ردود على شبهات (4)

رابعاً: الحدود في الإسلام

تمهيد:

1 - في الشريعة الإسلاميَّة عقوبات على ما يُعتبر جرائم في حكم الشريعة الإسلاميَّة وهذه العقوبات ثلاثة أنواع:

(الأول) ويسمى الحدود.

(والثاني) القصاص والديات.

(والثالث) التعزير.

والحدود هي العقوبات المقدَّرة من قبل الشارع لبعض الجرائم وجبت حقاً لله [الأحكام السلطانية للماوردي ص102]، وهذه العقوبات هي: عقوبة جريمة الزنى، ومقدارها الجلد والتعزير أو الرجم. وعقوبة شرب الخمر ومقدارها الجلد بعدد محدود. وعقوبة السرقة وهي قطع اليد والرجل من خلاف، أو القتل والصلب والنفي.

وعقوبة القذف وهي الجلد بعدد محدود ومعنى القذف: اتَّهام المقذوف بجريمة الزنى.

وعقوبة البغي وهي قتل البغاة. وعقوبة الردَّة وهي قتل المرتدِّ بعد استتابته ثلاثة أيام.

2 - وهذه العقوبات عليها أدلة شرعية معتبرة مع إجماع الفقهاء ولا يختلفون في هذه العقوبات وإنما يختلفون في شروط وجوبها وتفصيل ذلك في كتب الفقه المختلفة.

اعتراضات:

3 - وقد أثار البعضُ شبهاتٍ حول هذه العقوبات مُعترضين عليها صراحة حيناً ومخفين هذا الاعتراض حيناً آخر، فمن شبهاتهم واعتراضاتهم على هذه العقوبات ما يأتي:

أ - إنَّ هذه العقوبات جميعاً تُعتبر قاسية جداً ومن ثَمَّ بعيدة عن العدالة.

ب - إنَّ في بعضها إهداراً لآدميَّة الإنسان كما في جلده في عقوبة الزنىٰ.

ج - في بعضها تدخل في حرية الإنسان الشخصية كما في عقوبة الزنىٰ. والزنىٰ إذا تمَّ عن رضا بلا إكراه فلا يجوز العقاب عليه؛ لأنَّه من قبل التدخل في حرية الإنسان، ومثله عقوبة شارب الخمر.

د - عقوبة المرتدِّ فيها معنى الإكراه على الدين والتدخل بحريَّة الإنسان في الاعتقاد.

هـ - وبعضها فيه بتر للأعضاء والأرجل وهذا أسلوب قديم في العقاب يجب أن يزول فضلاً عمَّا فيه من تعطيل المعاقبين عن الكسب وصيرورتهم عالة على المجتمع.

تلك هي مجمل اعتراضاتهم التي يُثيرونها على النقول المسماة بالحدود وهذه الاعتراضات هزيلة لا تثبت أمام المناقشة الموضوعية، ونردُّ عليها بإيجاز فيما يلي بنفس تسلسل فقراتها، فنقول [انظر كتابنا المدخل لدراسة الشريعة الاسلامية ص52-54،وكتابنا مجموعة بحوث فقهية ص410-416]:

4 - أ- بالنسبة لقسوتها وبعدها عن العدل كما يزعمون نقول:

في كل عقوبة يجب أن يتوفر مقدار كافٍ من الإيلام ليردع من تسوِّلُ له نفسه الإقدام على الجريمة وهذا الإيلام يتناسب طردياً مع جسامة الجريمة والإيلام شيء قاسٍ بطبيعته، فإذا ما كان بالقدر المناسب للجريمة كان كافياً للردع ومحققاً للعدالة، وهذا موفور في عقوبات الحدود وفي العقوبات الشرعية الأخرى، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، كما أنَّ هذه العقوبات حَقَّقت الردع بالقدر الممكن يوم كانت هي المطبَّقة، ولكن عندما عُطِّلت كثرت هذه الجرائم. والإحصائيات تدلُّ على ذلك.

5 - ب- ادِّعاء إهدارِ الآدمية في الجلد مردود، بأنَّ الزاني هو الذي أهدر آدميَّتَه عندما أباح لنفسه أن يَلغ في إناءِ غيرِه، وأباح لنفسه أن ينزل إلى مستوى الحيوان في الاتصال الجنسي ومثل هذا الشخص يحتاج إلى الجلد بعد انحداره إلى هذا المستوىٰ.

وأما جلد شارب الخمر فمردُّه حرص الشريعة على عقل الإنسان من التعطل أو الزوال وما يترتب على ذلك من إقدام على الإجرام.

وأما جلده في جريمة القذف فلأن القاذف يريد تلويث سمعة وعرض المقذوف وإشاعة الفاحشة في المجتمع مع أنَّ الإسلام يُريده مجتمعاً طاهراً عفيفاً نظيفاً حتى من كلمات الفحش فضلاً عن عمل الفاحشة.

وقد يقال هنا: إنَّ جريمة الكفر والردَّة أكبر من جريمة الزنىٰ، ولو قال إنسان لآخر مسلم: (يا كافر)، فمعنى ذلك أنَّه اتَّهمه بالردَّةِ عن الإسلام، ومع هذا لا يعاقب القاذف بالجلد ثمانين جلدة، بينما لو قال شخص لإمرأة (يا زانية) وعجز عن الإثبات، فإنه يُجلد ثمانين جلدة، أوليس في هذا تفاوت وبُعد عن العدالة فيه؟.

والجواب على ذلك: إنَّ المقذوف بالكفر والردَّة يستطيع أن يُكذب القاذف بأن يتلفظ الشهادتين فيقول: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أنَّ محمدا رسول الله، ولكن ماذا تفعل المرأة المقذوفة بالزنىٰ لتكذيب القاذف؟

ومن طبائع الناس أن تتلقَّف قالة السوء حتى لو كانت المقذوفة من الطاهرات، ولنا في قصة الإفك ورمي السيدة أم المؤمنين عائشة الصدّيقة رضي الله عنها خير دليل.

من أجل هذا غلَّظت الشريعة الإسلاميَّة عقوبة القاذف حفظاً لأعراض المسلمين والمسلمات، وصيانة المجتمع من قول الفحش والتعود عليه والاستهانة به لأنه يجرُّ إلى الاستهانة بفعل الفاحشة.

6 - ج- الزعم بأنَّ في بعضها تدخلاً في حريَّة الشخص

كما في عقوبة الزنىٰ وشرب الخمر، فليس الأمر كما زعموا؛ لأنَّ حرية الشخص تقف عندما تكون أداة إيذاء وإفساد في المجتمع، والزنىٰ إفساد وتخريب بيوت وتشريد أطفال.

إنَّ الرضى في الزنىٰ لا يُغيِّر من جريمة الزنىٰ شيئا لأنَّ العِرْض مما لا يجوز فيه البذل والعطاء. إنَّ الإسلام يريد سلامة الأسرة وحفظ اللسان وعدم ضياع الأطفال، وهذا يحصل بمنع الزنىٰ ومنعه يكون بتحريمه والعقاب عليه، فلا يجوز لرجل شريف غيور أن يصبح مُعترضاً على عقوبة الزنىٰ، وإنما يمكن أن يصدر هذا الصياح ممن لا يهتمُّ بعِرْضٍ، ولا شَرَفٍ ولا كثرة الأخطاء في المجتمع.

أما عقوبة شرب الخمر وأنَّها تدخُّلٌ في حريَّة الإنسان فالرد على هذا القول: إنَّ شرب الخمر يؤدِّي إلى الجريمة ومن حقِّ المجتمع أن يمنع الجريمة ويسدَّ منافذها، وعلى الإنسان أن يخضع لقيود المجتمع النافعة له وللفرد نفسه.

7 - د- عقوبة المرتد وأنها تعني الإكراه على الاعتقاد:

أما عقوبة المرتدِّ وأنها تعني الإكراه على الاعتقاد وأنها تدخُّلٌ في حرية العقيدة فالجواب: أنَّ المرتدَّ رجل كان مسلماً وارتدَّ، أي: أنه ارتكب جريمة تسمى (الردة) فيعاقب على هذه الجريمة.

وسبب كونها جريمة أنَّ المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وبردَّتِه يكون قد نقض هذا الالتزام، ومن المعلوم أنَّ هناك عقاباً لمن يخلُّ بالتزامه أو ينقضه وقد يكون العقاب إعدام الشخص كالذي يخون وطنه ويتجسَّس على بلاده، وعقوبة هذا المواطن الخائن الإعدام، فلا غرابة في قتل المرتد. ومع هذا يُمهل ثلاثة أيام فإن تاب ورجع عن ردَّتِه سقط عنه العقاب. فعقوبة المرتدِّ لا علاقة لها بحرية العقيدة ولا بالإكراه على الدين وإنما هي عقوبة لجريمة الردَّة إذا ارتكبها المسلم.

8 - هـ- ادِّعاؤهم أنَّ بترَ الأعضاء في العقاب أسلوبٌ قديم، ويؤدي إلى صيرورة المعاقب عالةً على المجتمع ادِّعاء مردود بأنَّ العبرة ليست بكل جديد فما كل جديد مقبول ولا كل قديم مرفوض، وإنما ميزان القَبول والرفض هو الصلاحيَّة، ولا شك أنَّ قطع اليد عقاب صالح لأنَّه رادع بالقدر الكافي، وقد أدَّى مهمَّةً في الماضي، فمنع الإجرام وأمِنَ الناسُ على أموالهم.

أما عقوبة الحبس للسارق في الوقت الحاضر فما ردعت السُرَّاق وما قلَّلت جرائم السرقة، بل هي في تزايد مُستمرٍّ، وأصبح السجن مُنتدى يتجمَّع فيه السراق فيتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والاحتيال !

وأما صيرورة المعاقب والمقطوعة يده عالة على المجتمع فهذا غير صحيح؛ لأنَّ مقطوع اليد يستطيع أن يعملَ بعضَ الأعمال وحتى لو صار عالةً، فهذا خير من أن يكون أداةَ رعب وتخريب وفزع في المجتمع.

واليد على كل حال أهون من الرأس والرأس يقطع في بعض الجرائم التي يستحقُّ مرتكبوها قطع الرأس فكذا اليد يجب أن تقطع – وهي أقل شأناً من الرأس – في الجرائم التي يستحقُّ مرتكبها قطع يده.

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية – الدوحة-1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين