رحمته صلى الله عليه وسلم بأعدائه (1)

ويشمل ذلك جوانب عديدة، منها: الحرص على هدايتهم، وبذل النصح لهم، والعفو عنهم، والإحسان إليهم، مهما جهدوا في عداوته، أو أرادوا قتله.

إنّ سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أعدائه في جميع مراحلها ومواقفها من أعظم ما يدعو العقلاء المنصفين إلى الإيمان به واتّباعه، فلا يمكن لبشر مهما كان على حظّ عظيم من حسن الخلق، وسماحة النفس أن يقابل عداوة أعدائه، وكيدهم له دائماً بالحلم والعفو، والصفح والنصح، والرحمة بمفهومها الحقّ الشامل.. ولكنّ السيرة النبويّة العطرة كانت في جميع أطوارها على هذه الصورة المشرقة، بلا استثناء ولا تغيير..

وقد يظنّ بعض الناس أنّ الجهاد في سبيل الله مستثنى من هذا الحكم العامّ، والحقّ أنّه ليس مستثنى منه، فجهاد أهل الباطل من أعداء الإسلام هو عين الرحمة، بهم وبالإنسانيّة كلّها، من وجوه عديدة؛ فهو منْ جهةٍ كمثل الغيث إشاعةً للخير في أرجاء الأرض، ونفعاً للعباد، وإنّ مثل الخير والهدى والحقّ كمثل الغيث النازل من السماء، أليس يعدّ من يقف في وجهه، ويحجزه عن الناس ظالماً آثماً.؟ فكذلك من يقف في وجه الحقّ والهدى..

وهو منْ جهةٍ أخرى حجزٌ لشرّ أهلِ الشرّ، وإثمهم وباطلهم أنْ يعمّ الناس، ويكون فتنة لهم عن الحقّ، وصدّاً لهم عن سبيله..

وهو منْ جهةٍ ثالثة ردع لهم عن التمادي في الباطل، الذي لا يقف عند حدّ، ولا يعلم أحد ما يبلغ بهم، ومنهم من الشرّ والفساد، فإذا رأوا قوّة الحقّ وسلطانه لعلّهم يراجِعون أنفسهم، ويعيدون النظر في مَواقفهم، فيئوبون إلى الحقّ، فإنّهم لو تركوا في طغيانهم وتماديهم، وتمكّنِهم منْ نشر باطلهم، لكان ذلك فتنةً لهم، تغريهم بالإصرار على الباطل، والتمادي في البغي والعدوان..

وقد أشار ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى نوع من الرحمة بالعالمين في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]، إذ يقول: "من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي ممّا أصاب الأمم من الخسف والقذف".

ويعتمد الإمام الطبريّ رحمه الله هذا القول فيقول: " أولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي روي عن ابن عبّاس: وهو أنّ الله أرسل نبيّه محمّداً رحمة لجميع العالم: مؤمنهم وكافرهم؛ فأمّا مؤمنهم فإنّ الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء به من عند الله الجنّة، وأمّا كافرهم فإنّه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله " انظر جامع البيان للطبريّ 18/552.

ويقول الشيخ محمّد جمال الدين القاسميّ في تفسيره: " محاسن التأويل 11/298 " في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107]: " كلّ من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار علم حاجة البشر كافّة إلى رسالة خاتم النبيّين، وأكبرَ منّة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرّق من الملل، ما بينَ مشبّهٍ لله بخلقه، وملحدٍ في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عامّ، وانتهاب للأموال والأرواح، واغتصاب للحقوق، وشنّ للغارات، ووأد للبنات، وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحَام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزّلة، واعتقاد لأضاليْل المتكهّنة، وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور، وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامّات طبّقت أكناف الأرض، استمرّت الأمم على هذه الحال الأجيال الطوال، حتّى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح، فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسرٍ يسراً، فإنّ النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تَولّت، وذلك أنّ الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان، ويخرجهم من ظلمة الكفر، وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من الإثم والعار، ويرفع عنهم الآصار، ويطهّرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحقّ، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}[الأنبياء:107] ".

فهذا البيان البليغ قدّم مظاهرَ وأنواعاً لرحمة العالمين، ممَّا كانوا عليه من جاهليّة وشرّ، وهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ممّا كان، وما يكونُ إلى يوم القيامة..

وممّا يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة عامّة للعالمين إنسهم وجنّهم، مؤمنهم وكافرهم، وأنّه صلى الله عليه وسلم جُبِلَ على رحمة العالم كلّه ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى المُشْرِكِينَ، قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب برقم /4704/.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ دَوْساً قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم /5918/ ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم/4586/، وقصّة قُدومِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدوسيّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قصّة طويلة مليئة بالعبر، وقد ذكرها بطولها ابن هشام في سيرته 1/382/.

وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً في كلّ مناسبة على هداية الناس إلى الحقّ: عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ قَالَ: جَلَبْتُ جَلُوبَةً إِلَى المَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتِي قُلْتُ: لأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَلأَسْمَعَنَّ مِنْهُ، قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ، نَاشِراً التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ، عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي المَوْتِ كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي؟)، فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا: أَيْ لا، فَقَالَ ابْنُهُ: إِنِّي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: (أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ)، ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ، وَحَنَّطَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ " رواه أحمد في المسند برقم/22394/ رواه ابن ماجة في كتاب الأدب برقم/3668/.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَاداً قَدِمَ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ [قال ابن الأثير في النهاية: الأرواح هاهنا كناية عن الجنّ، سمّوا أرواحاً لكونهم لا يرون فهم بمنزلة الأرواح]، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّداً مَجْنُونٌ فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ، لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ، قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ..

[قال ابن الأثير في النهاية 5/81/: " قال أبو موسى: هكذا وقع في صحيح مسلم، وفي سائر الروايات: " قاموس البحر " وهو وسطه ولجّته، ولعلّه لم يجوّد كِتبته فصحّفه بعضُهم، وليست هذه اللفظة أصلاً في مسند إسحاق بن راهويه، الذي روى عنه مسلم هذا الحديث، غير أنّه قرنه بأبي موسى وروايته فلعلّه فيها! "، وقال الإمام النوويّ في شرحه على صحيح مسلم 6/157/: قال القاضي عياض: أكثر نسخ صحيح مسلم وقع فيها: " قاعوس " بالقاف والعين، قال: ووقع عند أبي محمّد بن سعيد: " تاعوس " بالتاء المثنّاة فوق، قال: ورواه بعضهم: " ناعوس " بالنون والعين. قال: وذكره أبو موسى الدمشقيّ في أطراف الصحيحين، والحميديّ في الجمع بين رجال الصحيحين " قاموس " بالقاف والميم].

قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَى قَوْمِكَ، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي، قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاءِ شَيْئاً؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ " رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم /1436/.

فانظر إلى إسَاءة المشركين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما ينشرون عنه من تهمٍ باطلة، وافتراءات تافهة، وكيف قابل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بكلّ حلم وسموّ، وحكمة واتّزان، وجعل الحكم لعقل الرجل ولبّه، فسارع إلى الإيمان وخاب كيد الكائدين.. وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز}[المجادلة:21].

وكان صلى الله عليه وسلم يعفو عمّن أساء إليه، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ.؟)، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون}[آل عمران:128] " رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3346/ والترمذيّ في كتاب تفسير القرآن.

ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكافرين، حثّه على فكّ الأسير، وغالباً ما يكون كافراً: ففي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فُكُّوا الْعَانِيَ، يَعْنِي الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ) رواه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير برقم /2819/.

وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بقوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8].

* أشدُّ ما لقيه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من الأذى، وصورة من أروع صور صبرِه وحلمِه، ورحمته وعفوه:

عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ:

(لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: (إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (بَلْ، أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ، لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً) رواه البخاريّ في كتاب بدء الخلق برقم/2992/ ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم /3352/.

وعن موسى بن عقبة: ".. وقعد له أهل الطائف صفّين على طريقه، فلمّا مرّ جعلوا لا يرفع رجليه، ولا يضعهما إلاّ رضخوهما بالحجارة، حتّى أدموه، فخلص منهم، وهما يسيلان الدماء.. البداية والنهاية 3/136 نقلاً عن حياة الصحابة 1/277.

ثمّ أوى إلى ظلّ بستان، ودعا الدعاء المشهور: (اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني.؟! إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملّكته أمري.! إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بك) " انظر حياة الصحابة للشيخ محمّد يوسف الكاندهلويّ 1/277.

يتبع...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين