.
([3]) النسائي في الكبرى،
([4]) المسند.
([5]) أحكام أهل الذمة لابن القيم 3/1326.
([6]) أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/425
([7]) رواهُ الترمذيُّ وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
([8]) البخاري، باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، نحو قوله: السام.
([9]) البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لنا في اليهود، ولا يستجاب لهم فينا.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول