ردود على شبهات (2)

ثانياً: موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني قريظة

تمهيد:

1 - لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً وادعته يهود كلها وكتب صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبينهم كتاباً وجعل بينه وبينهم أماناً وشرط عليهم شروطاً، فيها أن لا يظاهروا عليه عدواً، وفي رواية: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاهدهم على أنَّ ينصروه ممن دهمه [إمتاع الأسماع للمقريزي ص14 – 25 - 226].

2 - وكان يهود المدينة ثلاث طوائف هم: بنو قَيْنُقَاع و بنو النَّضِير وبنو قُرَيْظَة. أما بنو قَيْنُقَاع ‏فقد أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى أَذْرِعات وهي مدينة بأطراف الشام. وأما بنو النَّضِير‏‏ فقد أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سبعة وثلاثين شهراً من الهجرة بسبب خيانتهم ونقضهم العهد وقد نزل بعضهم في خيبر وذهب البعض الآخر إلى الشام [إمتاع الأسماع للمقريزي ص181].

3 - إلا أنَّ هؤلاء اليهود بالرغم من إجلائهم عن المدينة لم يكفوا عن عداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والكيد له، ومن كيدهم إنَّ نفراً منهم ذهبوا إلى قريش مع بعض رؤسائهم من بني النَّضِير‏‏ مثل حُيَيُّ بن أخطب يحرِّضون قريشاً على مُهاجمة المدينة ومقاتلة المسلمين ويعدونهم النصر والإعانة فأجابوهم إلى ذلك ثم ذهب هؤلاء اليهود إلى قبيلة غطفان وهيجوهم على قتال المسلمين وأعلموهم بعزيمة قريش على مهاجمة المسلمين فأجابوهم إلى طلبهم. وهكذا تجمع المشركون وتوجهوا إلى المدينة يريدون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وعلم صلى الله عليه وآله وسلم بمقدمهم فأمر أصحابه بحفر خندق حول المدينة لصد المشركين ومنعهم من دخول المدينة.

4 - ولم يكتف اليهودي حُيَيُّ بن أخطب بما فعل بل قدم على بني قُرَيْظَة في حصونهم وما زال يحرضهم على نقض عهدهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك العهد الذي يُلزمهم بنصرة المسلمين ضد من يريد مُهاجمة المدينة أو وقوفهم على الحياد في الأقل حتى استجاب يهود بني قُرَيْظَة إلى تحريضه فأعلنوا الخيانة ونقض العهد والتعاون مع الأحزاب، وهم المشركون المحاصرون للمدينة مما جعل الأمر شديداً جداً على المسلمين، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10]

ويقول الإمام ابن كثير في تفسيره: (إنَّ الذين جاؤوا من أسفل المؤمنين هم بنو قُرَيْظَة لما نقضوا العهد) [تفسير ابن كثير ج 3 ص47].

5 - وأخذت بنو قُرَيْظَة ترسل جماعات منها للإغارة على المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسماً من جند المسلمين إلى المدينة لمقابلة اليهود المغيرين عليها وردهم عنها حفاظاً على الذراري والنساء فيها إذ كان خوف المسلمين على هؤلاء من هجمات اليهود أشد من خوفهم من هجمات قريش وغطفان من خلف الخندق [إمتاع الأسماع للمقريزي ص228]..

6 - وبعد أن ردّ الله تعالى الأحزاب عن المدينة وزال الحصار عن المسلمين توجَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معه إلى بني قُرَيْظَة ليضعوا حدّاً لخيانتهم فحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتدَّ عليهم الحصار وأبَوا أن يَنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا ننزل على حكم سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وكانوا يطمعون في ميله باعتباره سيد الأوس وكانوا حلفاءهم في الجاهلية.

7 - وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون الحكم بينه وبين بني قُرَيْظَة سَعْد بْن مُعَاذٍ فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تَقتلَ مُقاتلتهم وتسبى نساءهم وذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات [السيرة النبوية للامام ابن كثيرج 3 ص233 ومابعدها].

وقد نَفَّذ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم حكم سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فقتل مقاتلتهم وكان عددهم أربعمائة وقيل ستمائة أو سبعمائة [السيرة النبوية للإمام ابن كثيرج 3 ص239].

تقدير هذه المعاملة:

8 - زعم بعض أعداء الإسلام أن معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت قاسية جداً وبعيدة عن العدل وكان يسعه أن يجليهم عن المدينة كما أجلى بني قينقاع وبني النَّضِير‏‏.

الرد على هذا الإدعاء:

9 - والواقع أنَّ هذا الادعاء باطل وبعيد عن الموضوعية وعن العدل الذي يطالبون به وذلك للأسباب التالية:

أولاً: إنَّ العقوبة تكون عادلة إذا كانت بقدر الجريمة فهل كانت عقوبة بني قُرَيْظَة ‏‏بقدر جريمتهم؟

والجواب: إنَّ هذه المساواة لا يمكن أن تتضح إلا بعد أن نكشف الغطاء عن جسامة جريمة بني قريظة وهذا يستلزم بيان ما يأتي:

أ- إنَّ موقف المسلمين كان دقيقاً وخطيراً جداً فهم في موقف الدفاع وراء الخندق وعددهم أقل من عدد المشركين المهاجمين.

ب- كان بين صفوف المسلمين مرجفون ومنافقون.

ج- إنَّ أية جماعة تعاون المشركين في حربهم مع المسلمين تكون تلك الجماعة في حالة حرب مع المسلمين ومن باب أولى تكون في حرب مع المسلمين إذا قاتلتهم فعلاً.

هـ - كان المأمول من يهود قُرَيْظَة ‏‏معاونة المسلمين في قتالهم للمشركين كما تنصُّ معاهدتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على إحدى الروايات، أو وقوفهم على الحياد كما جاء في رواية أخرى، لطبيعة عهدهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

و - يهود بني قُرَيْظَة ‏لم تقفْ على الحياد كما تنصُّ المعاهدة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل نقضوها وأعلنوا معاونتهم للمشركين والمهاجمين وأرسلوا فعلاً جماعات منهم لقتال المسلمين في المدينة والإغارة على من فيها من النساء والذراري.

ز - نشط المنافقون فأخذوا يُرجفون ويثبِّطون عزائم المسلمين ويُشيعون فيهم الوَهَن بحجة أنَّ بني قُرَيْظَة ‏‏ دخلت الحرب مع المشركين ضد المسلمين وأنَّ هزيمة المسلمين لا شك فيها.

ح - اضطرَّ المسلمون إلى المحاربة في جبهتين: جبهة اليهود وجبهة الأحزاب مما جعل قوة المسلمين موزَّعة على هاتين الجبهتين.

ثانياً: تكييف جريمة بني قُرَيْظَة:

10 - في ضوء ما بيَّناه يمكن القول: أنَّ أقل ما توصف به جريمة بني قُرَيْظَة ‏‏ هو وصف الخيانة العظمى ضد الدولة وفي الوقت الذي كان يحاصرها فيه عدوٌّ قوي [روح الإسلام للأستاذ أمير علي ص 94]، مع نقض العهد في أحرج الظروف، ومع مقاتلة المسلمين فعلاً، ومعاونة الأحزاب المحاصرين للمدينة.

ثالثاً: إصرارهم على عداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

11 - ومع جسامة جريمتهم هذه فقد أصرُّوا على عداوتهم وعلى إظهار هذه العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يفكروا في إظهار الندم على خيانتهم ولم يطلبوا العفو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقدموا أي عذر يدل على ذلك أنَّ طلائع المسلمين بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه التي وصلت إلى حصون بني قُرَيْظَة‏ قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه إلى هذه الحصون - قابل يهود بني قُرَيْظَة‏‏ هذه الطلائع الإسلاميَّة بالسباب والشتائم والنيل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. [حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأستاذ محمد حسين هيكل ص 330].

رابعاً: قبول من اختاروه حكما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

12 - ومع جسامة جريمتهم وإصرارهم على عداوتهم وإظهار هذه العداوة للمسلمين ورفضهم الاعتذار أو إلتماس العفو فقد رفضوا النزول على حكم رسول صلى الله عليه وآله وسلم، واختاروا سعد بن معاذ ليكون هو الحكم، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فحكم عليهم سعد بما حكم.

عدالة العقوبة

13- وبناء على ما قدَّمناه، تبدو العقوبة عادلة كلَّ العدل لأنَّها بقدر الجريمة بل أقل مما تستحقُّ هذه الجريمة. أما إنها عقوبة قاسية فالعقوبة ليست مكافأة على فعل جميل، وإنما هي عقاب على فعل قبيح وليس من شرط العدالة في العقوبة أن تكون ليِّنة هيِّنة، فالقسوة لا تُنافي العدالة.

هل كان هناك بديل عن عقوبة القتل؟

14 - ويزعم أنصار يهود بني قُرَيْظَة إنَّه كان من الممكن الاكتفاء بإجلائهم عن المدينة كما أجلى صلى الله عليه وآله وسلم بني قينقاع وبني النَّضِير‏‏ وهذا الإجلاء عقوبة تكفي للتخلص من شرهم.

الرد على البديل المقترح:

15 - وهذا البديل المقترح مردود من وجوه كثيرة منها:

أولاً: إنَّه ينظر إلى مصلحة اليهود ودفع ما يستحقون من عقاب عنهم ولا ينظر مصلحة المسلمين المشروعة في أخذ الحيطة لأمنهم في المستقبل من غدر اليهود المحتمل جداً.

ثانياً: إنَّ جلاء يهود بني قينقاع وبني النَّضِير‏‏ كان عقاباً فيه تسامح كبير فهو أقل من جرمهم. ولكن لا يجوز الحاكم العادل بالتسامح دائماً مع المجرمين وإنما يطالب دائماً بالعدل وما دفع بني قُرَيْظَة هو محض العدل كما بيَّنا.

ثالثاً: إنَّ التسامح مع بني قُرَيْظَة بالاكتفاء بإجلائهم عن المدينة يعرِّض المسلمين إلى الخطر مرَّة أخرى؛ لأنَّ عداوة اليهود للمسلمين لا يُزيلها عفو عنهم أو تسامح معهم، فمن المحتمل جداً أن يُعيدوا دور حُيَيُّ ‏ بن أخطب في تحريضه المشركين لمقاتلة المسلمين لا عداوة هؤلاء اليهود بلغت حدا منعتهم من طلب الرأفة من المسلمين. وجعلتهم يعلنونها وهم يساقون إلى الموت، فقد قال حُيَيُّ ‏بن أخطب وهو يساق إلى القتل وقد وقعت عيناه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل)[السيرة النبوية للامام ابن كثير ج 3 ص339].

الخلاصة:

16 - والخلاصة فإن عقوبة بني قُرَيْظَة ‏كانت عادلة لأنها أقل من جريمتهم بقدرها ولا يحق لمجرم مصرٍّ على جريمته وهي الخيانة العظمى ونقض العهد أن ينتظر الرأفة والتسامح، وإنما له أن يطلب العدل في عقابه والعدل موفور في عقاب بني قُرَيْظَة ‏‏ يبصره كل منصف.

يتبع..

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية – الدوحة-1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين