رجال ومواقف: كرم العبد الفقير فوق كرم الغني الأمير

(1)

المنصور – رجل

الرجل: بارك الله فيك يا أمير المؤمنين.. لقد هدأت في عهدك الفتن، وسكنت الأمور، وطاب عيش الناس.

المنصور: لله الحمد على ما أولى وأنعم.

الرجل: إن عهدك يا أمير المؤمنين عهد خير وبركة، فقد قصمتَ ظهور الأعداء، وأذعَت العدل والأمن في الناس حتى اطمأنوا وفرحوا، وباتوا وهم يقولون: اللهم احفظ علينا أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور.

المنصور: اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد، أنت تعلم كم سهرتُ وقاسيتُ حتى هدأتِ البلاد، وطاب عيش العباد..

الرجل: إنك لمأجورٌ مشكورٌ إن شاء الله على ذلك.

المنصور: اللهم مكِّن لي في الأرض أحكم بشرعك، وأجاهد في سبيلك.

الرجل: إن نعمة الله عليك يا أمير المؤمنين ضافية سابغة، فإنه قد مكَّن لك، وبسطَ سلطانك.

المنصور: صدقت أيها الرجل!.. لكنني لا يزال الأرق يعاودني ليلةً بعد ليلة.

الرجل: ولِمَ يا أمير المؤمنين!؟ حفظك الله ورعاك، هل من خارج!؟ هل من صاحب فتنة!؟ هل من عدو!؟

المنصور: لا.. ولله الحمد والشكر، لكن نفراً ممن كانوا لنا معادين معاندين وحاربونا أشد الحرب لا يزالون مختفين عن الأنظار.

الرجل: "في لهجة متسائلة" فذاك الذي يقلقك يا أمير المؤمنين!؟

المنصور: إي والله.. ذاك الذي يقلقني.

الرجل: ما كان الأمر يستحق هذا كله.. قومٌ لا حول لهم ولا طَول متوارون خائفون.

المنصور: "في لهجة حازمة" لا.. غيرك يقولها.. إنَّ من ألقت إليه الأمة مقاليدها لا ينبغي له أن يستهين بخصم، فذلك ليس من الحزم في شيء.

الرجل: أما والله إن أمير المؤمنين لحازمٌ حقاً. "صمت قصير" ترى هل لي أن أعرف من هو الذي يشغل بالك؟

المنصور: إنه معن بن زائدة الشيباني. "صمت قصير" ذلك الذي كان سيفاً لبني أمية، وقاتَلنا أشد القتال.

الرجل: فإن الناس يعرفون يا أمير المؤمنين أنك طالب له، وما أرى إلا أن الظفر به قريب إن شاء الله.

المنصور: إن شاء الله. "في صوتٍ آمرٍ حازم" أعلِنْ عن جائزة كبيرة لمن يأتي بمعن.. وليكن رجالك طالبين له حتى يظفروا به.

الرجل: أمرُ مولاي.. في الحال أنفذ طلبك.. والله هو المسؤول أن يوفقنا إلى العثور عليه.

(2)

معن بن زائدة – مولى له

معن: كيف ترى الأمر أيها المولى الأمين؟

المولى: إن المسالك تنسدُّ في وجوهنا يا معن واحداً إثر الآخر.

معن: ولِمَ يا تُرى؟

المولى: إن الأمر قد توطد لأبي جعفر المنصور.

معن: صدقت.

المولى: وأنت تعلم ذكاءه ودهاءه، وحزمه ويقظته.

معن: إنه من ذلك على حظ كبير.

المولى: وقد أعلن عن جائزة كبيرة لمن يأتي بك أو يدل عليك.

معن: الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. "صمت" بِمَ تشير عليَّ!؟ فإني أراك ناصحاً أميناً.

المولى: عسى أن أكون كذلك.

معن: بل أنت حقاً كذلك، لقد لازمتني ووفيت لي في أيام رخائي وأيام شدتي.

المولى: أرى أن تعجِّل في الخروج إلى البادية، فكثير من الناس يبحثون عنك طمعاً في الجائزة.

معن: هو ما عزمنا عليه من قبل.. ولعلي في هيئتي الجديدة أقرب إلى النجاة.

المولى: ولِمَ لا!؟.. وقد لبست جُبَّةَ صوفٍ غليظة، وخففتَ لحيتكَ وعارضَيْك، ومكثتَ في الشمس أياماً حتى تغير لونك؟

معن: إنما هي أسبابٌ نأخذ بها، وإنما النجاة من الله.

المولى: امض الآن إلى البادية حتى يَخِفَّ عنك الطلب.. واعلم أني باقٍ على الوفاء لك حيث تعلم.

معن: بارك الله فيك، وجزاك خيراً.. والله لئن رُزِقتُ الأمن والعافية من جديد ليكون لك شأن عندي أي شأن.

المولى: حفظك الله في حِلِّكَ وترحالك، ووفقك ورعاك.. اخرج إلى البادية راشداً محفوظاً.

معن: إني خارجٌ الآن.. السلام عليكم.

المولى: "في صوتٍ هادئٍ حزين" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اللهم احفظ معن بن زائدة، وارزقه الأمن والسلامة.

(3)

معن – رجل من شرطة المنصور أسود اللون

معن: "في صوت هادئ" الحمد لله رب العالمين.. أحسب أني الآن في نجوة وأمن في هذه البادية إن لم يكن الرجل الأسود الذي ركب ناقته ورائي من جند المنصور أو عيونه.

"وقع خطى هادئة تبدأ خافتة، ثم تتضح شيئاً فشيئاً"

معن: "في صوت هادئ" من هذا الذي يقترب مني يا ترى؟ "يسمع صوت الخطى".. أهو رجل لا شأن له بي أم واحد من عيون المنصور؟ "يسمع صوت الخطى" إن يكن نظري صادقاً فإنه الرجل الأسود نفسه. "وقع الخطى واضح"

الأسود: "في لهجة هادئة حازمة" معن بن زائدة الشيباني.. أليس كذلك؟

معن: "في صوت متردد" أوَما تلقي السلام أولاً يا رجل؟

الأسود: بلى.. بلى.. أصبت يا معن، وكيف لا ألقي السلام على معن بن زائدة الشيباني؟

معن: "في صوت هادئ" اتق الله يا رجل، وأين أنا من معن؟

الأسود: بل أنت معن، أنت بُغيةُ أمير المؤمنين.

معن: لقد أخطأتَ يا رجل.. ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟

الأسود: دع عنك هذا يا معن، فأنا والله أعرف بك.. أنت معن بن زائدة الذي يطلبه أمير المؤمنين.

معن: "بعد صمت قصير وفي لهجة إغراء" اسمع يا هذا.. إن كانت القصة كما تذكر فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي.

الأسود: هاته أنظر إليه.

معن: خذه.. "صوت حركة شيء" ها هو بين يديك.

الأسود: "بعد صمت قصير" لقد صدقت يا معن.. إنه لجوهر نفيس!.. ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك.

معن: "مسرعاً" قل.

الأسود: إن الناس وصفوك بالجود، فأخبرني هل وهبتَ مالك كله قط؟

معن: لا.

الأسود: فالنصف؟

معن: لا.

الأسود: فالثلث؟

معن: لا.

الأسود: "بعد صمت" فما أكثر شيء وهبتَه من مالك!؟

معن: أظن أني وهبت العُشرَ منه.

الأسود: ما ذاك بعظيم، أنا والله راجل، ورزقي من المنصور عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك.

معن: "مندهشاً" ها..

الأسود: ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس..

معن: "مندهشاً" إنك والله لرجل.

الأسود: لتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك، فلا تعجبك نفسك، ولتظل على جودك وكرمك بين الناس. انصرف راشداً محفوظاً، وكن شديد الحذر، فإن المنصور جادٌّ في طلبك.

معن: "في صوتٍ مندهش ومُعجب معاً" يا هذا لقد فضحتني، ولسَفْكُ دمي أهونُ عليَّ مما فعلت، فخذ ما دفعتُه إليك فإني في غنى عنه.

الأسود: "ضاحكاً" أردت أن تكذبني في مقامي هذا، فوالله لا آخذه، ولا آخذ لمعروفٍ ثمناً أبداً.. أستودعك الله يا معن.. احفظ وصاتي جيداً، وكن على حذر.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين