دين زاحف مهما كانت العوائق

 

 

كلما قرأت أبواب الفتن في كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا ـ من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون ـ إلى حاضر الإسلام ومستقبله!

 

لقد صوروا الدين و كأنه يقاتل في معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد  الزمن أكثر مما يربح!

 

ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تُغري المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفَّة الخير لأن الظلام المُقبل قدرٌ لا مهرب منه...

 

وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري عن الزبير بن عدي قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم)!.

 

وظاهر الحديث أن أمر المسلمين في إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار!!

 

وهذا الظاهر باطل لا يُقبل، وهو يُخالف نصوصاً أخرى ثابتة سوف نذكرها، كما يخالف الأحداث التي وقعت في العصر الأموي نفسه!!...

 

فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمدَّ رقعة الإسلام شرقاً حتى احتوت أقطار من الصين، وامتدت رقعة الإسلام غرباً حتى شملت اسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا...

 

ثم تولى الخلافة عمر بن عبد الغزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عزَّ على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم...

 

ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحبوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجلَّ خدمة، فكيف يقال: إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيء إلى أسوأ؟؟ هذا هراء...!!!

 

الواقع أن أنساً رضي الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التي شاعت في عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة وألحقت بأهل الحق خسائر جسمية، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر!!

 

وأنس بن مالك أشرف ديناً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها في مغامرات فردية تأتي عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخاً مكيناً.

 

وتعبيره للناس حتى يلقوا ربهم أي: حتى ينتهوا هم، لا أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة وأن الاستكانة للظَلمة سُنة ماضية إلى الأبد!!

 

إن هذا الظاهر باطل يقيناً والقضية المحدودة التي أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانوني يحكم الأجيال كلها...

 

لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرناً، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت هذه الأرض للحياة والبقاء، وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر.

 

ويوم ينتهي الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هناك دنياً، لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوي العالم أجمع...!!

 

فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون.

 

لقد ذكر لي بعضهم حديث: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف، وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم ويداهن الجائرين، و يستكين للأفول الذي لا مَحيص عنه...!! وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم.

 

ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار في عين جالوت...

 

ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغاني إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق، ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً...!!

 

وقلت في نفسي: أيكون الإسلامي غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الاحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟ يا للخذلان والعار!!!

 

الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التي سوف يواجهها الحق في مسيرته الطويلة، فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته، بل ربما وصل في جراءته على الإيمان أن يقتحم حدوده، ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه...!

 

وعندئذ تنجلي الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذي يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التي يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة، ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة.. بل لعله يستأنف زحفة الطهور، فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً...

 

وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجيء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء في بعض رواياته: (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي).

 

فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الردئية، ويلقى الدين حظوظاً أفضل.

 

وليس الغرباء التافهين من مسلمي زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة، وتوكلوا على الله في مدافعتها  حتى تلاشت...!

 

والفتن التي لا شك في وقوعها، والتي طال تحذير الإسلام منها، فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة، ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، وما استتبعه ذلك من اهداء للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض...

 

والعرب في جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادي، فهم كما قال دريد بن الصمة:

 

يغار علينا واترين فيشتفي=بنا أن اصبنا أو نغير على وتر

فسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا=فما ينقضي إلا ونحن على شطر

 

وقد غلبت طبيعة الإسلام في العصر الأول طبيعة العرب، واستفاضت نصائح النبي صلى الله عليه وسلم لقمع هذه الغرائز الشرسة.

 

وتدبر قوله للأنصار: (إنكم ستجدون أثرة بعدي) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم ) وهذا القول أحكم وأشرف ما يعالج به نبي أدواء قوم...

 

ماذا يصنع الرجل الكفء الذي جحدت كفايته، وتقدم غيره بوسائل مفتعلة؟ أيقاتل وليكن ما يكون ؟ لا ليؤد واجبه الذي عليه، وليسال الله ـ لا الناس ـ الحق الذي له، وليرضى بما يقسمه الله له في الدنيا ويدخره له في الأخرى...!

 

فإذا شاعت بين الناس تلك الخيانات فليحرص المؤمن على الترفع والتنزه، وليرفض المشاركة في معارك المال والجاه والمطامع والوجهات، وليستمسك بعروة الإيمان متجاوزاً تلك الصغائر التي يهلك فيها أصحابها.

 

وذاك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها  تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذبه).

 

والحديث يوصي بنفض اليد من هذه الفتن، ويذكر أن صاحب الجهد القليل فيها خير من الناشط المتحمس، ثم ينصح المؤمن أن يبحث عن حصن يعود به من شرورها!

 

هل يعني ذلك العزلة وترك الأمة دون ناصح أمين، ورائد مخلص؟ كلا... إن العزلة قد تصلح للبعض، وقتاماً، ولكنها لا تصلح للأمة كلها بداهة وإلا كان ذلك حكماً عليها بالفناء!.

 

غير أن بعض العلماء للأسف تأول هذه الأحاديث ونظرائها مما ورد في أبواب الفتن على أنها دعوة للانسحاب من المجتمع وترك بناء الإسلام ينهار على أساس أن الدنيا إلى شر، وأن الدين إلى غربة، وأن المؤمنين إلى استضعاف، وأن النجاة... أولى!

 

ذلك كله إفك، فإن الإسلام لما يكتمل بعد كيانه السياسي، و لما يبلغ سيله ـ بعد ـ مداه الطبيعي، وقافلة الإسلام التي تحركت من أربعة عشر قرناً، و تعثرت حيناً وهرولت من أربعة عشر قرناً، وتعثرت حيناً وهرولت حيناً آخر، لا تزال على الدرب العتيد ماضية إلى وجهتها المكتوبة لها من الأزل تلك الوجهة التي قال القرآن في تحديدها:[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33}. والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة أولى بالنشر والترويج من أحاديث الفتن التي أولع الضعفاء بروايتها وسوء شرحها.

 

ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها).

 

وروى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار! ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيزاً وبذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر...).

 

وكلمة ما بلغ الليل والنهار في هذا الحديث الرائع كلمة جامعة من خصائص البلاغة المحمدية، ولا أرى نظيراً لها في الدلالة على السعة والانتشار!

 

وما رواه أحمد عن تميم الداري يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على و جه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام بعز عزيزاً وبذل ذليلاً أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها).

 

وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود: صلى هذا الحي من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها ـ أمراءها ـ في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة).

 

ويقول صاحب المنار في نهاية تفسيره لقوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ...] {الأنعام:65} .

 

اعلم أن الاستدلال بملا ورد من الأخبار والآثار في تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن عليها بدوام ما هي عليه  الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله، اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطسة بعد هذه النبوة، كالآية الناطقة باستخلافهم في الأرض، سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد وكحديث: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكه لا يخاف إلا ضلال الطرق).

 

رواه أحمد والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عند مسلم من أن مساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذي يقال له أهاب، أي أن مساحتها ستكون عدة أميال.

 

فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين... [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ] {ص:88}.

 

وخطأ كبير من الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان. وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة، وإني لأذكر فيه قول المتنبي:

 

إنا في زمن ترك القبيح به=من أكثر الناس إحسان وإجمال

 

أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم القمم، والتلميذ الذي لا يسقط شيء والذي يحرز الجوائز شيء آخر...!

 

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما يأمر باعتزال الفتن لا ينهي واجبنا عند ذلك الحد...

سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق، ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل ظلمة...

 

ولا نماري في أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامي قديماً وحديثاً، بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيداً يبكون، و يتتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة!!!

 

أما الراسخون في العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ، حتى يدركهم الموت، أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله ومساندة دينه سبحانه...

 

وسيبقى أولئك الرجال، وراء الذكر المحفوظ بوعد الله تعالى، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من  أرض الله، أو كما قال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: (ما بلغ الليل والنهار).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر مجلة لواء الاسلام العدد السابع السنة 25 ربيع الأول 1391 مايو 1971‎

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين