ويشمل ذلك جوانب عديدة، منها: الحرص على هدايتهم، وبذل النصح لهم، والعفو عنهم، والإحسان إليهم، مهما جهدوا في عداوته، أو أرادوا قتله.
لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم معلّق القلب بالله تعالى، يعيش لغاية واحدة، لا يعرف سواها: إنّها نيل مرضاة الله، بنصرة دينه، وتبليغ دعوته، وهداية الناس إلى دين الحقّ والهدى، وإذ تكفل الله له بالحفظ والرعاية، بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[المائدة:67].
وقد شرح الله صدره، وأعلى قدره، ورفع في العالمين ذكره.. فلم تعد تعنيه مؤامرات الناس وكيدهم في شيء..
وإنّ أعلى درجات العداوة والكيد أن يخطّط الإنسان لقتل مخالفه، ويجتهد في ذلك بكلّ ما أوتي من قوّة، وقد نال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم من المشركين من ذلك كلّ أنواع العداوة والكيد، أعلاها وأدناها، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلاّ الصبر والحلم، والعفو والصفح، وأخبار السيرة النبويّة طافحة بذلك، وتلك الأخلاق والشمائل كانت سبباً لاستلال الضغائن من القلوب، وتحويل أعدى الأعداء في لحظة إلى أن يكون أقرب المحبّين الأولياء، مصداق قول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} [فُصِّلَت:34].
وقوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف:199].
ومن عساه يكون أحظى بهذه الأخلاق الكريمة غير النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.؟
وقد عقد القاضي عياض رحمه الله في كتابه: " الشفا " فصلاً بعنوان: " عصمة الله تعالى له من الناس، وكفايتُه مَن آذاه "..
وقد تكرّرت محاولات المشركين قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم أو اغتياله، وفي كلّ مرّة كانت تتجلّى عناية الله ورعايته بحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما تتجلّى قوّة شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورباطة جأشه، وكمال أَخلاقه، إذ لا ينتصرُ لنفسه، ويعفو عمّن حاولَ قتله، فمن ذلك:
مَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رضيَ اللهُ عَنها أنّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة:67] فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ عزّ وجَلّ) رواه الترمذيّ في كتاب تفسير القرآن عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، برقم /2972/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه، ثمّ قال: من يمنعك منّي يا محمّد؟ فقال: الله عزّ وجلّ! فرُعدت يد الأعرابيّ، وسقط السيف من يده.. فعفا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحسن إليه، ودعاه إلى الإسلام، فرجع إلى قومه، وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس.
ووقع مثل هذه القصّة في غزوة غطفان، بذي أمَر[اسم موضع غزاه النبيّ صلى الله عليه وسلم]، مع رجل اسمه دُعثُور بنُ الحارث، وكان صُعلوكاً من شياطين العرب، وجاء فيها أنّه اخترط سيف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو نائم، وقال له: مَن ينجيك منّي يا محمّد.؟! فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: الله.. فارتعد الرجل وسقط السيف من يده، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: مَن ينجيك منّي يا دُعثُور!؟ فقال: لا أحد، فكن خير آخذ.. فعفا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه إلى الإسلام فأسلم.. وعندما رجع إلى قومه قالوا له: أين ما كنت تقول؟ وقد أمكنك.؟ فقال: إنّي نظرت إلى رجلٍ أبيض طويل، دفع في صدري، فوقعت لظهري، وسقط السيف، فعرفت أنّه مَلَك وأسلمت ".
وفي رواية الخطّابيّ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عندما رأى السيف في يده: (اللهمّ اكفنيه بما شئت)، فانكبّ على وجهه زُلّخَةٍ زُلِّخَها بين كتفيه، وندر السيف من يده. [زُلّخَة: وجع في الظهر، لا يتحرّك الإنسان من شدّته، وقد أوجدها الله فيه حين سلّ السيف (النهاية)]
وفيه نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون}[المائدة:11].
وفي رواية البخاريّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَفَلَ مَعَهُ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ: اللهُ ثَلاثًا، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ) رواه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير برقم/2694/ ومسلم في كتاب الفضائل برقم/4231/.
وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ تَسُوقُه محاولةُ قتلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلامِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ: " جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الجُمَحِيّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الحِجْرِ بِيَسِيرِ، وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُوَ بِمَكّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَحَدُ بَنِي زُرَيْقٍ. فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاَللهِ إنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ، قَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: صَدَقْت وَاَللهِ، أَمَا وَاَللهِ لَوْلا دَيْنٌ عَلَيّ، لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْت إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ، فَإِنّ لِي قِبَلَهُمْ عِلّةً، ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ، قَالَ: فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ، وَقَالَ: عَلَيّ دَيْنُك، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا، لا يَسَعُنِي شَيْءٌ، وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك، قَالَ: أَفْعَلُ.
قَالَ: ثُمّ أَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ فَشَحَذَ لَهُ، وَسُمّ، ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى قَدِمَ المَدِينَةَ؛ فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ المُسْلِمِينَ، يَتَحَدّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمْ اللهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوّهِمْ، إذْ نَظَرَ عُمَرُ إلَى عُمَيْرِ ابْنِ وَهْبٍ، حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ مُتَوَشّحًا السّيْفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوّ اللهِ، عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، وَاَللهِ مَا جَاءَ إلاّ لِشَرّ، وَهُوَ الّذِي حَرّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرْنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ هَذَا عَدُوّ اللهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ، قَالَ: فَأَدْخِلْهُ عَلَيّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبّبَهُ بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالِ مِمّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنْ الأَنْصَارِ: اُدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الخَبِيثِ، فَإِنّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، ثُمّ دُخِلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمّا رَاهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ: أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اُدْنُ يَا عُمَيْرُ، فَدَنَا، ثُمّ قَالَ: انْعَمُوا صَبَاحًا، وَكَانَتْ تَحِيّةَ أَهْلِ الجَاهِلِيّةِ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ بِتَحِيّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ، بِالسّلامِ تَحِيّةِ أَهْلِ الجَنّةِ.
فَقَالَ: أَمَا وَاَللهِ يَا مُحَمّدُ إنْ كُنْت بِهَا لَحَدِيثُ عَهْدٍ، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِك يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ، جِئْت لِهَذَا الأسِيرِ الّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ، قَالَ: فَمَا بَالُ السّيْفِ فِي عُنُقِك؟ قَالَ: قَبّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ عَنّا شَيْئًا؟ قَالَ: اُصْدُقْنِي، مَا الّذِي جِئْت لَهُ؟ قَالَ: مَا جِئْت إلاّ لِذَلِكَ..
قَالَ: بَلْ قَعَدْت أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمّ قُلْت: لَوْلا دَيْنٌ عَلَيّ، وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْت حَتّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا، فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاَللهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ، وَقَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذّبُك بِمَا كُنْت تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْك مِنْ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلاّ أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاَللهِ إنّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاك بِهِ إلاّ اللهُ، فَالحَمْدُ للهِ الّذِي هَدَانِي للإِسْلامِ، وَسَاقَنِي هَذَا المَسَاقَ، ثُمّ شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرًا، فَفَعَلُوا، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنّي كُنْت جَاهِدًا عَلَى إطْفَاءِ نُورِ اللهِ، شَدِيدٌ للأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَأَنَا أُحِبّ أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأَقْدَمَ مَكّةَ، فَأَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وَإِلَى الإِسْلامِ، لَعَلّ اللهُ يُهْدِيهِمْ، وَإِلاّ آذَيْتهمْ فِي دِينِهِمْ، كَمَا كُنْت أُوذِيَ أَصْحَابَك فِي دِينِهِمْ؟ قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَحِقَ بِمَكّةَ.
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةِ تَأْتِيكُمْ الآنَ فِي أَيّامٍ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرّكْبَانَ، حَتّى قَدِمَ رَاكِبٌ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ إسْلامِهِ، فَحَلَفَ أَنْ لا يُكَلّمَهُ أَبَدًا، وَلا يَنْفَعَهُ بِنَفْعِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكّةَ، أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إلَى الإِسْلامِ، وَيُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ. السيرة النبويّة لابن هشام 3/114/.
وَثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ يُريدُ قَتلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيئول أمرُه إلَى الإِسْلامِ، وجاء في بعض روايات السيرة أنّه كان يخطّط لقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد يكون سبب السريّة الردّ على هذه المؤامرة:
عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ..
ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ المَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى، فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ..
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ، لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلا وَاللهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " رواه البخاريّ في كتاب المغازي برقم/4024/ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم/3310/.
وجاء في رواية زيادة: " وَكَانَتْ الْيَمَامَةُ رِيفَ مَكّةَ، فَانْصَرَفَ إلَى بِلادِهِ، وَمَنَعَ الحَمْلَ إلَى مَكّةَ، حَتّى جَهِدَتْ قُرَيْشُ، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إلَى ثُمَامَةَ، يُخَلّي إلَيْهِمْ حَمْلَ الطّعَامِ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. انظر زاد المعاد 3/247/
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ قَالَ: أَوْ قَالَ عَلَيَّ، قَالَ: قَالُوا: أَلا نَقْتُلُهَا قَالَ: لا، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم في كتاب السلام برقم /4060/، واللهوات جمع لهاة، وهي اللحمات في سقف أقصى الفم، كما في النهاية 4/284.
وفي رواية أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً، سَمَّتْهَا، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي: أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ؟ قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكاً أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ، ثُمَّ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (مَازِلْتُ أَجِدُ مِنْ الأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي) رواه أبو داود في كتاب الديات برقم /3912/.
فقد عفا عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أرادت تجاهه، وعندما مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه من تلك الأكلة قتلها قصاصاً به.
* وشيبةُ بنُ عثمانَ بن أبي طلحة، أخو بني عبدِ الدار يحاول قتل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين فيرى آيات الله في حفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويعلم ذلك منه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسوقه إلى الهداية أو يسوق الهداية إليه:
يقول ابن عباس: قال شيبةُ بنُ عثمانَ رضي الله عنه: لما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أعري يوم حنين ذكرت أنّ أبي وعمّي قتلهما عليّ وحمزة رضي الله عنهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري من مُحَمّد. قال: فجئت عن يمينه فإذا العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قائم معه عليه درع بيضاء، كأنها الفضّة، يتكشّف عنها العجاج، فقلت: عمّه، فجئت من خلفه، فدنوت منه، ودنوت منه حتّى لم يبق إلاّ أن أسور سَورة بالسيف، إذ رفع لي شُواظ من نار، كأنّها البرق، فخفت أن تمحَشني، فنكصتُ على عقبيّ القَهقَرى. قال: فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « ما لك يا شيب؟ ادن، فدنوت، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدري، قال: فاستخرج الله عزّ وجلّ الشيطان من قلبي، فرفعت إليه بصري، وهو والله أحبّ إليّ من سمعي، ومن بصري، ومن قلبي، ومن أبي وأمي، فقال: « يا شيب، قاتل الكفّار » ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: « يا عبّاس اصرخ »، فلم أر صرخة مثل صرخته، فقال: يا للمهاجرين! من الذين بايعوا تحت الشجرة، ويا للأنصار الذين آووا ونصروا، قال: فأجابوا كلّهم لبيك وسعديك.
قال شيبة: فما شبّهت عطف الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ كعطفة البقر على أولادها، فبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّه في حرجة سلم. قال شيبة: فوالله لأنا لرماح الأنصار أخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفّار..
ثمّ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: « يا عباس ناولني من الحصباء ». فأفقه الله تعالى البغلة كلامه صلى الله عليه وسلم، فاختفضت به حتّى كاد بطنها يمسّ الأرض، فتناول من الحصباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نفحها في وجوههم وقال: « شاهت الوجوه »، فهزم الله تعالى القوم عند ذلك». أخبار مكة للفاكهي 7/459/ والسورة: الوثبة والقفزة، والقهقرى: المَشيُ إلى خَلْف من غير أن يُعيد وجْهَه إلى جِهة مَشْيه.
وزاد في رواية: " قال: فتقدمت بين يديه أحبّ والله أن أقيه بنفسي كلّ شيء، فلمّا انهزمت هوازن رجع إلى منزله ودخلت عليه فقال: (الحمدُ للهِ الذي أرادَ بكَ خيراً مما أردتَ)، ثمّ حدّثني بما هممت به صلى الله عليه وسلم " أخرجه البيهقي في الدلائل 6/188، والمغازي للواقدي 3/910، انظر سبل الهدى والرشاد 5/321/.
للمقالة تتمة في الجزء التالي..
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول