حرب غزة يوميات ومشاهدات.. ذكرى الدار

يسر الله لنا سنة 1434 رحلة علمية مباركة إلى بلاد الحرمين، كنا فيها صُحبةَ مجموعة من طلبة العلم، وكانت من أجمل الرحلات والأسفار التي سافرناها، التقينا فيها مجموعة من خيرة المشايخ في مكة والمدينة وجدة، وممن لقينا في المدينة: فضيلة الشيخ المربي يحيى بن إبراهيم اليحيى (وهو سميُّ شيخنا المحدث الحافظ المبارك يحيى بن عبد العزيز اليحيى الذي حضرنا معه دورة حفظ السنة سنة 1428)، حاضر فينا الشيخ محاضرة عظيمة أخذت بمجامع القلوب، غابت عني بعض تفاصيلها، لكن نُقش في قلبي منها قصةٌ ذكرها عن شاب غربي خالط الإيمان بشاشة قلبه، جاء للحج أو العمرة، وكان على هيئة غريبة، فقال له بعض مَن بجانبه: ألا تستحي وتخجل من الناس وأنت على هذه الحال، فالتفت إليه وقال له كلمة تُجلجِل بالعزة والإيمان، قال: أنا لا يَهُمني الناس، الذي يهمني أن أنجو عند الله.

لله دره ما أعظم وأجل ما جرى على لسانه

ماذا ينفع العبدَ لو جُمعت له الدنيا ثم كُردس على وجهه في النار؟

 

من الآيات العظيمة التي يطير قلبي عند سماعها قوله جل وعلا مثنيا على صفوة خلقه: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص: 45-46]

أي: خصَصناهم بخَصلة عظيمة الشأن، وهي نزعُ حبِّ الدنيا من قلوبهم، وعِمارتهُا بذكر الآخرة والسعيِ لها والتذكيرِ بها. هذا حاصل كلام المفسرين في تأويلها.

أرأيتم بماذا خص الله وأخلص هذه النفوسَ الزكية الطاهرة؟!

 

ذكرى الدار، وأي دار؟ إنها الدار الآخرة الباقية التي سابق إليها الصالحون، وشمَّر لها المقربون، الدار التي لا تحول ولا تزول، ولا تفنى ولا تبيد.

لن تخطئ عيناك وأنت تُطوِّف بآي القرآن كثافةَ حضور الآخرة ومركزيتها وأولويتها، وحقارةَ الدنيا وهامشيتَها.

هذا المعنى الإيماني العظيم من أجل المعاني التي لا ينبغي أن تغادر القلب، إنه يملأ القلب سكينة ورضا ويقينا وعزة وقوة وصلابة في مواجهة الخطوب

 كثيرا ما كان يَسرح فكري وخاطري الكليل فيما نحن فيه، وأتأمل ما نزل بالناس من ألوان البلاء، وأقول قولة ذاك الرجل: لولا الآخرة لانفلقت قلوب أهل الإيمان.

إي والله، لولا الآخرة لانفلقت هذه القلوب التي لم يبق لها شيء، فقدت كل شيء، وضاع منها كل شيء، وبقي لها ربها وديَّانها ومعبودها، ترجوه وتتعلق به وتحن إلى لقائه.

هناك تنشر الدواوين، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون.

إن ما نحن فيه لهو ولعب ومتاع، وخيالات وأحلام وأوهام، والحقائق عند الله.

أحلام نوم أو كظل خادع 

*** إن اللبيب بمثلها لا يُخدع

 

(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26].

إنها متاع يزول ويفنى، وهل يبيع العاقل باقيا بفان؟

فمهما أصابك يا عبد الله في دنياك فتعزَّ بالآخرة وتسلَّ بها، فالمخدوع والله من خُدع بالدنيا واطمأن لها، والكيِّس من ذكر الآخرة وهيأ جَهازه للرحيل، ضُربت لنا في ذلك الأمثال، وفُصِّلت الآيات، والموفَّق من وفقه الله.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين