حوار مع شيخ القراء الشيخ كريم راجح -
حوار مع فضيلة شيخ قرَّاء الشام
محمد كريِّم راجح
التقى المشرف على الموقع الأستاذ الشيخ مجد مكي بفضيلة المقرئ العلامة الشيخ محمد كريِّم راجح في مكة المكرمة في دعوة كريمة عند آل المهندس في يوم الأربعاء،10/ جمادى الآخرة 1428هـ الموافق 27/6/2007م، بحضور المقرئ الشيخ عبد الله بن حسين الصُّومالي، والأخ الشيخ عثمان دياب، من علماء بيروت، والمدرس في جمعية الاتحاد الإسلامي، والشيخ القارئ بهاء علي، من عكار، والإخوة الأكارم، نضال وشمس الدين ومحمد آل المهندس،والأبناء الأعزاء: أحمد أبو الفضل مجد مكي، وموفق أبو اليسر مجد مكي، وأحمد أبو الهدى نضال مهندس، وأحمد أبو النصر شمس مهندس، وعبد الهادي شمس مهندس، وأحمد أبو النور مهندس،وكان لقاءاً حافلاً بالفوائد والأدب، محفوفاً بكرم الضيافة وحُسن الوفادة.
والشيخ محمد كريِّم هو شيخ قراء الشام، وقد آتاه الله قوة حفظ، وذاكرة متفوقة، وقدرة على النطق السريع، حتى إن لسانه يكاد يسبق فكره من شدة طلاقته، وهي ظاهرة متكررة في عائلة راجح، من أهالي حي الميدان كما ذكر ذلك صديقه وشقيق روحه أستاذنا الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه عن أبيه الشيخ حسن حبنكة الميداني رحمهما الله تعالى.
وما يزال الشيخ محمد كريِّم بفضل الله وحفظه علماً من أعلام دمشق، معلماً وخطيباً ومدرساً وداعياً إلى الله في المساجد والمجامع والمحافل، وسنقدم الحوار الذي أجراه المشرف على الموقع في ركن الحوار، كما سنقدم ترجمة مفصَّلة له في ركن التراجم العلماء.
ـ في أي سنة ولدت؟
ـ ولدت في سنة 1926م.
ـ ما هو مذهبك الفقهي؟
ـ مذهبي شافعي، وقد درست الفقه الحنفي على الشيخ زكي الدين شعبان في كلية الشريعة في دمشق، وكان من أعظم الفقهاء.
ـ أين كانت دراستك الشرعيَّة؟
ـ أنا درست في معهد التوجيه الإسلامي، عند شيخنا الشيخ حسن رحمه الله تعالى، وكان إخواننا الذين يذهبون إلى مصر لمتابعة الدراسة في الأزهر يقول لهم العلامة الأصولي الكبير الشيخ مصطفى عبد الخالق: لم يأتنا من معهد التوجيه الإسلامي بالشام إلا عالم، كما أخبرني بذلك عنه تلميذه العلامة الشيخ مصطفى الخن حفظه الله تعالى.
ـ ما رأيك بالمستوى العلمي ببلاد الشام؟
ـ سوريا مليئة بالخير وبالعلم وبالفضل، وكان الشيخ علي الطنطاوي يقول: سورية أكثر من مصر ثقافة وعلماً بالنسبة للعدد. فكم عالم في مصر؟ انظر نسبتهم إلى عددهم؟ وكم عالم في سورية ؟ وانظر أيضاً نسبتهم إلى عددهم تجد عددهم أكثر.
كنت مرة في مصر، وجلست مع شيوخ القراء هناك، وأنا ملقب بشيخ القراء، فكانوا يتكلمون عن قراء مصر، وأنا ساكت ما تكلمت، فقال لي أحدهم: أما تتكلم عن أمجاد القراء بدمشق؟ فقلت: ابن الجزري دمشقي. فسكتوا.
وحتى الحرف التجويدي في الشام لا يدانيه حرف.
نزل القرآن بمكة، وجوِّد بدمشق، وغُني بمصر، وكُتب بتركيا.
كنت أقول هذا الكلام أمام بعض المغاربة، فقال لي أحد إخواننا المغاربة: أليس للمغاربة حظ ؟ فقلت: أرجو أن يُعمل به في المغرب.
ـ هل يعمل بالقرآن في المغرب أو في أيِّ مكان؟
ـ القرآن لا يُعمل به بشكل كامل ولا في مكان.القرآن عبارة عن ألفاظ تتحرك بدون خشوع. ماذا نستفيد من هذه السيديات العارمة ؟ وهذه الشاشات الكثيرة ؟ ماذا يستفيد المسلمون؟ كلام وألفاظ.
لو أخذنا أبواب الفقه لا نجد العمل المطلوب في أي باب من تلك الأبواب، في العبادات مثلاً، العبادات فيها تقصير وليس لها فاعلية، فلو ترك الناس الصَّلاة والزكاة والصوم والحج لا يقول لهم أحد: لمَ امتنعتم عن أداء العبادات. فالعبادات لا يحميها الحاكم ولا تحميها الخلافة.
المعاملات اليوم كلها مبنية على الحقوق المدنية. في دمشق ألغى حسني الزعيم مجلة الأحكام الشرعيَّة واستعاض بالقانون المدني المصري، وقد أخذناه بحروفه، حتى بعدد مواده، والقانون المدني المصري مأخوذ من القانون الفرنسي بالحرف الواحد.
بعد المعاملات نأتي إلى كتاب النكاح الذي يُعرف بـ الأحوال الشخصية. في أكثر البلاد الإسلامية لا يزال محافظاً عليها ـ والحمد لله ـ ولكن شاع الآن الزواج المدني وأشياء كثيرة يُلعب فيها، كالدعوة إلى الحرية الشخصية في زواج المرأة من غير إذن أهلها.
بعد كتاب النكاح نأتي إلى كتاب الحدود، الحدود غير معمول بها في العالم الإسلامي كله على الإطلاق. بل يعدون الحدود شيئاً همجياً يقولون: كيف أرجم أو أجلد من زنى؟ كيف أقطع يد من سرق؟ بينما هؤلاء إذا خالف أحدهم الدولة في بعض أنظمتها يُجلد أكثر من ألف مرة، ويُحبس خمساً وعشرين سنة، فهذا شيء مباح أما إذا زنى أو سرق وعبث في أعراض الناس وأموالهم فيرمى بالوحشية إذا نادى إلى تطبيق الحدود.
بقي من أبواب الفقه: القضاء، القضاء كله على غير شرع الله حتى القصاص، فلا يوجد عمل بكتاب الله.
هذا الذي يقرأ القرآن لا يعمل به، حتى الخطباء والمدرسون، يخطب أحدهم خطبة عصماء تأخذ العقل أو يدرس درساً يستلب الألباب، ثم ينسى ما يقول ولا يخطر بباله ما كان يدعو إليه ويلهب حماس الناس من أجله.
الذين يشتغلون بالقرآن يعيشون من ورائه، جعلوا الدين دكاناً يعيشون من ورائها، فإذا كان أستاذاً يأخذ معاش التدريس، وإذا كان خطيباً يأخذ معاش الخطابة، وإذا كان صوته جميلاً يقرأ بالإذاعة ويأخذ الأجر على قراءته، ومن كانت معه شهادة دكتوراه، يدرس في الجامعة الفلانية ليحصل على معاشه.
أصبحت العلوم الإسلامية من أجل العيش، وسيأتي يوم لا يعيشون من ورائها، ففي أول الأمر نزع أعداء الإسلام المضمون وأبقوا الثوب. وسيأتي يوم يذهب الثوب والمضمون معاً.
ـ بقي من أبواب الفقه التي لا يعمل بها أيضاً الجهاد؟
ـ ثلث آيات القرآن تتحدث عن الجهاد، وتحضُّ عليه، وأصبحت كلمة الجهاد كلمة محرمة لا يستطيع أن يقولها المسلمون. حتى في فلسطين يقولون: المقاومة.
في أيام الخلافة العثمانية كانوا يسمونها وزارة الحربية، وأصبح اسمها الآن في كثير من البلاد العربية: وزارة الدفاع، وتوجد كتب تُؤلَّف وتؤكد أن الجهاد دفاعي فقط، فإذا دخل أعداء الإسلام بلادنا ندفعهم ونحاربهم.
كيف انتشر الإسلام ووصل للأندلس والصين، ومجاهل البلاد؟ لقد انطلق المسلمون في الأرض، وحملوا راية الإسلام، وفتحوا البلاد وحرروا العباد.
ـ ما تقويمكم لوضع كثير من العلماء اليوم ؟
ـ الكثير منهم لا يرضيهم إلا ما يرضى به السلطان، وصار النفاق مقصداً للنفاق ليس لغاية أخرى، وصار مطلباً عند كثير من أرباب العمائم واللحى، كل واحد منهم يتباهى بالوصول إلى الرئيس أو المسؤول، يتباهون ويتبارون في ذلك، ويقولون: ماذا تريدون منا أن نقول حتى نتكلم.
كل الحياة كذب في كذب، ونفاق في نفاق، ودَجَل في دَجَل، وكل هذه المؤلفات والكتب لا تفعل شيئاً.
آية في كتاب الله إذا عملنا فيها رفعتنا إلى أعلى علين، ولكننا لا نريد أن نرتفع بالقرآن، وإنما نريد أن ننتفع بالمكاسب الدنيوية، ونتخذ الدين دكاناً نعيش من وراءه.
ـ هناك تآلف بين بعض المشايخ والقسس تحت مسمى التقارب بين الأديان ؟.
ـ يقول الله عزّ وجل: {لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم}،{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}،{ وقالت اليهود عُزير ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة:30].
الذين أثنى عليهم الله عزّ وجل أسلموا:{ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}[المائدة:83] فهؤلاء ما حرَّفوا وما بدَّلوا، وأما الموجودون فهم من المحرفين، فمن العجيب أن تجد شيخاً هنا وبجانبه قسيس، وقسيس هنا وبجانبه شيخ، تحت عنوان: أننا سواسية، في بلد واحد !!
ـ من أدركت من كبار علماء الشام؟
ـ الأبناء الصغار يتأثرون بالنظر إلى أهل الصلاح، أنا أدركت فضيلة الشيخ بدر الدين الحسني، في الجامع الأموي تحت قبة النسر، كان عمري لما توفي الشيخ بدر سنة 1935 تسع سنين، وكنت أعيش آخر الميدان ليس لي علاقات، حملني أبي على كتفه وأنا ابن أربع سنين وأراني إياه. بقيت سنين أذهب إلى الأموي بعد ذلك وأنا طفل أبحث عن درسه من أجل رؤيته فلا أراه. تأثرت إلى يومنا هذا بهذا المشهد. أما قبة النسر التي كان يعقد درسه فيها ولا يجلس تحتها إلا كبار العلماء فقد آلت إلى كلام يردد.
الشيخ بكري العطار رأى الشيخ بدر الدين في شبابه يدرس فسمع منه لحناً، فقال له: تعلَّم، ثم تعال إلى الدرس، فمكث اثني عشرة سنة منقطعاً إلى العلم وما خرج حتى تعلم.
ـ هل أدركت الشيخ علياً الدقر؟
ـ أدركت الشيخ علياً الدقر، ولكن ما خالطته. زرته مرة مع شيخنا الشيخ حسن، وكان المشايخ يحافظون على تلاميذهم أن لا يخرجوا من حلقتهم ولا يتصلوا بغيرهم. وهذا في أول الأمر لا بأس به، ولكن لابدَّ من الاستفادة من كل العلماء، وهذه الظاهرة لم تكن معروفة في الشام من قبل.
ـ هل أدركت الشيخ هاشماً الخطيب؟
ـ رايته كثيراً وزرته وحضرت دروسه وسمعت خطبه، وكان الشيخ هاشم فصيحاً متكلماً، وآل الخطيب مشهورون بالخطابة والفصاحة، وأخوه الشيخ عبد الرحمن كنت تسمع صوته من الأموي وأنت بالمسكية وهو يخطب دون مكرفون ومن تلك الأسرة: الشيخ أبو الفرج الخطيب وأبناؤه: عبد القادر ومعاذ. والأستاذ معاذ خطيب جيد، ولكن لا تعجبهم صراحته وصدقه.
ـ هل أدركت الشيخ محموداً العطار؟
ـ أدركت الشيخ محموداً وأنا صغير، ولكني أعرفه. لم يكن من الرجال الطوال، بل كان نحيف الجسم، شديد التواضع، يؤمُّ الطلاب من أجل أن يقرؤوا عليه. كان شيخنا الشيخ حسن يقول: أنا تعلمت من رجلين: الفصاحة تعلمتها من الشيخ عبد القادر الإسكندراني، والعلم أخذته من الشيخ محمود العطار، وكان له تلامذة كثيرون في القدم أبرزهم: الشيخ عبد القادر بركة، الذي لزم دروس الشيخ محمود العطار في الصباح والمساء، وقرأ عليه الكثير من الكتب رحمه الله تعالى.
ـ هل لكم صلة بالشيخ أبي الخير الميداني ؟
ـ أبو الخير الميداني كنت أحبه، كان رقيقاً، ولديه أسلوب لطيف في الكلام والتعليم، وكان يحبُّ الأدب ويحفظ من الشعر العربي كثيراً. وهو صوفي صالح، وتصوفه على الطريقة الشامية.
ـ هل تتابع دروس الشيخ محمد متولي الشعراوي في التفسير أو تقرأ له ؟
ـ نعم أسمع كثيراً لدروسه والتي هي عبارة عن خواطر، وإذا سمعت بالشعراوي فلا تستطيع أن تتركه حتى ينهي درسه أما إذا قرأت له فتستطيع أن تتركه ، ولو قُدِّر له أن يكتب بقلمه ما قاله بلسانه لكتب شيئاً آخر.
الأستاذ الطنطاوي إن قرأت له لا تستطيع أن تتركه، وإن سمعت له لا تستطيع أن تتركه، فهو جذاب في إلقائه وكتابته. وليس ذلك لأنه أقدر من الشعراوي. السرُّ في ذلك: أن الكلام الذي يقوله الشعراوي يُفرَّغ له، فلو كتب تفسيراً لكتبه على غير ما يقول فيكون أسلوبه في الكتاب جذاباً على غاية الروعة.
أنا أتكلم الآن فلو أردت أن أكتب كلامي لكتبته بأسلوب آخر وبكلام آخر. فكلامه عبارة عن صورة، والصورة لا تفعل ما تفعل الحقيقة، لأنه يتكلم بالعامية والذي يُفرِّغ له كلامه يتصرَّف فيه على شكل آخر. أما الشيخ الطنطاوي فقد كان جذاباً في كلا الأمرين لأنه هو الكاتب وهو المتكلم. والطنطاوي أعده من مفاخر سورية.
ـ هل هناك مقارنة بين ما قدمه الشيخ عبد الرحمن حبنكة في التفسير وما قدمه الشيخ محمد متولي ؟
ـ لا توجد مقارنة بين الشيخ عبد الرحمن وبين الشيخ متولي. الشيخ عبد الرحمن يفسر تفسيراً علمياً دقيقاً منضبطاً بقواعد صارمة، وأما الشعراوي فيأتي بخواطر، وهذه الخواطر ليست كلها من عنده، شيء من عنده وشيء موجود في الكتب، ولكنه في جمال أدائه وروحه وصلاحه وتقواه يعطيك التقوى والصلاح والسلوك. وهو متكلم ومتحدث غير ما هو مؤلف وكاتب، وهو عالم اطلع على كتب التفسير اطلاعاً واسعاً، ولديه أصول علمية يبني عليها. أما الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى فقد كان من العلماء الفضلاء، وكان يعتمد على عقله أكثر من اعتماده على المنقولات.
كان شيخنا الشيخ حسن يقول: العالم يجب أن يكون كالصيدلي، عنده كل الأدوية حتى السم، لا يعرف متى يأتيه الطلب فيجب أن يكون مهيئاً فلا يدري متى تأتيه المسألة.
ـ ما رأيك في كثير من الكتب المنتشرة اليوم ؟
ـ أكثر الكتب التي تصدر اليوم عبارة عن نقل، وهذا شيء مؤسف، فكتب التجويد ملأت البر والبحر، كلها مثل بعضها، ويريد كل واحد أن يكتب في التجويد حتى يكتب اسمه على ظهر الكتاب.
التفاسير كثيرة جداً. وما فائدة كل ذلك ؟ يكاد الواحد لا ينظر في كتاب جديد. تأتيني كتب جديدة فأتصفَّح أول الكتاب ثم أتصفَّح وسطه، ثم أنظر في آخره فأجده عبارة عن نقل، وترى البعض له آراء جريئة غير سليمة. قليلاً ما تجد كتاباً حديثاً تقرؤه وأنت مشتاق إليه. وكذلك الأمر في كتب الحديث.
ـ ما رأيكم في بعض الفتاوى التي تصدر من غير المتأهلين لها؟
ـ هناك فوضى في العلم الديني حالياً، والفتاوى أكثرها فوضى، وأصبحت الفتاوى تصدر من العقل، ولا يضع بباله هذا المجترئ على الفتوى: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار، ولا يخاف الله في فتواه، فهو يتكلم من عقله لا يستند إلى آية ولا إلى حديث.
قلت مرة لأحدهم: أنت تخالف مذهبين في كلامك هذا، تخالف مذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي ولا أعلم إذا ما كنت تخالف مالكاً وأحمد.
فقال: ومن أبو حنيفة والشافعي ! أنا لا يهمني أن أخالفهما. المهم أن أقول رأيي، ورأيي هو الصواب. هذا كلام ينشأ عن كبرياء، وبالمقابل نجد من يتعصَّب لمذهبه، ولا يرى أن غير مذهبه يجوز أن يذكر. وكلا طرفي القصد ذميم.
ـ ما نصيحتكم إلى طلاب العلم اليوم ؟
ـ كثير من طلاب العلم اليوم يتملقون بين أيدي الحكام. وأنا أقول لهم: إن الله سبحانه رفع مرتبة أهل العلم فجعلهم على المنابر فوق الناس وجعل الناس تحتهم من أجل أن يجهروا بكلمة الحق. لم يبق الورع الذي عليه أهل العلم، وحالُ الكثير منهم كما يقول القائل:
كلكم طالب صَيْد كلكم يمشي رُوَيْد
غير عمرو بن عبيد
خاتمة هؤلاء الرجال الذين كانوا يقولون الحق، ولا يخشون في الله لومة لائم هو شيخنا الشيخ حسن حبنكة رحمه الله تعالى، أنا حضرت مجلسه مع أمين الحافظ فكان آية من الآيات، حتى الشيخ عبد الرزاق الحمصي ـ وقد كان موجوداً ـ سئل عنه ؟ فقال: بعث طاووس البارحة ـ يريد طاووس بن كيسان اليماني ـ كان موقفه جريئاً صريحاً حتى إن أميناً قال لي: هذا قبضاي لو سبَّ أبي لقبلت منه لأنه رجل ليس كالرجال.
ـ ما رأيكم في ظاهرة الردود المنتشرة بين طلبة العلم؟
ـ إذا كان الرد في بيان الأخطاء بقصد النصيحة مع الأدب، وفي تصحيح بعض الانحرافات وفي تخريج الأحاديث فهذا شيء مفيد، وأما إذا كان الرد فيه هجوم بالباطل، وفحش في العبارات فلا يلتفت إليه. وكل إناء بالذي فيه ينضح.
أو كلما طنَّ الذبابُ طردته إن الذباب إذاً لعليَّ عظيم
فالأفضل أن لا يرد وأن يأخذ بقول الله تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.
ـ كيف يتعرف على العالم الذي يستفاد منه ؟
ـ يجب أن نمحص ذلك العالم ونختبر علمه. بعض الوعاظ يصنع لهم ما لا يصنع لأحد، وأنا أتعجب ممن لم يبلغ الثلاثين من بعض الذين صار لهم وجهٌ سياسي، حصل على المال والعظمة ؟.هنالك بعض الدكاترة في القراءات لا يعرف قراءة آيتين. الدكتوراه لقب يساوي تدجيل على العلم إلا من رحم ربي.
كان أهل العلم على غير هذه الطريقة، لما جاء العلامة الكبير الشيخ عبد القادر قصاب من مصر إلى الشام بعد إقامة طويلة في مصر، راح علماء الشام يسلمون عليه، وذهب شيخنا الشيخ حسن وكان شاباً، فقال له: يا بني أنت من العلماء؟ قال: أنا من طلاب العلم. قال: فأخبرني عن قول الله تعالى:{ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون } أين جواب إذا؟ قال: أعرضوا.
قال: من أين فهمت هذا الكلام ؟ قال: من قوله تعالى:{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين}. قال: أعرب: ضرب زيدٌ الطويل عمروٌ القصيرَ؟. قال: بينهم مشاركة هذا صفة على المعنى، وهذا صفة على المعنى. فقال: يا بني أنت عالم. فلم يقر بعلمه قبل أن يسأله، فهل يعقد مجلس لزيد من الناس لما يأتي إلى دمشق للتعرف على علمه، أم نرفع من شأنه بغوغائية.
أحد القضاة الكبار أرسل له أبوه ـ وكان أمياً ـ: إني أريد المجيء إلى بيتك لأراك، وكان العلم من قبل يأخذونه كابراً عن كابر، فالعائلة كلها علماء الجد والأب و الابن، أما هذا القاضي فكان أبوه أمياً، لا يقرأ ولا يكتب، فأراد أن لا يظهر أبوه أمام الناس بالجهل، فقال له: إذا امتحنوك فقل لهم: في المسألة قولان. فسئل عن قوله تعالى: {أفي الله شك ؟} فقال: في المسألة قولان. فأخذ ابنه يخرج كلام أبيه على قضية إعرابية في الآية. والشاهد في هذا: أن العالم كان يمتحن ويمحص علمه.
البخاري عقدوا له مجلساً ليمتحنوا حفظه، فأين هذا من الغوغائية الموجودة الآن، أصبح ادعاء العلم سهلاً. حط على رأسك لفة، والبس جبة تصير عالماً.
دخلت على الشيخ أبي اليسر عابدين ـ الذي ختمت به الفتوى ـ وكل المفتين الذين جاؤوا بعده مفتون سياسيون، فأصبح المنصب منصباً سياسياً لا دينياً فقال لي الشيخ أبو اليسر: الله يرضى عليك أحضر هذا الكتاب، وطلعت على السلم، وأحضرته وهو كتاب قديم جداً. فأخذ الكتاب وفتح الصفحة التي عليها علامة، وقال لي: اقرأ. فقرأت الصفحة من أولها إلى آخرها، فقال لي: ماذا فهمت ؟ قلت: فهمت كيت وكيت. فقال: أنت عالم. لأنك قرأت ولم تلحن، وفهمت ما لم يفهمه كثيرون ممن قرؤوا قبلك أنت ابني أنت ابن عابدين.
ـ ما هي الكتب التي قمت بتأليفها ؟
ـ أنا بخيل بالتأليف، ولكن لساني ليس بخيلاً، اختصرت تفسير ابن كثير، وتفسير القرطبي، ولي تفسير لكلمات القرآن على حاشية المصحف، اسمه: البيان.
ـ ما هي المساجد التي خطبت فيها بدمشق ؟
ـ تقلبت في مساجد كثيرة، فبدأت بجامع الجسر وسرحوني لمدة خمس سنوات، ثم خطبت بجامع عيسى باشا، ثم في جامع الزهراء في المزة، ثم في جامع المنصور، ثم جامع الكويتي، ثم في جامع زين العابدين، ثم جامع الحسن.
ثم قام المشرف على الموقع بتقديم تفسيره ( المعين على تدبر الكتاب المبين) هدية لفضيلة الشيخ، وقرأ شيئاً من مقدمته ونماذج من سورة يس، وسورة ص، وناقشه في بعض القضايا العلمية، وأثنى على عمله، وقال: الجميل في هذا التفسير أنك تأخذ المعنى وتحلله وتربطه بالآية، ووعد بكتابة كلمة تكون في مقدمة الطبعة الثانية لهذا التفسير بعون الله.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين