قال
لي أحد إخواني وأصحابي مرة كلمة تَدُلُّك على مرارة أن يُخرج المرء من بيته، قال:
من وجد في الحرب ما يكفيه من الطعام والشراب ولم يخرج من بيته فهو في عافية.
على
أنه قد يلقى في بيته الشدائد والأهوال، لكن الإخراج من الديار شديد، وهو في كتاب
الله تعالى مقرون بالقتل والأذى، بل مقدَّمٌ عليهما (فَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا
وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..) [آل عمران: 195].
وقال
لي أحدهم مرة: أُخرجنا من بيتنا أكثر من عشر مرات، نفرُّ من الموت والقصف من مكان
إلى مكان، وسمعت ثانيا يقول: أُخرجنا أكثر من عشرين مرة.
وما
بالناس ضعف وجبن، لكنه الموت، والخوف على الضَّعَفة من النساء والولدان.
ويا
ليت الهارب ينجو، فكثير منهم يفر من الموت إلى الموت، كما حصل لعائلة في حيِّنا،
خرجوا في أول الحرب إلى الجنوب ابتغاء السلامة، وكانوا أكثر من عشرين نفسا، فأتاهم
قدر الله، ومات أكثرهم تحت القصف، ومثل هذا حصل لمئات بل ألوف.
وقد
خطط اليهود لتهجير الناس من أول الحرب، فقسموا القطاع إلى شمال وجنوب، ثم هددوا
أهل الشمال بالرحيل، فمنهم من خرج هربا من الموت، وهذه حال غالب الناس، ومنهم من
أبى الخروج فأقام في بيته مخاطِرا، أو وجد بيتا أو مركزا أو مخيما يأويه.
وجرت
على الناس في ذلك أهوال لا يعلمها إلا الله، فالمقيمون في بيوتهم أو مراكز الإيواء
رأوا الموت ألوانا، وضُيِّق عليهم في معايشهم على ما وصفنا في مقالات تقدمت.
والراحلون
إلى الجنوب منهم من مات في الطريق، ومنهم من اعتقل، ومنهم من وصل هائما على وجهه
لا يدري ماذا يصنع، وأحسنهم حالا من وجد خيمة تقيه وأهلَه الحر والبرد، لكنها
بالتأكيد لا تقيه الموت والقصف.
ثم
بدأت الخطة في شمال القطاع، فقسموه إلى مناطق، وبدؤوا باجتياحها واحدة تلو الأخرى،
وأمروا أهل كل منطقة أن ترحل إلى غيرها بدعوى أنها آمنة، فيتكدس الناس ألوفا في
أحياء ضيقة، ثم يأتي الدور على هذه الأحياء التي أمروا الناس بالرحيل إليها، وهكذا
في سلسلة لا تنتهي من العذاب، وما من مكان رحل إليه الناس إلا وتبعهم إليه الموت
والقصف.
ومن
كان معه مرضى أو كبار لا يقوَون على المسير زاد همه وعذابه، فلا سيارات ولا
مركبات، الناس يسيرون على أقدامهم، يحمل القوي الضعيف، والصحيحُ المريض في مشاهد
تُذكر بالحشر.
ومن
رحل إلى الجنوب مشى أربعين كيلا أو أكثر على قدميه، حاملا ما قدر عليه من أثاث
بيته إن تهيأ له أن يحمل شيئا، وإلا فغالب الناس هربوا بملابسهم، بل أمعن اليهود
في إذلالهم وأمروهم بخلع ملابسهم، فساروا في البرد الشديد شبه عراة.
وآلاف
الأسر خرج منها النساء والأطفال إلى الجنوب، وبقي عائلوها في الشمال، فلا الذي في
الشمال يستطيع الخروج، ولا الذي في الجنوب يستطيع الرجوع، مع انقطاع الشبكات
والاتصالات وأسباب الحياة.
ولما
فرغوا بزعمهم من الشمال بدأ العمل في الجنوب، وتكررت مأساة التهجير والترحيل
والإخراج من الديار.
في
المنطقة الوسطى خرج الناس من مخيم إلى مخيم، ومن مدينة إلى مدينة.
وفي
خانيونس تجمعوا في منطقة المواصي.
واليوم
في رفح لا يدري الناس ماذا يصنعون، أكثر من مليون ونصف، جُلهم نازحون من الشمال،
تدور عليهم الشدائد والمصائب، شيء والله يحرق القلوب ويفتت الأكباد.
وهذا
الذي ذكرته هو العذاب الظاهر، وبقي شيء أعظم منه، وهو الحياة في هذه المراكز
والمخيمات، وقد ذكرت طرفا يسيرا من ذلك في مقالة سابقة.
بُحَّت
أصوات الناس وحناجرهم (وقد دخلت الحرب شهرها الثامن)، ولا مجيب ولا مغيث.
الله
حسيب كل عميل خائن غادر قدر على أن يغيث الناس فأسلمهم إلى عدوهم وتركهم في العراء
فريسة للقتل والتهجير.
أخزاكم
الله، لا دين أهل الإسلام ولا نخوة أهل الجاهلية، لو نفع الكلام لأسمعناكم ما
يليق، ولكن حسبنا الله
ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول