رحلة الطهر والصفاء

"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"،

هذا النداء الرباني البهيج، هو هتاف التلبية المدوية، ترفعها حناجر هذه الأعداد الهائلة من البشر، في رحلة الحج النورانية، منذ كان حجٌّ، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه التلبية الربانية ترددها في أيامنا هذه الأفواه الطاهرات المباركات، لوفود الحجيج القادمة إلى بيت الله الحرام من كل مكان، من أدغال أفريقيا وصحاريها، وأعماق آسيا وفيافيها، وجبال أوربا وثلوجها، من الصحاري والجبال، والسهول والشواطئ، والأمكنة القريبة والنائية، ومن جميع شعوب الدنيا على اختلاف بلدانها وألوانها وأجناسها ولغاتها، من كل مكان، خرج المسلمون في رحلة مباركة كريمة ينشدون بيت الله الحرام، مؤملين الفوز والمغفرة والقبول.

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}  (الحج:27). رحلة مرت عليها قرونٌ وقرون، وكرّت عليها الأحقاب والأجيال والدهور، تبدّلت دول وحكومات، وخلافات وسلاطين، وانقرضت حضارات وقامت حضارات، وماتت إمبراطوريات وولدت أخرى، والرحلة المباركة هيَ هي، حيةٌ في ضمائر المسلمين، جيّاشةٌ في أخلادهم، أثيرةٌ عليهم غالية، هم بها حفيّون وعليها حريصون، لا تزال تدفعهم للمضيّ فيها على الرغم من الحر والبرد، والجوع والعطش، والبعد والغربة، والمشقة والمتاعب، والنفقة والبذل، وآلام السفر ومتاعب الطريق، بل مخاطره أحياناً التي قد تودي بالمرء إلى الهلاك كما كان الناس يعهدون إلى ما قبل نصف قرن من الزمان أو أقل، لكنَّ ذلك كله لم يصرف المسلمين عن أحب وأهم رحلة لديهم، وكيف ينصرفون عنها، والشوق مُلِح، والسعادة كبيرة، والقلب مشوق، والمتعة عالية سماوية، والأمل بمغفرة الله عز وجل وعفوه ورضوانه وجنته كبيرٌ كبير، وإنها لأهدافٌ ومعانٍ يهون من أجلها كل شيء!؟.

إن الرحلة إلى بيت الله عز وجل هي رحلة التاريخ كله، وهي رحلة الدنيا كلها، رحلة بطول الزمان، وعرض المكان، وتنوع البلدان، واختلاف البشر. رحلة تظل تهفو إليها قلوب المسلمين فيسارعون للمشاركة فيها، ما كان كونٌ وما كانت حياة. رحلة ستظل قائمة ما قامت الأرض لجميع أبناء الأرض؛ ممن ارتضى.. اللهَ تعالى ربّاً، والقرآن الكريم دستوراً وإماماً، وهادياً وحكماً، ومنهجَ حياة، ومحمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، والإسلامَ ديناً، واقتنع بذلك، ووعى لوازم قناعته هذه، واستقام عليها وتبنّاها.

إنها رحلة الاغتسال والطهر، والحب والصفاء، والمودة والوفاء، والإيمان والهداية، والتوبة النصوح، والأوبة إلى درب الاستقامة، والنأي عن مزالق الشيطان. رحلة يغتسل الإنسان فيها من ذنوبه وآثامه وخطاياه، ويفتح صفحة جديدة في حياته أن يكون بالإسلام وللإسلام، على ذلك يحيا، وعليه يموت، ومن أجل إعلاء رايته يعمل ويجاهد.

رحلة يخرج فيها الإنسان إذ يُحرم متجرداً من ثيابه إلا ما يستره، ويندمج في الناس جميعاً في موكب رباني عظيم هو من شعائر هذا الدين وخصوصياته، حيث لا شبيه له قط في أمة من الأمم، أو ديانة من الديانات.

وفي هذا الموكب تُلْغى جميع الطبقات والدرجات، والشارات والانقسامات، والألوان والبلدات، والأعراق واللغات، وتظهر الأمة المسلمة في الصورة الحقيقية التي يريد دينُها العظيم منها أن تكون عليها، ويشعر المسلمون في هذا الموكب الرائع العجيب أن الملائكة تحفّهم وتنظر إليهم، وأن رحمة الله تعالى منهم قريبةٌ قريبة، وأن عينه تحرسهم وترعاهم وتكلؤهم، وتجبر عجزهم، وتستر نقصهم، وتعين محتاجهم، وتسدد خطاهم، وتتجاوز عن سيئاتهم، وتعفو عن آثامهم وأخطائهم، وتُنْزِل عليهم شآبيب الرحمة والمغفرة والاستجابة والقبول، فتؤمّنهم مما يخافون، وتمنحهم ما يرجون.

وتنتقل أرواح الناس في هذا الموكب، لتتذكر مع شعيرة الحج الخالدة العظيمة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وتتذكر رسول الهدى محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أبا بكر وعمر، وعثمان وعلياً، وخالداً والجراح، وآخرين كثيرين، فتمتلئ عزماً وتصميماً أن تواصل المسيرة على دربهم المبارك وهديهم الكريم.

وتتذكر فيما تتذكر، هاجر زوجة نبي الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهي تعدو بين الصفا والمروة في لهفة حرّى حزينة، باحثة عن قطرة ماء، تبل بها صدى رضيعها الذي أشفى على الهلاك، ويكون في تذكار الناس لها، ما يوقد فيهم لهفةً جديدةً حزينة، يخافون معها ذنوبهم وخطاياهم أن تقودهم إلى الهلاك، وأملاً صادقاً عارماً أن يتداركهم الله برحمته ومغفرته كما تداركت أم إسماعيل من قبل.

ويمضي الركب هنا وهناك، ويمضي كذلك ليزور المدينة المنورة والمسجد النبوي الشريف، ويلتقي في رحابه بسيد الخلق، سيد البشر، أستاذ العالمين، ومعلم الناس، قائدنا وإمامنا وهادينا، حبيبنا وسيدنا ونبينا، محمد صلى الله عليه وسلم، فتكمل الفرحة، وتطيب السرائر، وتشرق الوجوه، وتصفو القلوب، وتسمو الأرواح، ويتقد العزم في المسلم أن يعود من رحلته وقد عاهد ربه عز وجل أن يسير على نهج هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وطريقه في قابل الأيام، وأن يجاهد لإعلاء الإسلام الذي بُعث به رحمةً للعالمين حتى يرى دولته قائمة، ومجتمعه ماثلاً، ورايته ظافرة.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين