رحمته صلى الله عليه وسلم بأعدائه (3)

ويشمل ذلك جوانب عديدة، منها: الحرص على هدايتهم، وبذل النصح لهم، والعفو عنهم، والإحسان إليهم، مهما جهدوا في عداوته، أو أرادوا قتله.

في كلّ قوانين الدنيا وأنظمتها قانون الحرب يختلف عن قانون السلم.. إنّه يكون مُترعاً بالتجاوزات، والظلم والبغي، والانتهاكات للمبادئ الإنسانيّة، والمثل الأخلاقيّة، التي يعتزّ بهَا الناس وقت السلم، ويتغنّون بها.. وفي كلّ قوانين الدنيا قانونُ السلم لا يحكمُ قانونَ الحرب، بل للحرب قانونها، وللسلم قانونها، ولا يلتقيان.

أمّا في الإسلام فالأمر مختلف جدّاً: إنّ قانون السلم هو الذي يحكم قانون الحرب، ويصبغ وجهته، ويضبط حدوده، بمعنى أنّ السلم هو الأصل والقاعدة العريضة، التي تحكم حياة الناس وعلاقاتهم، وما يكون من طبيعة الحرب وقانونها إنّما هو استثناء، يبقى منضبِطاً بالأصل، لا يخرج عَنْ حدوده وآدابه.

وهكذا كانت صورة الجهاد المشرقة في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي أيّام الخلافة الراشدة، وعصور الإسلام الزاهرة.. إنّه جهاد الحقّ لتكون كلمةُ الله تعالى هي العليا.. ولن يكونَ مقبولاً عند الله ما لم يكن ملتزماً حدود الإسلام وآدابه.. وعندَما يكونُ جهاداً لتكون كلمةُ الله هي العليا فهذا يعني أن يكون قصده الأوّل هو هداية العباد، ونشر نور اللهِ في الأرض، لا إرادة العلوّ والبغي والفساد..

* وقصّة إسلام أبي سُفيان وما كانَ فيها من مواقف مثل رَائع عن عظمة الأخلاق النبويّة، وسموّ الجهادِ في سبيلِ اللهِ بمقاصده وآدابه: لقد حمل أبو سفيان زعامة الكفرِ ولواءه ما يقرب من عقدين من الزمن، لم يتوان عن أنواع الكيد، بما فيها التآمُرُ على قتلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم واغتياله، وفلّ الله مكره وكيده في كلّ مرّة، وانتشر نور الإسلام في الأرض يوماً بعد يوم، وحفّت عناية الله دعوة الحقّ، فهي تسير من نصر لنصر، ومن فتحٍ إلى ما هو أكبر، حتّى تحرّكت ألوية الحقّ لفتح مكّة، بعد أن نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية..

وحرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تعمية خبر خروجه عن قريش، وكان له ما أراد، وعند " مرّ الظهران " [وهي قرية بالقرب من مكّة بوادي الظهران يقال له اليوم: وادي فاطمة]، خرج أبو سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام، يستطلعون الأمر لقريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه أن يوقدوا ناراً، فأوقدوا عشرة آلاف نار، فرأى أبو سفيان وصاحباه نيراناً كنيران الحجيج في عرفة، فقال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيراناً قطّ، ولا عسكراً.! فقال بديل: هذه والله خزاعة، فقال أبو سفيان: خزاعة أقلّ وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وبينما هم يتحاوران عرف العبّاس صوت أبي سفيان، فقال: أبا حنظلة.؟ فأجابه أبو سفيان: أبا الفضل! فقال العبّاس: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجيش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة.؟! فداك أبي وأمّي.! فقال العبّاس: اركب في عجز هذه البغلة، حتّى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك.. فركب، وسار الآخران وراءهما، فكلّما مرّوا بنار قالوا: من هذا.؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله، والعبّاس عليها قالوا: عمّ رسول الله، حتّى مرّوا بنار عمر بن الخطّاب، وعرف أبا سفيان فوجأه في عنقه، وهمَّ بقتله، حتّى أجاره العبّاس، وأركض العبّاس البغلة، وعمر يشتدّ في إثرها، حتّى دخل العبّاس، ومعه أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ دخل عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد، فدعني فلأضرب عنقه، فقال العبّاس: أنا أجرته..

ثمّ جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيه، فلمّا أكثر عمر في شأن أبي سفيان قال العبّاس: مهلاً يا عمر! فوالله لو كان من رجال بني عَديّ بن كعْب ما قلت هذا، ولكنّكَ عرفت أنّه من بني عبد مناف! فقال عمر: مهلاً يا عبّاس! فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطّاب لو أسلم، وما بي إلاّ أنّي قد عرفت أنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله من إسلام الخطّاب.! وحسم رسول الله الخلاف بينهما فقال: (اذهب به يا عبّاس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)، أمّا حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء فقد أسلما.

وبات أبو سفيان ليلته، ورأى فيها ما ملأ نفسه إعجاباً! رأى المسلمين لمّا سمعوا الأذان انتشروا فتوضّأوا، ثمّ اقتدوا بالرسول يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، فقال: يا عبّاس! ما يأمرهم بشيء إلاّ فعلوه.؟! قال: نعم، والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه! ورأى أعجب من ذلك، ذلك أنّه لمّا توضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوا يبتدرون وضوءه، فقال: يا عبّاس ما رأيت كالليلة! ولا ملك كسرى وقيصر.!

وفي الصباح غدا به العبّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله.؟) فقال أبو سفيان: بأبي أنتَ وأمّي! ما أحلمك وأوصلك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئاً بعد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ويحك! ألم يأنِ لك أن تعلم أنّي رسول الله.؟ فقال: أمّا هذه فإنّ في النفس منها حتّى الآن شَيئاً.

فقال له العبّاس: ويحك! أسلم، واشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحقّ، وأسلم، فقال العبّاس: إنّ أبا سفيان رجلٌ يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً. فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظيم حكمته، سداد رأيه أن يجعل له خصوصيّة، تتّصل بأمن الناس، وحقن الدماء، ليكون متحمّساً لفلّ عزيمة الناس عن القتال، فقال صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمنٌ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمنٌ، ومن دخل بيته فهو آمنٌ).

وكان من حكمة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوقع في نفس أبي سفيان الرهبة التامّة من قوّة المسلمين، لينقل الصورة التي يراها لمن وراءه من المشركين، فتثبّط عزائمهم عنْ مواجهتهم، فيؤثرون السلامة على القتال، فقال للعبّاس رضي الله عنه: (يا عبّاس احبسه عند مضيق الوادي، حتّى تمرّ به جنود الله فيراها).

ومرّت به كتائب الحقّ واحدة تلو الأخرى، وهو يسأل عنها فيعرّفه بها العبّاس، وكلّما سأل عن كتيبة فأجيب، فيقول: ما لي ولكتيبة كذا.! ثمّ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، يحيط به المهاجرون، لا يرى منهم إلاّ الحدق من الحديد، ويحمل الراية الزبير بن العوّام، فقال أبو سفيان: سبحان الله يا عبّاس.! من هؤلاء.؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين، فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! فقال له العبّاس: " ويحك يا أبا سفيان! إنّها النبوّة! "، قال: نعم، إذن.

إنّ قصّة إسلام أبي سُفيان مليئة بالعبر والدروس، وبخاصّة ما فيها من موقف النبيّ صلى الله عليه وسلم منه.. لقد كان موقف البشريّة العدل هو ما وقفه عمر بن الخطّاب، إذ استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتله، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمةً للعالمين أبى عليه ذلك، وعندما التقى أبا سفيان هل أظهر له روح البشريّة، التي تشمت بخصمها في مثل هذه المواقف.؟

هل جمع له كبار أصحابه، ليريهم كيف تتمرّغ بالرغام كبرياء قريش في شخص أكبر زعمائها أبي سفيان.؟

هل ذكّره بعداوته لله ورسوله التي خبّ فيها وأوضع خلال عقدين من الزمن.؟!

انظر إلى السموّ النبويّ الذي لا مطمح لبشرٍ بمثله، لقد طوى صفحاً عن كلّ ذلك، وتناسى الماضي المرير، الذي لا يمكن لأحدٍ أن ينساه، وقال له:

(ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله.؟) فدهش أبو سفيان، وكان ولا شكّ ينتظر كلاماً غير ذلك، فما كان منه إلاّ أن قال: بأبي أنتَ وأمّي! ما أحلمك وأوصلك وأكرمك!

وكرّر هذه الجملة مرّة أخرى عندما دعاه إلى شهادة أنّ محمّداً رسول الله، فكان هذا الموقف النبويّ الكريم، بسموّه عن كلّ اعتبارات الأرض والطين، كفيلاً باستلال كبرياء الجاهليّة وعنجهيّتها من نفس أبي سفيان، ليفيء إلى رحاب الحقّ، ويكون منذ اليوم جنديّاً من جنود الدعوة الأوفياء..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين