سقوط القدس

     وصل الصليبيون إلى القدس يوم الثلاثاء، في (15) رجب، عام: (492 هـ)، وكان الفاطميون قد أرسلوا جيشًا لحماية القدس من الصليبيين(*)، يقاتل مع أهلها، فحاصر الصليبيون القدس (39) يومًا، ضربَ خلالها أهلُها أروع الأمثلة في البطولة، والدفاع عنها، وقاتل معهم الفاطميون، ثم سرعان ما انسحب الفاطميون من القدس، بعد أن طلبوا الأمان من الصليبيين، فأعطاهم الصليبيون الأمان، فخرجوا منها آمنين، لم يتعرَّض لهم أحد بسوء! وبعدها انهارتْ قوة المسلمين، ودخل الصليبيون بيت المقدس.

     يذكر ابن الأثير: أنَّ الصليبيين لـمَّا دخلوا القدس قتلوا في المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألف مسلم؛ ممَّن احتمى فيه من العلماء والعُبَّاد والزُّهاد، وغيرهم، ثم توزَّعوا في القدس فقتلوا أهلها، ومارسوا فيهم أبشع صنوف القتل والتعذيب، فقطعوا الرؤوس، وجمعوها أكوامًا، وكذا فعلوا بالجثث، وكانوا يرمون الناس من الشواهق، حتى لقد غاصتْ خيولهم بدماء القتلى، فلم يعد يُرى في المدينة إلَّا الموت، والجثث والأشلاء، ودخلوا على اليهود في معبدهم؛ فأحرقوهم فيه، ولا يُعرف كم كان عددهم فيه.

     أقام الصليبيون مملكة لاتينية، امتدت حدودها من بيروت إلى العقبة، اتخذوا من القدس عاصمة لها، ثم أنشؤوا في القدس فرقتين كبيرتين، هما قوام مملكتهم، أطلقوا على الأولى اسم: (الداوية) اختصت بقتال المسلمين بشراسة وهمجية، ولقي المسلمون منها شدةً واضطهادًا، وكانت الثانية تسمى: (الاستبارية) كان عملها الاهتمام بحجاج بيت المقدس، والمرضى النصارى، ثم تحولت والداوية إلى هيئة حربية، مقرها المسجد الأقصى.

     حققت الحملة الصليبيَّة الأولى على بلاد المسلمين نتائجَ وأهدافًا كثيرة، كان من أعظمها الاستيلاء على بيت المقدس، وعمل الصليبيون بعد ذلك -للحفاظ على انتصاراتهم وبقائهم في بلاد المسلمين- على الاستيلاء على ساحل البحر المتوسط؛ بعد أن لمسوا تهاون الفاطميين في الدفاع عنه؛ فاستولوا على حيفا وعكا، وغيرها من الموانئ الشامية؛ ليبقى باب التواصل مع أوربا مفتوحًا، كما عملوا على إثارة النعرات والخلافات بين المدن الإسلامية؛ لتبقى مقسَّمةً ضعيفةً، وحافظوا كذلك على العلاقات الوثيقة مع حلفائهم الباطنيين الإسماعيلية.

     بعد أن انتشرت رائحة الموت في كل مكان، وعلتْ أصوات أجراس النصارى فوق المسجد الأقصى، ودُنِّستْ صخرة المسجد الأقصى، ورُفع عليها الصليب؛ صحتْ الأمة من سباتها، ونهضتْ بعد هذا النوم الطويل، وأخذتْ تُعدُّ العدة لإخراج الصليبيين من بلاد المسلمين، ولكنَّ هذا السبات العميق كلَّفها عمل واحد وتسعين عامًا؛ حتى استطاعت أن تستردَّ المسجد الأقصى، وتطرد الصليبيين من ديارها، حيث بقي المسجد الأقصى واحدًا وتسعين سنة بيد الصليبيين، لا يُرفع فيه أذان، ولا تُقام فيه جُمعة، ولا جماعة، حتى جاء آل زنكي، وبعدهم صلاح الدين، فطهروا البلاد من رجس الباطنيين، ثم خلصوا المسجد الأقصى من الصليبيين، واستمرت بعد ذلك الحملات الصليبيَّة على بلاد المسلمين، حتى استطاع المماليك فيما بعد طردهم من بلاد الشام كلها، كما سيأتي.

 

(*) عند وصول الحملة الصليبية الأولى إلى آسيا الصغرى كانت القدس تحت حكم السلاجقة؛ فاستغل الفاطميون انشغال السلاجقة بمقاومة الصليبيين فأقدموا على الاستيلاء على بيت المقدس، ينظر: المطوي، تاريخ الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، مصدر سابق، ص: 52.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين