رجال ومواقف: إيثار ثلاثة أصدقاء

المال نعمة من الله عز وجل، يضعها بين أيدي العباد ليبلوهم: أهم شاكرون أم جاحدون!؟ ولينظر أي شيء بها يعملون!؟

ولعل أعظم مكرمات المال أن يستغني به المرء عن سؤال الناس، ويصون وجهه من الذهاب إلى حيث لئيمٌ يتشفى، أو بخيلٌ يضن. ولعل من أعظمها أيضاً أن يمد يد العون لمحتاج، ويبادر بالغوث إلى كريم أضنت عليه الأيام، طلباً لمرضاة صاحب المال وواهبه، الله عز وجل.

كان الرجل يفكر في أمره ويعود إلى التفكير، وكان ينظر في واقع حاله ويعود إلى النظر، وكان يتأمل فيما آل إليه وضعه ويعود إلى التأمل، وكان يعود من ذلك كله محزوناً مكلوم الفؤاد.

إن ضيقاً شديداً قد ألحّ على صاحبنا جعله لا يدري كيف يقوم بأود ذويه وفيهم صغار لا يقدرون على شيء، وليس بوسعهم أن يحتملوا مثل هذه الضائقة!؟

وطفق الرجل يبحث عن رزق طيّب حلال يسد به أفواهاً جائعة، ويكسو أجساداً بليت ثيابها، ويدخل البهجة والسرور على صبية صغار فارقتهم بسمة الطفولة بما فيها من براءة محببة، وعذوبة طليقة، منذ أمد ليس بالقصير.

لكنه كان يعود من ذلك كله خاوي الوفاض، يجرّ نفسه إلى البيت جراً، ولا يدري كيف سيواجه العيون الزائغة التي أضرّ بها الجوع المتواصل!؟ فإذا بها أسئلة محرجة لا يقدر الوالد على مواجهتها فضلاً عن الرد عليها، وإذا بها سهام مصيبة تقع من قلب الوالد المحزون في مقتل.

ومرت الأيام والحال على هذه الشاكلة، وتعاقبَ الجديدان والضائقة تشتد وتحكم قبضتها إحكاماً يشق الفكاك منه، والوالد مرهق محزون، والأم والهة شجية، والصغار ناحلون واهنون.

* * *

وسرت في الناس بهجة حبيبة ذات يوم، وبدت على الوجوه طلاقة وبشاشة، وارتسمت على الأسارير هناءة ووضاءة، ومشى في النفس رَوْح كريم محبّب، لقد اقترب العيد.

والعيد أيام بهيجة مونقة يغسل الناس فيها أجسادهم، ويلبسون الزاهي الجديد، ويغسلون أنفسهم وسرائرهم؛ إذ يُلقون وراءهم متاعبهم التي لا تنتهي، ويستلّون سخائمهم، ويتناسون أحقادهم، ويُقبلون على الحياة، وعلى التعامل بعضهم مع بعض بصدور مفتوحة، وسرائر نقيّة، وفيهم آمال عراض وضاء.

وحزّ ذلك كله في قلب الأم فهتفت بزوجها محزونة متألمة: أمّا نحن فنصبر على البؤس والشدّة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء تصرفه في كسوتهم!. وكانت الأم على حق فيما قالت، وكانت حجتها ناصعة مقنعة، فطفق الرجل يتذكر صاحباً له يستدين منه.

وتذكر صاحبه عبد الله، وهو نعم الصاحب الوفي، وبينهما مودة قديمة وحقوق وعهود، فسارع يكتب إليه يسأله التوسعة، ويستعجله في المبادرة.

* * *

وكانت فرحة الرجل كبيرة، وكانت فرحة زوجه أكبر حين جاء مَنْ يحمل إليه من صديقه عبد الله كيساً فيه ألف درهم.

ألف درهم!! إنه مال طيب، سيدخل البهجة والسرور على هؤلاء الصغار الذين ثقلت عليهم الوطأة، واشتدت عليهم الأمور، بل إنه سيُدخِلها على الأبوين، ولم لا!؟ وهما – وإن كانا كبيرين قادرين على الاحتمال – يحبان أن يستقبلا العيد باسمَيْنِ سعيدَيْن. وجلس الرجل وزوجه يرتبان أمورهما، ويوزعان المال على الحوائج المختلفة، ويهيئان ما يحتاجه للعيد القادم، وما يحتاجه الصبية الصغار.

* * *

وطُرِق البابُ، وقام صاحبنا مسرعاً يستقبل الزائر فإذا به صديق عزيز هو عبد الرحمن.. وتحادث الصديقان بعض الشيء، وما طال الأمر، ذلك أن عبد الرحمن جاء يشكو ضيق حاله، ويستدين شيئاً من المال.. ونهض صاحبنا فوضع الكيس بحاله بين يدي صديقه الذي سارع إلى الخروج شاكراً أنْ وفقه الله تعالى إلى مثل هذا الرجل الوفي الذي يلجأ إليه في الملمات.

* * *

وحين رأت الزوجة ما صنع زوجها ضاقت ذرعاً، وهمت بالبكاء لولا أن تداركها الصبر فتذرعت به، وفوّضت أمرها إلى الله تعالى، وجلست محتسبة ساكنة، وخجل الرجل من زوجته، وخجل من النظر إلى أولاده الصغار، وأدركته رقة وحنان، وإشفاق وحياء، فلم يُطِق الجلوس في الدار، فمضى إلى المسجد فنام فيه ليلته تلك.

* * *

وحين عاد إلى داره في الصباح فوجئ بطرق على الباب، وفوجئ بصديقه عبد الله وعبد الرحمن ومعهما كيس المال نفسه، وفيه الدراهم الألف لم تنقص شيئاً قط. وتكاشف الأصدقاء الثلاثة، وتصارحوا فكان أمرهم عجباً من العجب!.

أرسل صاحبنا إلى عبد الله يستدين منه، ولم يكن لدى هذا سوى ألف درهم، فقام بإرسالها إليه دون ريث أو تمهل. وحين فرغ من ذلك فكر أن يستدين من عبد الرحمن ما يقوم بأمره فكتب إليه في ذلك.

أما عبد الرحمن فلم يكن لديه شيء قط إذ جاءه طلب صديقه عبد الله، فمضى إلى صاحبنا يقترض منه فقدّم له الألف نفسها، فأخذها وذهب بها إلى عبد الله فوضعها بين يديه. وكانت دهشة عبد الله كبيرة حين رأى ماله يعود إليه بكامله.

إن كيس المال قد طاف على الأصدقاء الثلاثة، وكلٌّ يؤثِرُ به صاحبه، عندها تواسى الثلاثة المال أثلاثاً، ومرّ عليهم عيد هانئ سعيد. ونمي النبأ إلى الخليفة المأمون، فأعجبه هذا الإيثار، فأمر لكل واحد منهم بألفي دينار، وأمر للمرأة الصابرة المحتسبة بألف دينار.

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين