رجال ومواقف : أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم

هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.. وزميله في النشأة والصبا. ومن العجيب أنه ربما يهتدي البعيد النائي عن داعية الهدى، بينما يصدُّ عن ذلك الأقرباء الذين هم ألصق الناس به، يا سبحان الله! أينفر من الماء العذب من يعيشون إلى جواره، بينما يروى به آخرون بعيدون!؟ إن ذلك كثيراً ما يحدث، وليس في ذلك عجب أو غرابة، فالهداية والإعراض سِرّان من أسرار الله عز وجل.

من هؤلاء المعرضين عن الماء السائغ، الصادّين عن المنهل العذب، المعادين للحق أن يعلو ويذيع بين الناس، أبو سفيان بن الحارث، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وزميله في النشأة والصبا. وسبحان الله! فإن بيده الهداية والضلال.

لقد نفر أبو سفيان من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد النفور، وعاداها أشد عداء، مجاهراً بالظلم والعداوة، معانداً للحق، مجافياً للهدى، محارباً للخير محالفاً للشيطان.

وكان الرجل شاعراً معروفاً في مكة المكرمة، فأخذ يذيع شعره في هجاء الرسول عليه الصلاة والسلام والتنفير من الإسلام. واستمر أبو سفيان بن الحارث على العداوة دهراً طويلاً يقرب من عشرين عاماً قضاها في دنياه الشريرة الباغية.. ثم آنَ للظالم أن يرتدع، وللباغي أن يتوب، وللغافل أن يصحو، وللصادّ أن يثوب، لقد أضاءت شعلة الإيمان فؤاده فإذا به يستنير، وإذا به يتّقِدُ حباً للخير والحق، وإيماناً برسالة الإسلام. كان ذلك قبيل فتح مكة المكرمة.. وعندها مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه الكريمتين.

وقف أبو سفيان بعد عداوة عشرين عاماً أمام نبيه وابن عمه صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه وأشاح عنه بوجهه الكريم. وتحوّل الرجل التائب النادم ليقف في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم من جديد، فأعرض عنه مرة ثانية.. وعلمت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بذلك فشفقت له.. وأخذ أبو سفيان يردد كلمة الشهادة، ويعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعفا عنه، وقبِل منه، وأوصى به ابن عمه علي بن أبي طالب ليعلّمه الإسلام.

ويُروى أن أبا سفيان حين انشرح صدره للإسلام جاء ابنَ عمه علي بن أبي طالب الذي نصحه أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ وجهه ويقولَ له: "تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين"، ففعل أبو سفيان ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".. عندها أنشده أبو سفيان أبياته التي منها:

لعمرك إني يوم أحمل راية=لتغلبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ

لك المدلج الحيران أظلم ليله=فهذا أواني حين أُهْدَى فأهتدي

* * *

وأيّاً كان الأمر!.. فإن أبا سفيان قد دخل مرحلة جديدة في حياته؛ هي مرحلة التكفير والتوبة والتطهير، وإذا به يعود إلى ماضيه كأنه يريد أن يمحوه محواً، ويقتلعه من جذوره. بالأمس هجا المسلمين، واليوم يهجو الشرك، وبالأمس وقف يحارب المسلمين وهو اليوم يحارب معهم، لقد كانت في الرجل حُرقة داخلية، وندم عميق، ورغبة ملحة في بدء حياةٍ جديدةٍ تقوم على الصدق والإيمان والجهاد. وكأن الرجل وجد في الجهاد ضالة هو عنها يبحث، وهو إليها محتاج، وهكذا كان..

شهد الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة الطائف.. وفي حنين، حين انكشف الناس ثبت ثبات الجبال.. وهو يقود بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنه جعفر. ثبت أبو سفيان وجعل يدافع ويقاتل أشد القتال، فنظر إليه العباس بن عبد المطلب وأعجِبَ بما يفعل، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال صلى الله عليه وسلم "قد فعلت، فغفر الله له كل عداوة عادانيها".

وقف أبو سفيان البطل يجاهد دون خوف أو وجل.. فقد آمن الرجل حقاً، فما عاد يرى لذة في العيش خيراً من نصرة الدين، يكشف عن هذا شِعرُه الذي قاله يوم حنين:

إن ابن عم المرء من أعمامه

بني أبيه قوة من قدامه

فإن هذا اليوم من أيامه

يقاتل الحرمي عن إحرامه

يقاتل المسلم عن إسلامه

شِعرٌ يكشف عما كان يختلج في صدر أبي سفيان من أمانٍ ورغبات. إنه أخو الهيجاء حقاً طلباً لثواب الله ومرضاته هاهو يقول:

لقد علمت أفناء كعب وعامر=غداة حنين حين عم التضعضع

بأني أخو الهيجاء أركب حدها=أمام رسول الله لا أتتعتع

رجاء ثواب الله، والله واسع=إليه تعالى كل أمر سيرجع

يا سبحان الله! لقد آمن شِعر الرجل بعد طول كفران، كما آمن قلبه هو الآخر بعد كفران طويل.

إن تحول أبي سفيان بن الحارث من الجاهلية إلى الإسلام كان تحولاً جذرياً حقيقياً.. سرى في أعمق أعماقه صدقاً وإخلاصاً وتضحية. لقد أسلم الرجل وحسن إسلامه، لذا قال صلى الله عليه وسلم عنه: "ألا إن الله ورسوله قد رضيا عن أبي سفيان بن الحارث؛ فارضوا عنه"، وأمر علياً أن ينادي في الناس بذلك.

توبة عميقة تلك التي ملكت فؤاد أبي سفيان.. فقد كان له من الإيمان والوفاء والإخلاص حظ كبير.. وحسبك أنه لم يكن يرفع رأسه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حياءً منه، وحسبك أنه واصل التكفير عن ماضيه بكثرة الصيام والصلاة والعبادة والجهاد، لقد تغيرت حياته تغيراً تاماً، ونقّتهُ التوبة النصوح، ومحّصه الإخلاص الصادق، وشرّفه الجهاد باللسان والسنان.. حتى لقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان أخي وخيرُ أهلي، وقد أعقبني الله من حمزة بن عبد المطلب أبا سفيان بن الحارث"، لذا كان يُدعى "أسد الله وأسد الرسول".

ومرت السنوات يتلو بعضها بعضاً، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يوالي مسيرته في دروب الهداية والبر والجهاد.. وبينما كان يؤدي الحج جُرِح في رأسه فمرض فمات.. وفي مرضه كان يقول لأهله المحيطين به وعيناه تتقدان بالصدق والصفاء: "لا تبكوا عليّ، فإني لم أتنطَّق بخطيئة منذ أسلمت".

أيها الصحابي الشاعر المجاهد! رحمك الله، وأكرمك، ورضي عنك وغفر لك، فقد كانت مواقفك بعد إسلامك قمة شامخة عنيفة في الصدق والصبر، والفضيلة والبر، والجهاد والتضحية؛ مواقف تكشف أيَّ عظيمٍ كنت، وأيَّ بطل كنت، وأيَّ مجاهد مؤمن منيب صادق، صاغه الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين