الابتلاء سنة الله في الأولين
والآخرين (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2]، ولله تعالى فيه
حكَم وأسرار؛ من أعظمها ما يحصل به من تمايز الناس، فيَظهرُ المؤمن من المنافق،
والصادق من الكاذب، والناصح من الخائن (وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت: 3
وقَدَر أهل هذه البلاد أن يكون حظهم
من البلاء عظيما، فهم من مائة سنة تقلبهم الشدائدُ ظهرا لبطن، من حرب إلى حرب، ومن
هجرة إلى هجرة، ومن نكبة إلى نكبة، محن يربو عليها الصغير، ويهرم فيها الكبير، لا
يكادون يخرجون من محنة إلا وتغشاهم أخرى، حتى جاءت هذه الداهية الدهياء، فأنْست
كلَّ محنة سبقتها، ورقَّقَت كل مصيبة سواها.
وأنت إذا سرت اليوم في شوارع غزة لا
ترى إلا مبتلى أو مكروبا أو مهموما أو مصابا، هذا فقد أسرته أو بعضهم، وذاك هدم
بيته، وثالث ذهب ماله، ورابع هائم على وجهه في مخيمات ومراكز النزوح، وخامس فقد
عينا أو يدا أو رجلا، وسادس اجتمع فيه ذلك كله أو أكثره فهو ميت بين الأحياء (أو
أنصاف الأحياء).
في كل بيت نائحة، وفي كل واد بنو
سعد.
أيها المبتلى.. هذه هي الدنيا، لا تصفو لأحد،
ولا تستقر على حال، ولو صفَت لأحد لصفت لحبيب رب العالمين، وسيد الأولين والآخرين.
كم تعيشُ في هذه الدنيا؟ خمسين سنة،
ستين سنة، سبعين سنة.. ثم ماذا؟ ثم الخلود الأبدي السرمدي في النعيم أو الشقاء.
)وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( العنكبوت: 64
تالله ما عقَل امرُؤٌ قد باع ما يَبقى
بما هو مُضمحِلٌّ فان
أيها المبتلى.. احتسب ما يصيبك عند
الله، واصبر على ما قُدِّر لك، واعلم أن القدر جار عليك شئت أم أبيت، سخِطت أم
رضِيت، فوالله لأن يجري عليك القضاء صابرا مطمئنا مأجورا خير لك من أن يجري عليك
ساخطا مَوْزورا، فاختر لنفسك.
أيها المبتلى.. الابتلاء تكفير
لذنبك، أو رفعة لدرجتك، أوهما معا، وهل يسعى العاقل في دنياه إلا لتحصيل ذلك،
فاصبر لأمر ربك.
وإنه لَلَّذي قال نبيك عليه الصلاة
والسلام: (مَا يُصِيبُ الـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ
وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ
يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) [أخرجه الشيخان
من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما
أيها المصاب.. احمد الله أن المصيبة
في بدنك أو مالك وليست في دينك، فإن المصاب في الدين شديد عظيم، والدنيا يُخلفها
الله عليك، وما للدين من خَلَف ولا عِوض.
وكلُّ كسر فإن الدين يَجْبُره
*** وما لكسر قناة
الدين جُبْران
أيها المكروب.. أحسن ظنك بربك، فإن
حسن الظن بالله وترقبَ الفرج عبادة من أجل العبادات، والله عند حسن ظن عبده به،
كما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا قال: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا
ذَكَرَنِي) [أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أيها المحزون..
إن الفرجَ أرجى ما يكون عند تعاظم
الكرب، والحبلُ إذا اشتد انقطع، والظلامُ إذا امتد انقشع، سنةَ الله، ولن تجد لسنة
الله تبديلا.
وقد وعد الله -ولا يخلف الله وعده-
أن بعد الشدة رخاء، وبعد الهم فرجا، وبعد الضيق مخرجا، وبعد العسر يسرا، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) الطلاق:
7
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول