إذا ذكرنا التسامح في هذه الأيام فإن الذي يقفز إلى الذهن هو التسامح مع الأعداء الذين حاربوا الشعب السوري وأجرموا بحقه وارتكبوا أنواع الموبقات، وهؤلاء لا تَسامحَ معهم ولا عفوَ ولا غفران، بل عينٌ بعين وسِنٌّ بسنّ، ولولا أن أَجور وأُغضب الله لقلت: سنأخذ بالعين عينين وبالسنّ فكَّين مليئين بالأسنان! ولكنّا نقف عند حدود الحق التي أقرّها الله ونترك ما سوى ذلك لعدله وقضائه في الآخرة.
ليس هذا هو التسامح الذي أعنيه، بل التسامح بيننا نحن أهل الأسرة الواحدة والحي الواحد، أهل الثورة الواحدة والوطن الواحد والدين الواحد، الذين يسطو بعضُهم على حقّ بعض ويشتدّ ويشتَطّ آخرون في استيفاء حقوقهم حتى يبلغوا بها مبلغ العدوان.
كان لي في شبابي صديقٌ شديد لا يترك حقاً يُؤخَذ منه إلا اشتدّ في استرجاعه، وكنت أترك كثيراً ممّا لي عند الناس من حقوق مادية ومعنوية وأتجاوز في استيفائها، فقال لي يوماً يعيّرني: إنك ضعيف. قلت: ليس ذلك، ما بي ضعف ولكنه خوف. قال: تخاف من الناس؟ قلت: بل أخاف من رب الناس. قال: كيف؟ قلت: أخبرُك، أمَا قرأت "تاجر البندقية"؟ قال: أوضِحْ أكثر.
قلت: نعم، في مسرحية شكسبير الشهيرة هذه يَشترط المرابي اليهودي شايلوك على أنطونيو الذي اقترض منه المالَ أن يقتصّ منه رطلاً من لحم إذا عجز عن القضاء. فلما عجز شكاه إلى المحكمة وطالب بحقه، وعبثاً حاول القاضي أن يقنعه بالتنازل والتسامح، فلما عيّ ويئس منه ناوله السكين وقال: دونك، خذ حقك. واقترب شايلوك من الرجل المسكين فهتفت به بورشيا (ولا يهمنا الآن مَن هي بورشيا)، قالت: حسبك، انتبه؛ من حقك أن تقطع رطلاً من اللحم لا يزيد ولا ينقص، وحَذارِ أن تريق نقطة من دم لأن الاتفاق لا يتضمن سوى اللحم. فبُهت المرابي القبيح وقال: كيف أقتطع لحماً ولا يسيل دم؟ قالت: أنت الذي قررت الجزاء وليس فيه إلا رطل لحم.
وكانت النتيجة أن خسر اليهودي المرابي القضيةَ وخسر المال لأنه عجز عن استيفاء حقه الصافي بلا زيادة ولا عدوان.
* * *
لقد تعلمت من الحياة أن الحقوق تتداخل وأن المرء لا يمكن أن يحصل على حقه كاملاً إلا إذا أخذ شيئاً من حق غيره، فآثرتُ أن أترك شيئاً ممّا لي عند الناس على أن آخذ منهم شيئاً ممّا ليس لي، فما أدراني وأنا أقتضي اللحمَ الذي لي أن أريق الدمَ الذي ليس لي؟ وأيّ مكسب أكسبه إذا اقتضيت حقي هنا من متاع الدنيا فجُرْتُ على حق غيري ثم اقتُضي مني هناك حسنات؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له ولا متاع. قال: "إن المفلس منأمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطَى هذامنحسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضيَ ماعليه أُخذمنخطاياهمفطُرِحتعليه ثم طُرِحفيالنار".
فيا أيها الناس: مَن أراد الآخرة وما عند الله فليسامح وليتسامح في اقتضاء الحقوق، وليكن ممّن تشملهم دعوة نبيّ الله بالرحمة: "رَحِمَ الله عبداً سَمحاً إذاباع سَمحاً إذا اشترى، سَمحاً إذاقضى سَمحاً إذا اقتضى".
ومن أراد الدنيا وزهد فيما عند الله فليصرّ على حقه الكامل، ولن يناله إلا بزيادةٍ يُسأَل عنها يومَ الحساب، فإنكم لن تستطيعوا استيفاء حقوقكم صافيةً مهما بلغتم من الحرص والورع والتقوى، ومَن زاد واعتدى وأخذ ما ليس له أدّاه يوم القيامة من حسناته أو حمل مقابلَه من سيئات الآخرين. فما لكم وتضييع ثمرات الأعمال الصالحة التي تعملونها؟ وما لكم وحمل أوزار الآخرين؟
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول