جُبلت النفوس على حب المال، والسعي
في تحصيله بكل وسيلة، وقُدِّم في مواضع من كتاب الله على النفس والولد، وهو في
زماننا هذا من أعظم الفتن التي يُبتلى بها العبد، وكم سقط في شباكه من أناس
منسوبين إلى العلم والصلاح فضلا عن غيرهم من العامة والدهماء.
وتشتد الفتنة فيه عند شدة الحال،
وافتقار الناس، وحينها يسوِّغ المرء لنفسه أخذَ المال بالشبهة، والتسلطَ عليه
بالحِيَل، ويَضعف عنده وازع الورع، ويُفتح باب التأويل.
وفي الحروب والشدائد (في كل بلد)
تنشط النفوسُ المريضة لجمع المال بالطرق الوضيعة، وتُسفح عند بريقه مياهُ وجوه
كانت يوما عزيزة مَصُونة.
فهذا يدور على الجمعيات والمؤسسات
ومراكز الإغاثة يسأل مُلِحًّا مُلْحِفًا، لا يترك واحدة منها إلا غَشِيها وطرق
بابها.
وثانٍ يَفْتِش عن أرقام الهواتف،
فلا يترك أحدا يغلب على ظنه أنه يمكن أن يقدم شيئا إلا اتصل به وسأله.
وثالثٌ يحتال باسم الجمعيات
والمؤسسات الخيرية، والفقراء والمساكين، ويجمع المال الوفير ليسترزق به ومن يليه
من الأهل والأصحاب والقرابات، ويعطي الناس الفتات.
ورابع يضع الروابط على الشبكة
والمواقع مشفوعةً بصور لبيته المهدَّم أو محله أو مصلحته (صادقا أو كاذبا) يسأل
الناس عِوضًا عنها.
وخامس يفعل الشيء نفسه يطلب مالا
يسافر وأهلُه به خارج البلاد، والسفر يتطلب جوازاتٍ وتنسيقا وأوراقا ومعيشة.. إلخ،
ووالله لأن يموت المرء ألف مرة خير له من أن يبلغ هذا المبلغ من الذل والصَّفاقة،
ومن هان على نفسه هان على الناس.
وسادس وسابع.. في سلسلة لا تنتهي
(وليس المقصود هنا استيفاءَ حيل الناس)، وتركتُ التجار ومن لفَّ لفَّهم؛ لأنهم
يحتاجون إلى شيء خاص يليق بهم.
ولئن كان الكريم الصَّيِّن يجمع
المال بكسبه وكَدِّه فإن النَّذْل الذليل يجمعه بسؤاله واحتياله، والاحتيالُ لا
حدَّ ولا سقف ولا قاع له، والسؤال مُريح مُرْبِحٌ مالا كثيرا، ومن ألفت نفسُه الذل
هان عليه السؤال.
وفي الناس بحمد الله بقايا ورع
وإيمان وعزة ومُروءة تُكاثِر الأَذَلِّين.
ومعاذ الله أن أكون سببا في إغلاق
باب من أبواب الخير والبر والنصرة، بل المقصود من هذا: قمع النفوس الدنية، وتنبيه
الناس لهذه المصايد التي تُصطاد بها أموالُهم بغير حق، والتفتيش عن أهل الديانة
والأمانة والورع (وهم كثر بحمد الله تعالى) ليُجعل المال في أيديهم.
وأنا أعلم أن حاجة الناس اليوم
شديدة (وتكاد تكون عامة)، ومصابَهم عظيم، وهذا لا يسوغ تقحُّمَ هذا الباب
وامتهانَه، فإن المؤمن عزيز آنِفٌ، يصون نفسه عن مَوارد الذل وَمراتعِ المهانة.
والمسألة شديدة، وقد بغَّضها النبي
صلى الله عليه وسلم وبشَّعها ونفَّر منها أشدَّ التنفير حتى قال: (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) [أخرجه
الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما].
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ
جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) [أخرجه مسلم من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه].
والأحاديث في الباب كثيرة يَعجب
المرء من كثرتها وتوافرها على ذم المسألة والتشديد فيها، والحث على التعفُّف
والتجمُّل والاستغناء عن الخلق.
عبدَ الله، لا تكُن أعجزَ الناس،
جِدَّ واجتهد، واسعَ في مناكب الأرض، ولا تترقب أن يمن عليك فلان أو عَلَّان بقليل
المال أو كثيره.
اتَّخِذ الأسباب، وعلِّق قلبك
بالله، فإن خابت الأسباب وضاقت السبل فإن لك ربًّا لا يُخيِّب من دعاه، وطرَقَ
بابه ورجاه.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ
نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ
نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ
عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ) [أخرجه أبو داود، والترمذي واللفظ له].
مَن يسألِ الناسَ يحرموهُ وسائلُ
الله لا يخيبُ
فإن بذلت ما في وُسعك، واتخذت
الأسباب، ولم يتيسر لك ما تعتاش به ومن يليك فسل على قَدْر حاجتك، ولا تركن إلى
السؤال، بل أدِمِ السعي والطلب، وطرقَ باب ربك الكريم، فيوشكُ الله أن يفرِّج عنك،
ويكشف ما بك.
وإن جاءك شيء من المال من غير طلب
منك ولا استشراف فخذه وتموَّلْه وانتفع به، فهذا رزق ساقه الله إليك، وإن استغنيت
فانفع به مَن وراءك من أهل الحاجات، والله يغني الجميع من فضله، ويُسبغ علينا
وعليكم جميل ستره.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول