دلالات النصر في غزة - بشائر النصر في غزة

كثيرون من أنصار حماس والمقاومة يخافون عليها وآخرون منهم على العكس يبدون مطمئنين إلى أن ما يجري في غزة يعضدها ولا يضعفها، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك بأنه سيحسم لصالحها معادلات كثيرة هي حتى الآن لا تزال مضطربة؛ كمعادلة الجمع بين الدعوة والثورة والسلطة، ومعادلة ردع العدو، ومعادلة التمايز عن الغث الفلسطيني الذي يحاول المزايدة بالكلام المجرد إنشائي على الثورة والدماء واللحم الحي.. وتختلط الأمنيات بالإمكانات وتتداخل الوقائع بالمتوقعات.. ولكن ما الفواصل بين ما يجب أن نصدقه وما يجب أن نكذبه؟ وكيف نفرق بين مفاعيل الحرب النفسية المرافقة للحرب العسكرية التي تستهدف وجداننا وإدراكنا ثم إيقاع السقوط والهزيمة بنا، ومفاعيل الثقة اللازمة والأمل الموضوعي الذي يحقق الصمود ثم النصر؟ والمحصلة أننا لا نريد تكرار الوقوع في إحدى آفتي التهويل أو التهوين، وحتى لا نأمن في موضع الخوف، أو نخاف في موضع الأمن، وحتى لا نُطمّع أنفسنا بالمستحيل ولا نيئسها من الممكن.

الذين يتخوفون على حماس والمقاومة واقعون تحت تأثير جملة من العوامل أهمها أولاً: أن الناس رأوا السقوط السهل والمهين لبغداد والعراق وسقوط طالبان وقبل ذلك الشيشان وأخيراً المحاكم الإسلامية أمام الاحتلال الإثيوبي.. فارتكز في أذهانهم أن المشهد قد يتكرر مع حماس والمقاومة دون أن يفطن هؤلاء للفارق الموضوعي بين الحالات - موضع النظر - هذا أحد عوامل التأثير في رؤية المتخوفين وتوقعاتهم، أما الثاني: فهو ما يقوم به اللطامون البكاءون الذين لا يجيدون إلا العويل والتهويل من السياسيين والإعلاميين ولسنا نسأل هنا عن مرادهم وما إن كان بريئاً أو خبيثاً ولكن عن أثر ما يقومون به في تهديم الوعي الإدراكي الذي هو هدف الحرب النفسية وأول مراحل الهزيمة.. وهذا هو العامل الثاني؛ أما العامل الثالث فهو: أن البعض يقع تحت تأثير مشاهد الدم والقتل ومئات الجثث والجرحى والأشلاء فيخلطون بين ما يؤثر منها في تغيير موازين القوة على الأرض وما هو على أطراف التأثير ثم يقولون بلغة الوجدان والعواطف وليس العقل والواقع: ماذا بقى من المقاومة أو للمقاومة؟ وكم ستصمد بعد ذلك؟ فيخلطون بين الخوف التآزري الإيجابي الذي ينتج عنه الحذر ودرء ما يتخوف منه ثم المقاومة والصمود.. والخوف العاطفي السلبي الذي هو انفعال بالحرب النفسية وينتج عنه فراغ وضعف يقين..

وحتى نضع الأمور من كل ذلك في نصابها لننظر إلى أربع دلالات؛ الأولى: الدلالة الواقعية، والثانية: الدلالة التحليلية، والثالثة الدلالة الدينية، والرابعة الدلالة التاريخية.. ثم لنحكم بعد ذلك على المشهد حاضراً ومستقبلاً وأملاً أو يأساً واستبشاراً أو انقطاعاً.. وأقول:

أما الدلالة الواقعية: فإن حماس اليوم تنتقل من نصر إلى نصر، بعون الله تعالى ، ومن إنجاز لإنجاز فقد ابتدأت بالدعوة الدينية الفقهية الوعظية، ثم انتقلت إلى الثورة المقاومة والمسلحة في مطالع الثمانينيات، ثم انتقلت أخيراً إلى الدولة والعمل السياسي الرسمي واستطاعت أن تجمع كل ذلك وأن تبدع فيه على ما تعرضت له من التعويق والاستفزاز والإشغال ثم الاستهداف.. وها هي تترقى في وجدان شعبها من تيار أيديولوجي وإطار ذي توجه خاص إلى حالة وطنية وجهادية تتقاطع مع الجميع وتحوز احترامهم على ما لها معهم من خلافات.. أما من حيث المواجهة مع العدو فقد انتقلت بشكل منهجي وتراتب طبيعي من طور إثبات الموجودية إلى طور التحدي وتوازن الردع ثم إلى دحر العدو عن غزة وهو ما يؤهلها لطور قيادة التحرير.. وفي هذه الدلالة لا يجوز أن نغفل عن محاولات ممتدة من أعداء حماس لاجتثاثها وأنها – ولله الحمد – قد باءت كلها بالفشل والخيبة في حين استمرت حماس وقيّض الله تعالى لها من يحركها ويتحرك بها.. وكلنا يتذكر اجتماع 33 دولة عربية وأجنبية تحت جناح الصهاينة والأمريكان في شرم الشيخ – البائس دائماً – عام 96 وأنهم قرروا اجتثاثها! فماذا كان؟ وكيد من الذي غلب؟ ثم عندما حاولوا احتواءها بالانتخابات التي ظنوا أنها ستحجّمها وتصادر قرار مقاومتها ألم ينته كيدهم إلى ضلال ومكرهم إلى بوار.. وأخيراً لما حاولوا مع دايتون الأمريكي الانقلاب عليها وقال قائلهم (والله ما بوخذوا في إيدنا غلوة) ثم جاء الحسم، ألم يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء؟

وأما الدلالة التحليلية: فإن الحرب التي تشن على حماس محكومة بثلاثة عوامل؛ الأول: البعد الزمني، والثاني: حراك الجماهير وأثرها على استقرار الأنظمة الموالية (المعتدلة)، والثالث صمود المقاومة واستمرارها في إطلاق الصواريخ.. أما عن البعد الزمني فإن العدو لا يستطيع أن يقوم بحرب مفتوحة زمنياً لما لها من أثر على ما يسميه العدو جبهته الداخلية وأنها تتحول في لحظة ما إلى حرب على إنجازات التسوية التي تعتبر إستراتيجية المنطقة، وتتحول إلى تهديم ما تم بناؤه من التطبيع وما تم تزييفه من الصورة الثقافية والحضارية لدولة العدو.. أما عن حراك الجماهير وأثره في استقرار الأنظمة فلا يمكن تجاهل مصلحة العدو في بقاء هذه الأنظمة وبقاء حد من الرواج السياسي لها في نظر شعوبها.. والمتصور أن العدو ليس من الغباء ليقاتل حماس إلى الحد الذي يفتح عليه أبواب حماسات كثيرة بدل حماس واحدة، وأما عن صمود المقاومة فإن من نافلة القول إن كل حروب (إسرائيل) مع المقاومات العقدية وحتى لا نذهب بعيداً في استقصاء النماذج البعيدة أو القريبة لدينا نموذج حماس والجهاد ومعركة جنين مع نفس العدو ولنتذكر أن خمسين مجاهداً في مخيم جنين صمدوا أحد عشر يوماً مقابل مئات الدبابات والطائرات وآلاف الجنود وفي محيط كيلو متر مربع واحد، وأن العدو خسر أربعة وعشرين جندياً – الذين اعترف بقتلهم – وأنه بدّل قياداته الميدانية ثلاث مرات ليتغلب على المقاومة.. ولنتذكر أنه لم يستطع دخول المخيم إلا بعد أن استشهد كل المقاومين ودمّر كل المخيم على رؤوس من فيه.. ولنا أن نتخيل مدى الصمود وطول المعركة عندما تكون المواجهة مع 25 ألفاً منهم عقائديين فكيف إذا كانوا 75 ألفاً كما تحرزهم بعض الجهات؟ في سياق هذا الحديث عن الصمود لا يجوز أن ننسى أنه إذا كان شرط انتصار المقاومة أن تصمد وأن تطلق صاروخاً واحداً قبل إعلان تهدئة جديدة فإن شرط انتصار العدو أن يوقف إطلاق الصواريخ البتة، وأن يفكك حماس وأن يقيم بدلها نظاماً موالياً، وأن تستقر الأوضاع لصالح ذلك النظام.. وكل هذه أهداف من العسير بل المستحيل إنجازها على الأقل في وقت لا يعود بالخطر على معادلات أخرى أكثر استراتيجية كما أسلفنا.

وأما الدلالة الدينية: فإن المقاومة وعلى الرأس منها حماس قد حققت شرط البقاء والاستمرار ثم النصر والتمكين تماماً كما جاءت به النصوص القطعية الثبوت والدلالة.. فإن في القرآن ما يدلل على أن النصر للمؤمنين سنة ماضية وبالأخص في هذه الأمة إذا أوفت لله عهده وأعدت للمواجهة أسبابها (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) قد يقول البعض وقد قال! دي "إسرائيل" وأمريكا.. لازم نعرف إحنا رايحين على فين؟ وهؤلاء قد قال الله تعالى فيهم وفي أمثالهم: [مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ] {الحج:15}  أي: ليقتل نفسه إن شاء وليمت بخوفه وفشله.. وليس الأهم في نصرة الله تعالى لأوليائه إعداد أسباب الدنيا من السلاح وعديد الجيش.. فالمطلوب من ذلك ما يستطاع فقط (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..) من هنا تأتي أهمية تصفية العقيدة وتوثيق الصلة بالله تعالى وترك الفاحشة وما يقرب إليها قبل ومع وبعد إعداد القوة المادية.. وهذا ما - للأسف – لم يأبه به الذين جرّوا على أمتهم الهزائم والويلات وهذا بالضبط هو الفارق الأهم ومرجح النصر بين قلة مؤمنة وكثرة فاجرة (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) بقي أن نقول إن هذه الدلالة لا تنتج وحدها النصر وإلا لانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة ولما هزم المسلمون في أحد وتأرجحوا في حنين – وليس المقام للتوسع في هذه الدلالة -.

وأما الدلالة التاريخية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل المعتدين من (الكافرين والمنافقين واليهود والنصارى) وانتصر عليهم بالقليل من المجاهدين الجوعى والعراة الذين لا يملكون من رياش الدنيا إلا القليل والنزر اليسير.. وحدث مثل ذلك لأتباعه من بعده ما يؤكد أن النصر للمنهج وليس للأشخاص.. وفي تاريخ الإسلام الكثير الذي يجب التوقف عنده مما يؤكد هذه الحقيقة.. وأكتفي هنا بالإشارة لشاهد واحد هو انتصار المسلمين على الروم والفرس الدولتين العظميين في آن معاً.. وقد لفت هذا النصر المتزامن على الدولتين نظر المحللين والمؤرخين فتساءلوا لماذا انتصر المسلمون كل هذا النصر؟ فقال قائل: لأنهم كانوا أهل بداوة وهم بذلك أقدر على القتال وأعرف بالصحراء.. فرد معارضو هذا التحليل بسؤال مقابل: ولماذا إذن انتصر المسلمون وهم من أهل مكة وكانوا الأقل على بني عمومتهم من أهل مكة الكافرين وهم الكثرة المضاعفة؟ وإذن فالأمر غير ذلك.. وقال آخرون: إنما انتصر المسلمون بكونهم دولة فتية على الدولتين اللتين كانتا مترهلتين شائختين.. فرد معارضو هذا الإنحاء بأن دولتي فارس والروم كانتا فيما بينهما على خلاف دائم وحروب مستشرة ما يجعلهما دائمتي التحفز وينفي عنهما دعوى الترهل والتراخي.. وأقول: ستبقى هذه دلالة تاريخية على أن الله تعالى يتجاوز للفئة المؤمنة عن الأسباب وعن ضرورة التكافؤ مع العدو إذا أعدت ما استطاعت وأخلصت دينها لله.

آخر القول: أتذكر والدي – يرحمه الله ويرحم أموات المسلمين – إذ كان يقول (اللي بيخاف الله لا تخاف منه ولا تخاف عليه) صحيح.. أن حماس تمر اليوم في منعطف تاريخي يتآمر عليها فيه البعيد وبعض القريب ما يوجب الابتهال إلى الله تعالى أن يحفظها ويسددها وما يقتضي من الأمة أن تحوطها بالعناية والرعاية.. لكن وبالنظر لهذه الدلالات الأربع التي بيّنا يمكن التأكيد وبثقة مطلقة أن (الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون) ولئن وجد في الأمة من يخونها أو يتآمر مع عدوها!! فإن في الأمة الشعوب المؤمنة والجماهير المؤازرة، ولئن فضحت بعض النظم بخيانة الشعب الفلسطيني فإنها لا تمثل شعوبها ولا تمتّ لها كما أن الله تعالى ييسر للفلسطينيين شعوب الأمة كلها، ولله الحمد.

 

نشرت 2009 وقد أعيد تنسيقها ونشرها اليوم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين