حرب غزة يوميات ومشاهدات.. أصل الأصول في الشدائد

المحن والشدائد تَبْلو الناسَ، وتكشف عن حقائقهم ومعادنهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3]، وقال في سياق كشف أحوال الناس عند البلاء: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت: 11].

وقد رأيتُ في الحرب من نزلت به أعظم المصائب، وفقد كل شيء من مال وولد (وهما فتنة المرء وزينته ومتاعه في الدنيا) فصبر أعظم الصبر، ورضي كل الرضا، حتى كأنك ترى على صفحة وجهه نضرة النعيم، نعيمِ الإيمان والتسليم.

ومن الناس من تضيع عليه نومةُ القائلة (الظهيرة)، أو يتغير عليه طبق طعامه فيثور كالمجنون، ولله في خلقه شؤون.

ومن أصول ومعاقد الإيمان: أن يؤمن العبد بقضاء الله تعالى وقدره، وبأنه لا يقع شيء في الكون إلا بأمره ومشيئته. ولا يصح إيمان العبد ولا يقبل إلا بذلك.

والمؤمن بالقدر من أسعد الناس قلبا، وأشرحهم صدرا، وأطيبهم عيشا، وأرضاهم وأصبرهم لحكم الله سبحانه.

قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "هي المصيبات تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلِّم لها ويرضى".

وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: "لقد تركَتْني هؤلاء الدعواتُ وما لي في شيء من الأمور كلها أربٌ إلا في مواقع قدر الله، وكان كثيرا ما يدعو بها: اللهم رضِّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحبُّ تعجيلَ شيء أخرتَه، ولا تأخيرَ شيء عجلتَه".

ومَن يجعلِ الرحمنُ في قلبه الرضا

*** يكن في طيٍّب من العيش واسعِ

 

والإيمان بالقدر يثبِّت القلوب، ويقوي العزائم، فصاحبه لا يبالي بالخطوب؛ لعلمه أن الآجال مقدورة، والأرزاق مقسومة، وأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، يتمثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) [أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"].

ولله ما أحسن قولَ علي رضي الله عنه:

أيَّ يوميَّ من الموت أفر

*** يوم لا قُدِّر أم يوم قُدِر

يوم لا قُدِّر لا أرهبه

*** ومن المقدور لا ينجو الحذر

 

وصاحب هذا الإيمان يتقلب بين مقامَي الصبر والشكر، وهما من أعظم مقامات أهل الإيمان، إن أُنعِم عليه شكر، وإن ابتُلي صبر، فهو على خير في أحواله كلها؛ في عسره ويسره، وشدته ورخائه، وغناه وفقره، وصحته ومرضه.

وصاحبه كذلك من أعظم الناس توكلا على الله واستعانة به وسعيا وجِدا واجتهادا؛ لعلمه أن الذي قدر الأشياء هو الذي أمر بتعاطي الأسباب، فلا يتعارض عنده هذا مع ذاك، ولا يدعوه الإيمان بالقدر إلى الكسل والخمول كما يروج لذلك أهل الإلحاد ومن تبعهم، بل يعمل بوصية نبيه صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فالمؤمن يستفرغ وسعه في الوصول إلى مطلوبه، فإن لم يقدَّر له أرجع ذلك إلى قدَر الله، ولا يقعد ابتداء متعللا بالقدر، ولا يعلِّق فشله وتقصيره كذلك على شماعة القدر، فإن هذا فعل الجهلة العاجزين.

وخلاصة الكلام وقُصاراه: أن الإيمان بالقدر رأس الأمر، وجِماع الإسلام، وجنة الدنيا. من حققه سعد في الدارين، وتهنَّأ بالعيش، وتقلَّب في النعيم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين