حوار مع الشيخ : محمود فؤاد الطباخ -
نقدم للقراء الكرام حواراً مع فضيلة الدكتور الشيخ محمود بن فؤاد طباخ الحلبي والمقيم حالياً في المدينة المنورة ويسعدنا أن ننشر القسم الأول منه وسنوافي القراء الكرام ببقية الأقسام الأخرى تباعاً . ونرجو أن يجدوا فيه النفع والفائدة المرجوة.
بسم الله الرحمن الرحيم
س : بداية نود أن تبرزوا لنا البطاقة الشخصية ؟
الاسم : محمود بن فؤاد طباخ
مكان الميلاد : حلب عام 1363 هـ – الموافق 1944 م .
المؤهل العلمي : دكتوراه في الدعوة الإسلامية – ماجستير في اللغة العربية .
س : لكل شخصية جذور تمتد إلى مرحلة الطفولة ، هل ساهمت مرحلة الطفولة في تكوين شخصيتكم مستقبلاً ، حبذا لو ذكرتم بعض المواقف في تلك المرحلة .
لقد نشأت في طفولتي المبكرة في أحضان الطبيعة الصافية ، بين الكروم التي كانت لجدي لأمي ؛ وكنا نقصدها في فصل الصيف لجني الثمر ، فرأيت ما جعلني أدرك فيما بعد أهميته في حياتي كلها ؛ حيث تعلمت فيما تعلمت :
1) أن استنشاق الهواء العليل ( غاز الأوزون ) الذي كنا نتعرض له أثناء جني الثمار في الصباح الباكر كان له أثره الكبير في صحتنا وسلامة تفكيرنا كما أثبتت ذلك الدراسات .
2) أن تحقيق الغايات لا بد له من تضحيات ، فعندما كان جدي يصعد لجني العسل من خلاياه فإنه كان يدفع ثمناً لذلك إبر النحل التي تلسعه .
3) كما كنا في كروم الفستق ونحن نأخذ قسطنا من الراحة تداهمنا الغربان لتقضي على محصوله ، فنسرع بتخويفها بالأصوات التي تصدر عن رج العلب المملوءة بالحجارة إلى جانب أصواتنا ( وِيهَا وِلَك . . وِيهَا وِلَك ) مؤثرين ذلك الخروج على راحتنا حتى تغادر تلك الغربان أرضنا ، ونعود فرحين بإنجازنا ، فتعلمت من ذلك أن النجاح في الأمور كلها وبخاصة الدعوية منها لا يتحقق إلا من خلال دقة الموازنات ومراعاة الأولويات .
4) أن الدراسة المثمرة لا بد أن تكون متكررة لأن ما تكرر تقرر ، وهو ما تعلمته في جولاتنا مع القمح المحصود الذي كنا نجمعه في كُوَم ( بيادر ) ونمر بالعربة ذات العجلات الحديدية المسننة كالمنشار فوقه مرات ومرات فيما يعرف بدراسته لفصل القمح عن القش .
5) أن الدفاع عن الأرض عمل مشروع وفاء للأمة ، لكن يجب أن يصحبه دفاع عن الحرمات والمقدسات حتى لا يكون مثل عمل الكلاب التي رأيت أنها تحرس الأرض ضمن حدودها بوفاء نادر حتى ولو كلفها ذلك حياتها .
6) كما تعلمت قيمة وقت السحَر وبركته حين رأيت الغنيمات التي تنام مبكراً وتستيقظ وقت السحَر يبارك الله في أعدادها وقطعانها ، بينما لا تحصل الكلاب على تلك البركة لأنها تسهر أول الليل لتنام آخره ، مع أن الأغنام تتعرض للذبح المستمر في معظم المناسبات ، وأنثاها لا تلد إلا واحداً أو اثنين بينما تلد أنثى الكلاب سبعاً ، ولا تمتد إليها الأيدي بالذبح كما تمتد للأغنام ، فأين من يفهم ويتدبر ؟ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }
س : هل كان للظروف المعيشية الصعبة في تلك الفترة أثر في طفولتكم ؟
نعم ، لذا فقد أحببت الاعتماد على نفسي منذ نعومة أظفاري ، حيث كنت أذهب مع أبناء سني كعادة أهل بلدي في المناسبات الدينية والأعياد إلى المقابر حيث يزور الناس أمواتهم للدعاء لهم والترحم عليهم ، ومعنا المصاحف ونصيح ( إِلْ بيقرّي . . إلْ بيقرّي ) فندعى من قبل هؤلاء الزائرين لقراءة ما تيسر من القرآن ( سورة الرحمن أو يس مثلاً ) بأجرة معقولة ، فنعود فرحين بما جمعناه في تلك المناسبة ، ولا تسلني عن جواز الأجرة على قراءة القرآن الكريم وهي مسألة للعلماء فيها أقوال ، وحسبي أنني كنت طفلاً دون سن التكليف .
كما كنا نبيع ما يسمى ( غزل البنات ) أو ( أقراص بعجوة ) أو ( بوظة ) نحملها وندور بها في الحارات ويجتمع علينا الأطفال ونعود فرحين بما كسبناه لنسهم ببعض نفقاتنا تخفيفاً على أهلينا لأن الظروف كانت صعبة في ذلك العصر .
س : نود أن تحدثونا عن نشأتكم العلمية في المرحلة الأولى من حياتكم ؟
بادئ ذي بدء أود أن أذكر أن حياتي العلمية لم تكن كحياة العلماء الأفاضل الذين نذروا حياتهم وأفنوا أعمارهم في التحقيق والتأليف والتعليم جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين كل خير فبضاعتي في هذا الجانب مزجاة ، وإن كنت قد نشأت في أحضان العلم ونهلت من مدارسه المتعددة ، لكن لما فرض علي أن أخالط بيئات مختلفة وشرائح متعددة من المجتمع فقد دفعني ذلك إلى وجوب تحمل مسؤوليتي الدعوية تجاه هذه البيئات ؛ ليصلها الخير الذي أدركت بعضاً منه عن طريق مشايخي وأساتذتي من أهل الفضل رحمهم الله .
لذا فقد كانت مسيرتي الدعوية في غالب أمرها من خلال منابر التعليم التي تسنمت ذراها معلماً ومربياً ، وكنت أرتع في مغانيها وكأني أمارس هوايتي المفضلة رابطاً القول بالعمل والمواقف ، فالمواقف هي التي تفرز الرجال وتجعل منهم دعاة صادقين ومقبولين يقتدى بهم في كل حين .
وأحب أن أشير هنا إلى أن قناعاتي قد تغيرت في كثير من المواقف التي كانت تناسب بيئتها ، وعلى الداعية أن يوازن بين ما هو مطلوب وما هو ممكن ، وأن يقدم الأهم على المهم ، وأن يعلم أن ما يحسنه داعية قد لا يتقنه آخر ، وأن ما يغتفر لفلان قد لا يغتفر لغيره ، والسعيد من وفقه الله { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } .
س : حبذا لو تحدثونا عن البيئة التي ترعرعتم فيها وكان لها أثرها في مسيرتكم الدعوية .
نشأت في بيئة محافظة ، فجدي لوالدي الشيخ محمد طباخ المتوفى حوالي سنة 1957 ملازم للشيخ نجيب سراج الدين رحمهما الله وقبره معروف إلى جواره ، وفي هذه البيئة ترعرع والدي المتوفى سنة 1997رحمه الله ، فحفظ القرآن الكريم وتلقى العلوم الدينية ، وكان إماماً وخطيباً في مدينة حلب ، أما الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله فهو شيخ مشايخنا في الثانوية الشرعية وكان مديراً لها ، وهو صاحب كتاب إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء ، والمحدث المعروف ، ولم يتوصل الشيخ محمد راغب مع جدي إلى تحديد صلة القرابة مع تعاصرهما.
أما جدي لأمي فهو الحاج محمد طراب مؤذن جامع البكرجي في حارة الباشا بحلب ، الذي كان يؤمه الشيخ أسعد عبه جي رحمه الله مفتي الشافعية .
في هذه البيئة نشأت والدتي أيضاً حيث اشتغلت حفظها الله في تعليم القرآن الكريم للأطفال الصغار في بيتنا وكانت تدعى ( الخوجة ) وقد كنت ضمن مجموعة الأطفال الذين تعلموا عندها ، وكانت طريقة التعليم عداً وشكلاً ودرجاً ، بمعنى أن قراءة أول كلمة من الفاتحة ( الحمد ) مثلاً هكذا : ألف نصب آ ، لام جزم ألْ ( أَلْ ) ، حا فتحة حا ( اَلْحَ ) ، ميم جزم حَمْ ( اَلْحَمْ ) ، دال رفعة دُ ( اَلْحَمْدُ ) وهكذا حتى نهاية السورة ، لينشأ الطفل على تمييز الحروف والحركات وهو يقرأ ويحفظ .
ثم انتقلتُ إلى الكتّاب ( الشيخ ) لمتابعة قراءة القرآن الكريم وحفظه مما مكّنني من تلاوته تلاوة صحيحة والحمد لله .
س : أين درستم المرحلة الابتدائية ، ويا حبذا لو تذكرون لنا بعض المواقف في تلك المرحلة ؟
كانت المدارس قليلة في تلك الفترة ، وكانت أقرب مدرسة ابتدائية إلينا هي ( المتنبي ) وتبعد حوالي نصف ساعة سيراً على الأقدام ، فكنت أقطعها ماشياً ذهاباً وإياباً حتى في الأوقات الصعبة أيام المطر والثلج ، لأن المواصلات قد تكون متعبة أكثر من المشي .
وفي تلك المرحلة كنا نشارك في المناسبات الوطنية ، حيث تخرج المدارس كلها تقريباً للتظاهر في المناسبات من مثل يوم الجلاء الفرنسي عن سوريا أو يوم احتلال إسكندرون أو يوم وعد بلفور المشؤوم وغير ذلك .
وأذكر من جملة المواقف في تلك المرحلة أنني كنت أصلي بزملائي في الصف الثالث الابتدائي إماماً لصلاة الظهر ، حيث كنا نداوم دوامين قبل الظهر وبعده ، ونتناول طعام الغداء الذي كنا نحضره معنا من البيت إلى المدرسة ، ومما هو جدير بالذكر هنا أن الأستاذ المناوب كان يجمعنا بعد الغداء ، ويطلب إلى كل واحد منا أن يحمل كتابه بيمينه لندور جميعاً حول الباحة ونحن نقرأ ونحفظ حتى لا تضيع فرصة الظهيرة وهي ساعتان بدون فائدة .
وفي تلك المرحلة أيضاً كنا نستثمر العطلة الصيفية في تعلم بعض الحِرَف اليدوية كالخياطة والنجارة وغيرها ، لأن الآباء غرسوا في أذهاننا مقولة : ( صنعة في اليد أمان من الفقر ) ، ففي عطلة السنة الدراسية الثالثة جلست عند الخياط لأتعلم تلك المهنة ، ولا زلت أذكر اليوم الذي ربط لي أصبعي الوسطى لتعتاد على هذا الانثناء فتلبس ( الكشتبان ) بطريقة صحيحة لتكون الخياطة متقنة وسريعة ، وبقيت أصبعي مربوطة لمدة أسبوع حتى تأقلمت على ذلك ، فكان هذا الصنيع درساً لي في الصبر لبلوغ أي غاية ينشدها الإنسان .
كما كنت أساعد الوالد رحمه الله في دكانه لبيع الألبسة للتغلب على تكاليف المعيشة ومصاريف الدراسة .
ولا أنسى أنه كانت لي في تلك المرحلة مساهمة في أعمال البيت كان لا بد منها من مثل مسح لمبة الكاز وملؤها يومياً للدراسة على نورها ، وكذا ملء الحاصل ( وهو بناء على شكل الحوض ) من الجب بالماء وذلك أيام الغسيل ، إلى غير ذلك مما كان له كبير الأثر في حياتنا المستقبلية .
س : نود أن تحدثونا عن مسيرتكم العلمية بعد المرحلة الابتدائية .
بعد أن حصلت على الشهادة الابتدائية وكانت حينئذ بعد السنة الخامسة ، كانت رغبتي الدخول إلى الثانوية الشرعية لحاقاً بأخوَيّ ، لكن رغبة الأهل كانت أن أدخل التعليم العام لأن التعليم الشرعي في تلك الفترة لا يكفي دخله لتغطية النفقات ، مما أضاع مني سنة دراسية كاملة ، قضيتها في تعلم حرفة النجارة ، وتمكنت من العمل بنفسي في إنجاز خزانة ( سكرتون ) مع قريب لي مدّني بما يلزم لإنشائه ، أملاً في افتتاح ورشة للنجارة ، لكن عودتي للدراسة حالت دون ذلك والخير فيما اختاره الله .
س : هل تابعتم بعدها مسيرة التعليم في المدارس العامة أم تحققت رغبتكم في اللحاق بالثانوية الشرعية ؟
دخلت الثانوية الشرعية بعد تلك السنة ( حوالي 1955 م ) ، وتحققت أمنيتي العلمية والدعوية ، مع وجود بعض التصرفات التي لم ترق لي من مثل تلك المظاهرة التي قامت من بعض الطلاب ضد مدير الثانوية ( الشيخ طاهر خير الله رحمه الله ) ، لإبعاده عن إدارة الثانوية ، وكنت يومها في عداد مَن دافع عن الشيخ .
س : نود أن تحدثونا عن بعض الشيوخ الذين أثروا في مسيرتكم العلمية والدعوية في الثانوية الشرعية ؟
لقد كان الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله ناظراً ومدرساً للغة العربية في الثانوية ، وكان معروفاً باستقامته وحزمه ، فلما دخل علينا الفصل ونحن في الصف السادس أي الأول الإعدادي ، نظر إلينا وكنا حوالي 60 طالباً ، فطلب مني أن أقوم وأذكر اسمي ثم قال : أنت مسؤول عن الفصل إذا تأخر المدرسون هذه السنة ، ومنذ ذلك الحين توطدت العلاقة بيني وبين الشيخ رحمه الله وبخاصة أن بعض أبنائه كانوا معنا في الفصل أو في المدرسة .
س : حبذا لو تحدثونا عن علاقتكم بالشيخ أحمد عز الدين البيانوني في هذه المرحلة .
كان الشيخ أحمد رحمه الله مولَعاًَ بدقة التطبيق وحرفيته ، ويرى أن أي خلل في هذا التطبيق هو السبب في كل ما نزل بالأمة من مصائب ونكبات ، وليس لنا من خيار إلا أن نعود إلى التطبيق الكامل وبخاصة لِمَن هم قادة الأمة الطبيعيين من العلماء والموجهين .
لذا فقد راق لي هذا المنهج وشرعت أحضر مع بعض أبنائه مجالس العلم والذكر التي كان يقيمها الشيخ في مسجده .
ومما زاد العلاقة توطيداً أنه طلب مني أحد أولاد الشيخ وكان زميلاً لي أن أشترك في إحدى المجلات الطبية لكني رفضت بسبب وجود بعض الصور التي لا أراها مناسبة أو شرعية فيها ، فعرض علي زميلي أن نراسل رئيس تحرير المجلة ونغريه باشتراك عدد من الزملاء في مجلته إذا وافق على تغيير الصور المثيرة وبخاصة الغلاف ، فوافق على أن نزوده بالصور التي يضعها على الغلاف شهرياً ، فعرضنا على الشيخ الفكرة فأبدى رغبته في ذلك ، وقام مشكوراً بتصميم صورتين لوردتين في غاية الروعة في الشهر الأول ، وتم وضعها فعلاً على المجلة في العدد الأول من اشتراكنا ، لكن الأمر لم يدم بعد ذلك كما رغبنا لاعتبارات كثيرة .
س : هل استمرت علاقتكم بالشيخ أحمد رحمه الله إلى ما بعد ؟
نعم ، لقد نمت هذه العلاقة ، وبخاصة عن طريق بعض أبنائه الذين كانوا يكنون لي مودة خاصة ، حتى توجه الشيخ إلى منهج تربوي للناشئة ليكونوا عماد المستقبل للأمة ، فكنت من أوائل من وقع الاختيار عليهم لهذا الغرض ، وكان لنا دور مؤثر في المجتمع ظهر على شكل سلوك متميز في الناشئة .
إلا أن تلك العلاقة قد تأثرت فيما بعد بسبب القيود التي وضعها الشيخ رحمه الله على أتباعه المميزين ؛ من مثل أنه لا تجوز الزيارات والعلاقات إلا بعد أخذ الإذن من الشيخ أو من ينوب منابه ، وظهور بعض الترتيبات التي يشم منها رائحة التعصب للجماعة ، وهو ما لا يناسب تكويني الشخصي وتطلعاتي الدعوية لأني أحب أن يكون العمل للأمة قاطبة ، وأنه لا يحق لجماعة أن تعيش أجواء الـ (أنا) ، لأن تلك الـ (أنا) على نطاق الفرد أو الجماعة هي الحالقة ، فقررت الابتعاد متمنياً للعمل كل الخير .
وللأمانة أقول : إن منهج الشيخ رحمه الله قد تحول عن بعض تلك القناعات فيما بلغني بعد والله أعلم .
وإلى تتمة الحوار في التجديد القادم بعون الله تعالى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين