حرب غزة يوميات ومشاهدات.. هل أتاك حديث الفَجَرة؟

من نعم الله علينا في غزة أن أسعار السلع ليست غالية، يخرج المرء إلى السوق بقليل المال فيعود بما يحتاجه وأهلُه، وقد يقع الغلاء في سلع وأوقات معينة، لكنه ليس غالبا مطَّردا.

 

وكان الناس يتباذلون المعروف، ويجودون بما أنعم الله به عليهم، وأدركت جدي لأمي رحمه في موسم القِطاف، كانت تأتي السيارات الكبيرة محمَّلة بالبرتقال و(الحِمْضِيَّات) فتُلقي حمولتها في ساحة البيت، ويجيء الناس بأوعيتهم من حارتنا والحارات المجاورة فيملؤونها، كأني أتخايلهم الآن أمام عينيَّ.

 

وأدركت والدي وجدي رحمهما الله وكانت لهما أرض يزرعانها بما تيسر، فيصليان الفجر، ويسقيانها ولا يرجعان إلا ومعهما نصيب للأهل والقرابة والجيران، وبقيا على ذلك حتى توفي جدي، وجرى على الأرض ما جرى في حياة الوالد.

ثم ضعُف هذا، وظهر الغلاء والشح والحرص، وفي الناس بحمد الله بقايا.

 

ونحن أهل بلد اغتصبها اليهود، نُبتلى بهم في كل عام مرة أو مرتين، وفي الحروب تنكشف معادن الناس؛ فترى الكريم الشهم الجواد الباذل الـمُواسي بنفسه وماله، وهم كثيرون بحمد الله، بارك الله لهم في أموالهم وأولادهم. وترى الشحيح الحريص الهَلوع الجَموع الـمَنوع الذي يرقب مصائب الناس ومصارعهم فيتخذها سلما لأطماعه، لا يفكر في نجدة أهله، وغَوْث إخوانه، وتفريج كُربهم، بل يحتكر السلع، وينتظر نفادها من الأسواق، حتى إذا احتاجها الناس باعها عليهم بأغلى الأثمان.

 

تبًّا لكم أيها الفجرة، أليس في قلوبكم رحمة ولا شفقة، ألا ترون ما الناسُ فيه، ذهبت ديارهم وأموالهم ومصالحهم، ولا يكاد الواحد منهم يجد قليل المال لشراء ما يسد جَوعته، ويَروي ظمأه، ويُواري عورته، وأنتم تتاجرون بالدماء، وتنمُّون أموالكم على جراح الناس وآلامها، أليس فيكم -إن رَقَّ دينكم- بقيةُ شرف ومُروءة ونخوة وشهامة؟!!

 

بِيع (الكيلو جرام) من الدقيق بمائة شيكل (28 دولارا تقريبا)، وكيلو الأرز كذلك، وأسعار الخضراوات والسلع الأساسية قبل نزولها كانت أغلى من ذلك، وأكثر هذا الغلاء إنما هو بسبب جشع التجار واحتكارهم.

تأتي أموال المحسنين إلى الفقراء والمساكين فيطلبون على تحويلها نسبا تصل إلى ثلاثين وأربعين في المائة، نعوذ بالله من الطغيان والإجرام.

 

أيها الغلاظ الجُفاة القساة، ألا تخشون أن يحل عليكم غضب الله وسخطه، وتنزل بكم عقوبته ولعنته؟! فإن الرحمة إنما يدركها الرحماء، وأنتم نُزعت الرحمة من قلوبكم.

ألا ترون ما حل بالناس ونزل بهم؟!

ألا تخافون من دعائهم عليكم، وشكواهم إلى ربهم من طغيانكم؟!

 

لقد أُغلقت اليومَ المعابر، ومنع اليهود دخول الشاحنات والبضائع، فهذا يومكم أيها الفجرة، أمعِنوا في قتل الناس وذبحهم، فما الذي يصنعه اليهود بأعظم مما تصنعونه، وإنه ليهوِّن علينا صنيعَهم أنهم أنجس خلق الله، فما الذي يهوِّن علينا شنائعكم وأنتم أبناء جلدتنا، ومحسوبون علينا؟!!

 

لا بارك الله في مال يُجمع بالاحتكار والنصب والاحتيال.

ولا بارك الله في تجارة تَرْبو على آهات المعذبين، وأنَّات الفقراء والمساكين.

إنَّا نعظكم إن كانت قلوب، ونناديكم إن كانت فيكم حياة، وإنه والله لا يقف اليومَ أحدٌ موقفا أغيظَ ولا أخزى ولا أحطَّ من هذا الذي أنتم فيه.

قليل المال مع البركة خير من كثيره مع مَحقها، ووالله لتَنتهُنَّ أو لتُشيعُنَّ باللعنات من عباد الله، وهَبُوا أنكم جمعتم مال قارون، أليس مصيره ومصيركم للفناء، ثم تُعرضون على الله لا تخفى منكم خافية؟!

وإنا لنرجو لكم الخير والهداية والتوبة، وإلا فالـمَحْق والهلاك، ولن يبكيكم حينها في الناس باك.       

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين