رمضان بين التضييع والاستثمار

 قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «هذا رمضان قد جاءكم، تُفتح فيه أبوابُ الجنة، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُسلسل فيه الشياطين».. أخرجه النسائي بسند صحيح.

 رمضان، شهر الخيرات والبركات، والأنوار والنفحات الربانية، ترى.. كيف ينبغي للمسلم أن يستقبل هذا الشهر الفضيل؟

 سُئِل ابن مسعود: ((كيف كنتم تسقبلون شهر رمضان؟ قال: ما كان أحدنا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقالُ ذرةِ حقدٍ على أخيه المسلم)).

 لقد فَقِهَ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنّ المقصود من الصيام هو التقوى، كما قال تعالــى: (أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة : 183]. والتقوى محلُّها القلب، إذن فلا بد من العناية بهذا القلب، والحرص على تطهيره من آفاته وأمراضه  من حقد وحسد وغلّ ورياء وكِبْر...، في مستهل هذا الشهر الفضيل، حتى يتسنّى لهذا القلب استقبال الأنوار الربانية والنفحات الرحمانية بكفاءة عالية، ولا بد من تزكية الأنفس، وشهر رمضان فرصة عظيمة لتحقيق هذه الطهارة والتزكية القلبية والروحية.

 ولكنّ العجيب والمُحزن في الأمر، أنّ كثيراً من المسلمين اليوم في غفلة عن هذا الهدف السامي، وعن هذه الغاية المرجوّة من الصيام، فتراهم منشغلين بتكديس الطعام والشراب في بيوتهم وكأنهم قادمون على سنة مجاعة أو قحط، أو أنّهم ربما يظنون أنّ الصيام يعني الكسـل و"التنبلة"، وعدم القدرة على الحركة، وليس سوى شراء الحاجيات!!! وهذا الإقبال الشديد على شراء المواد الغذائية أدّى إلى التهاب الأسعار، فبعض التجار ـ هداهم الله ـ يحسَبون أن هذا موسم لتحقيق المكاسب والأرباح، وهو كذلك، ولكن في الأجر والثواب، وليس في امتصاص أموال الناس!!!

 مساكينُ هؤلاء، همّهم شهواتُهم ومصالحهم وحظوظهم الدنيوية، مسكيـــن من يلتصق بالأرض، همه الأكل والشرب والحظوظ الدنيوية، ويغفل عن الآخرة وعن اغتنام النفحات الربانيـة.

 ومساكين أيضاً مَن يضيّعون هذا الشهر الفضيل في "العزايم"!! ينتهي الشهر وهم مشغولون بالطبيخ وتنظيف الأواني...، وكأنه شهر الأكل والشُّرب، بل والتفنن في صنع الحلويات..!!

 يقول الإمام الغزالي: ((ومِن آدابه ـ أي الصوم ـ أن لا يمتلئ من الطعام في الليل، ومتى شبع أول الليل لم ينتفع بنفسه في باقيه، وكذلك إذا شبع وقت السَحَر لم ينتفع بنفسه إلى قريب من الظهــر، لأنّ كثرة الأكل تورث الكسل والفتور، ثم يفوت المقصود من الصيام بكثرة الأكل، لأن المراد منه أن يذوق طعم الجوع، ويكون تاركاً للمُشتهى)).

 وحتى من يقول بأن الاجتماع على الطعام بين الأرحام فيه الأجر والثواب والصلة، نقول لهم وهل صلة الأرحام لا تكون إلا بالاجتماع على الطعام؟ ثم إنّ هناك متّسعاً في باقي أشهر السنة، أما رمضان فهو فرصة ونَفْحة ربانية لا ينبغي أن نضيّعها في الطعام والشراب، ثم إننا نعيش في زمن قد تعقدت فيه أساليب الحياة، فما عاد تحضير الطعام بتلك السهولة التي كان عليها زمن الصحابة الكرام، ثم إنهم لم يكونوا يضيّعون أوقاتهم في هذا الشهر الفضيل بالانشغال بتحضير الطعام وما يتعلق به، فقد كانوا يعيشون حياة البساطة، ولا يتكلفون في أكلهم وشربهم، وحتى لو اجتمعوا على الطعام، فليس ثمة صعوبة في الأمر، فطعامهم سهل التحضير، ثم إنهم لم تكن لديهم هذه الأواني التي لدينا الآن فتحتاج الصحابيات إلى قضاء الساعات الطوال في تنظيفها!! ولكنهم كانوا يغتنمون شهر رمضان بالقيام والاعتكاف وتلاوة القرآن والصدقات...

 أيها الإخوة، أنا أرى بأنّ الإطعام في هذا الشهر الفضيل يجب أن يكون بالدرجة الأولى للفقراء والمساكين والمحتاجين واليتامى وابن السبيل..، وإطعام هؤلاء ينبغي أن يكون في رمضان وفي غير رمضان، ولكن ينبغي الحرص عليه أكثر في رمضان لمضاعفة الثواب: (ويُطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) [الإنسان: 8].

 أما إنْ كان ولا بد من الاجتماع على الطعام عند بعض العائلات، فلو أنّ كل أسرة قامت بصنع صنف واحد من الطعام، ولو استعملوا الأطباق الورقية والتي لا تحتاج إلى تنظيف، لكان أوفر للوقت وللجهد، والله الموفق إلى كل خير، ويَجزي كُلاً على نيّته، ولكن المهم أن تكون صلة الرحم صلة حقيقية وليست شكلية، وفي كل وقت وليس في رمضان فقط، وليس فقط بوجود الطعام!!

 والمهم أيضاً أن تتحقق لدينا ثمرة الصيام، وهي التقوى، لأنها لو تحققت فعلاً، لتغيّر حالنا ما بعد رمضان، ولأصبح دهرنا كله رمضان.

 

 مررتُ على قوم يبكون قلــت           ما يُبكيكم؟ قالوا: مضى شهر الغنائم

 قلت: دعوا البكاء، لو اتّقيتم             في رمضان، بقي الشهر قائـــم

 أدعو الله أن يلهمنا الصواب، ويرزقنا الحكمة، ويفقّهنا في الدين، وأن يؤتي نفوسَنا تقواها، ويزكيها فهو خير من زكاها، وأن يختم لنا شهر رمضان برضوانه، ويجعل مآلنا إلى جنانه، ويعيذنا من عقوبته ومن نيرانه... اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين