حُسنُ عِشرَتِه صلى الله عليه وسلم لأهلِ بيتِه (1)

حُسْنُ عشرتِه صلى الله عليه وسلم لنِّسَائهِ وأهل بيته فذلكَ ممّا تواتر من سيرته الشريفة وهديه، وتجلّى في كُلّ موقفٍ ومُناسبة، وحملَ لنا جمّ المعَاني وأجملَها، من الرحمة والرفق، والشفقَةِ وحسن الخلق، وسعة الصدر، وعظيمِ الوفاء والبرّ، وتقدير المشاعر، والتماس العذر.

والحديث عن علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بنسائه وأهل بيته واسع متشعّب، غنيّ بالمواقف والعبر.. تلتقي فيه الإنسانيّة السامية بالنبوّة الملهمة، والبشريّة الفطريّة بالرسالة الهادية.. " إنّ الرسالة لم تنزع من قلبه عواطف البشر، ولم تجرّده من وجدانهم، ولا أبرأته ممّا يجوز عليهم، فيما عدا ما يتّصل بالنبوّة والرسالة.. لقد كان صلى الله عليه وسلم يسكن إلى زوجه، ويداعب أطفاله، ويعاني مثل ما يعانيه بنو آدم: من حبّ وكره، ورغبة وزهد، وخوف وأمل، وحنين واشتياق، ويجري عليه ما يجري على سائر البشر من تعب ويتم، وثكل ومرض وموت.. ولو شاء الله لعصم نبيّه صلى الله عليه وسلم من كلّ ذلك.. ولجعل حياته نعيماً لا يعرف البؤس والابتلاء" [تراجم سيّدات بيت النبوّة " د. عائشة عبد الرحمن ص/156/ بتصرّف وزيادة]، ولكنّ ذلك أوّل ما يختفي معه معنى التأسّي والاقتداء.. وهو من أعظم حقائق النبوّة والرسالة، وأهدافها..

لقد كانت الزوجة تأتي بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم معتزّة بشرف الزواج من النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثمّ ما تكاد تدخل هذا البيت، وتلقى من فيه من الزوجات، اللاتي يشاركنها في زوجها، حتّى ترى فيه صلى الله عليه وسلم الزوج والنبيّ، ومن هنا كانت المغاضبة والمنافسة، والغيرة التي تحتدم حتّى تتجاوز المدى.. وما يكون شيء من هذا في حياة نساء يرين في حياة زوجهنّ نبيّاً فحسب..

وحياة النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته تبدو رائعة في إنسانيّتها، فقد كان يعيش بين أزواجه رجلاً ذا قلب وعاطفة ووجدان.. نقرأ اليوم ما وعى لنا التاريخ من مرويّات عن تلك الحياة الزوجيّة، فيبهرنا ما فيها من حيويّة فيّاضة، لا تعرف العقم الوجدانيّ، ولا الجمود العاطفيّ، وما ذاك إلاّ لأنّه صلى الله عليه وسلم كان سويّ الفطرة، فأتاح بذلك لنسائه أن يملأن حياته حرارة ودفئاً وانفعالاً، وينحّين عنها كلّ ظلّ من ظلال الركود والفتور والجفاف.

ولقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش فتيّ القلب، رحب الصدر، فيّاض المشاعر، حيّ العواطف والوجدان، حتّى بعد أن جاوز الستّين من العمر، ليقدّم بذلك للبشريّة الصورة المثلى عن العلاقة الإنسانيّة التي ترضي الله تعالى، وتسعد الإنسان، وتسمو بحياته، وليعلّمنا بسيرته العمليّة كيف تبنى الأسرة السعيدة، وكيف تُعالَج مُشْكلاتُها، وتحلّ الخلافات فيها، وكيف يقودُ الرجل مسيرَتَها بالتعاون مع المرأة، لتكون لبنة صالحة في كيان المجتمع المسلم..

* ومن مظاهر حسن عشرة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لنسائه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من أنواع البرّ والوفاء: فقد كان صلى الله عليه وسلم كلّما ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، حتّى كانت عَائِشَةُ تغَارُ منها، وهي ميتة، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا.؟! حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا، قَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا، إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ) رواه الإمام أحمد برقم /23719/.

وكان من برّه صلى الله عليه وسلم بخديجة رَضِي اللهُ عَنْهَا أنّه يبرّ أختها وصاحباتها، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْراً مِنْهَا.؟! ) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم /3536/.

وَتقديراً لفضلها، وجهادها في سبيل نصرة دين الله، فقد بشّرها الله تعالى بالجنّة: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ ).

* ومن حُسنِ عِشرته صلى الله عليه وسلم لِنسَائِه، وتلطّفه بهن، وتقديره لمشاعرهنّ ما كان يرصده صلى الله عليه وسلم من حال غضب زوجته عائشة ورضاها، فيذكر لها ذلك، وكأنّه يعاتبها برفق: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنِّي لأَعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ: بَلَى، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ: لا، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلاّ اسْمَكَ) رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5614/.

وكان صلى الله عليه وسلم يقدّر حداثة سنّ زوجته عائشة رضي الله عنها، فيروّح لها عَنْ نفسِهَا، ويرسل لها صواحبها من البنات ليلعبن معها: عَنْ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ، فَيَلْعَبْنَ مَعِي) رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5665/، (يَتَقَمَّعْنَ) أي: يختبئن ويتغيّبن داخل البيت، أو وراء ستر، وأصله من القِمَع الذي على رأس الثمرة، كما في النهاية في غريب الحديث والأثر 4/109/.

وكان من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله، وكريم عشرته، أنّه يخدمهم ويخدم نفسه، كماجاء في الحديث عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ: " كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ ـ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ ـ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ " رواه البخاري في كتاب الأذان برقم /635/.

* وكانَ صلى الله عليه وسلم يروّح عنهنّ بما أحلّ الله: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.؟! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ ! حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: حَسْبُكِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاذْهَبِي ).

وفي رواية أخرى عَنْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى، تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ عَنْهُ وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ، وَأَنَا جَارِيَةٌ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ، الْعَرِبَةِ، الحَدِيثَةِ السِّنِّ ) رواه البخاريّ في كتاب الجمعة برقم/897/ومسلم في كتاب صلاة العيدين برقم/1480/.

* ومن حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لنسائه، وتلطّفه بهنّ: ما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ) رواه أبو داود في كتاب الجهاد برقم /2214/.

وفي حديث آخر عَنْها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلْ اللَّحْمَ، وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ، وَبَدُنْتُ، وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ بِتِلْكَ ) رواه أحمد في المسند برقم /25075/.

* ومن حسنِ العشرة للأهل: محادثتهنّ ومباسطتهنّ وممازحتهنّ، وَالاستماع إلى حديثهنّ، وقد كان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الهدي الأكمل، فقد استمع إلى السيّدةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وهي تحدّثه بحديث أمّ زرع.. ومن المعلوم أنّ أكثرَ النساء يشتكين صمت أزواجهنّ، وكراهتَهمُ للاستماع لهنَّ، ومن طبيعتهنّ أنّهنّ يكثرن الكلام، ويحببنَ أن يستمعَ لهنّ الرجل، بل أن يحسن الاستماع، ويتجاوب مع اهتمامهنّ، وقد ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم لنا في هدْيِه أروع الأمثلة في حسن الاستماع للمرأة، كما جَاء في الحَديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئاً.

قَالَتْ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ.

قَالَتْ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ.

قَالَتْ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ.

قَالَتْ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرَّ، وَلا قُرَّ، وَلا مَخَافَةَ، وَلا سَآمَةَ.

قَالَتْ الخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.

قَالَتْ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلا يُولِجُ الْكَفَّ، لِيَعْلَمَ الْبَثَّ.

قَالَتْ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ، أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ، أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلاًّ لَكِ.

قَالَتْ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، وَالمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ.

قَالَتْ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِي.

قَالَتْ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ، مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ، قَلِيلاتُ المَسَارِحِ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ.

قَالَتْ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ، أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجَحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ! عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ! مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ! طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثاً، وَلا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثاً، وَلا تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشاً، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ، وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً، مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا، كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلاً سَرِيّاً، رَكِبَ شَرِيّاً، وَأَخَذَ خَطِّيّاً، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَماً ثَرِيّاً، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجاً، قَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ، فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِي مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ ) رواه البخاريّ في كتاب النكاح باب حسن المعاشرة مع الأهل برقم /4893/، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم، باب حديث أمّ زرع برقم /4481/وزاد في رواية لمسلم قَالَ: عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ وَلَمْ يَشُكَّ، وَقَالَ: قَلِيلاتُ المَسَارِحِ، وَقَالَ: وَصِفْرُ رِدَائِهَا، وَخَيْرُ نِسَائِهَا، وَعَقْرُ جَارَتِهَا، وَقَالَ: وَلا تَنْقُثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثاً، وَقَالَ: وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ ذَابِحَةٍ زَوْجاً.

* زواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّ سلمة رضي الله عنها، وما فيه من أدب النبيّ صلى الله عليه وسلم وحسن شمائله:

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ: إِنَّا للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي، وَأْجُرْنِي فِيهَا، وَأَبْدِلْنِي مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا )،

فَلَمَّا احْتُضِرَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: " اللَّهُمَّ اخْلُفْنِي فِي أَهْلِي بِخَيْرٍ "، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْتُ: " إِنَّا للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أَحْتَسِبُ مُصِيبَتِي، فَأْجُرْنِي فِيهَا "، قَالَتْ: وَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: " وَأَبْدِلْنِي خَيْراً مِنْهَا، فَقُلْتُ: وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟ فَمَا زِلْتُ حَتَّى قُلْتُهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَرَدَّتْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا عُمَرُ فَرَدَّتْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَرْحَباً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِرَسُولِهِ، أَخْبِرْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى، وَأَنِّي مُصْبِيَةٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِداً.

فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي مُصْبِيَةٌ، فَإِنَّ اللهَ سَيَكْفِيكِ صِبْيَانَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي غَيْرَى، فَسَأَدْعُو اللهَ أَنْ يُذْهِبَ غَيْرَتَكِ، وَأَمَّا الأَوْلِيَاءُ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَاهِدٌ وَلا غَائِبٌ إِلاّ سَيَرْضَانِي.

قُلْتُ: يَا عُمَرُ قُمْ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَمَا إِنِّي لا أَنْقُصُكِ شَيْئاً مِمَّا أَعْطَيْتُ أُخْتَكِ فُلانَةَ، رَحَيَيْنِ وَجَرَّتَيْنِ وَوِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ )، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِيهَا، فَإِذَا جَاءَ أَخَذَتْ زَيْنَبَ فَوَضَعَتْهَا فِي حِجْرِهَا لِتُرْضِعَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيِيّاً كَرِيماً، يَسْتَحْيِي، فَرَجَعَ فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَاراً، فَفَطِنَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِمَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَجَاءَ عَمَّارٌ، وَكَانَ أَخَاهَا لأُمِّهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَانْتَشَطَهَا مِنْ حِجْرِهَا، وَقَالَ: دَعِي هَذِهِ المَقْبُوحَةَ المَشْقُوحَةَ، الَّتِي آذَيْتِ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ وَيَقُولُ: أَيْنَ زَنَابُ ؟ مَا فَعَلَتْ زَنَابُ ؟ قَالَتْ: جَاءَ عَمَّارٌ فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ: فَبَنَى بِأَهْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: ( إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ سَبَّعْتُ لِلنِّسَاءِ ) رواه أحمد في المسند برقم /25448/.

وفي رواية أخرى عَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ يَوْماً مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلاً فَسُرِرْتُ بِهِ، قَالَ: ( لا تُصِيبُ أَحَداً مِنْ المُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ، فَيَسْتَرْجِعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاّ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْنِي خَيْراً مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَاباً لِي، فَغَسَلْتُ يَدَيَّ مِنْ الْقَرَظِ، وَأَذِنْتُ لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، فَقَعَدَ عَلَيْهَا، فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا بِي أَنْ لا تَكُونَ بِكَ الرَّغْبَةُ فِيَّ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فِيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئاً، يُعَذِّبُنِي اللهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ، وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذْهِبُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي، قَالَتْ: فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْراً مِنْهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ) رواه أحمد في المسند برقم /15751/.

للمقالة تتمة في الجزء التالي..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين