حدث في التاسع والعشرين من ربيع الأول

في التاسع والعشرين من ربيع الأول من سنة 11 جاء الخبر إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة بمقتل الأسود العنسي المتنبئ الكذاب في اليمن، وذلك بعد أيام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخباره قبل وفاته بهذا الخبر، وكان مقتل الأسود العنسي وعودة الإسلام والاستقرار لربوع اليمن خبراً ساراً مطمئناً لأبي بكر ومن معه من الصحابة بالمدينة، ومبشراً بالقضاء على ثاني الكذابَين: مسيلمة. ونورد هنا استعراضاً تاريخياً لما جرى في تلك الفترة مبنياً في مجمله على ما أورده الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تاريخه، مع الإشارة أن كتب التاريخ والسيرة ليست على نسق واحد في تسلسل الأحداث ولا في أسماء الأشخاص أو ما قاموا به في هذه الأحداث.

 

انتشر الإسلام في اليمن على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءته وفود قبائلهم ومنها أبو موسى الأشعري، وحل أهل اليمن من رسول الله في القلب لما حباهم الله من خصال الإخلاص والبذل والتجرد والحكمة، ولذا قال لأصحابه في الأحاديث الصحيحة التي ترويها كتب السنن: أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق أفئدة؛ الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية. ولما جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا يا بني تميم، قالوا: أما إذ بشرتنا فأعطنا! فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ناس من أهل اليمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. ثم زاد الرسول في إكرام أهل اليمن فقال: هم مني، وأنا منهم.

 

وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً من أهل اليمن بأعيانه مادحاً لهم ومخبراً بكرامتهم على الله عزَّ وجل،  منهم أويس بن عامر القرني رحمه الله تعالى.

 

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل داعيين وواليين، وأرسل علياً رضي الله قاضياً، وأرسل خالد بن الوليد مجاهداً ثم رده، رضي الله عنهم جميعاً، وكل ذلك في السنتين الأخيرتين من حياته الشريفة، روى البخاري عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، كل واحد منهما على مخلاف، واليمن مخلافان، ثم قال: يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا.

 

ويبدو أنه أرسل معاذ لشمالي اليمن حيث كان الدين المسيحي منتشراً بها، فقال له صلى الله عليه وسلم: إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.

 

وتزوج معاذ من السَّكون، وأحبهم حباً شديداً، وكان من دعائه: اللّهم ابعثني يوم القيامة مع السّكون. فلما وقعت الردة انحازت إليه السكون واعتصم بهم، فلما جاءت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاموا معه في قتال الأسود خير قيام، وقويت نفوس المسلمين إزاء هذه الردة الخطيرة.

 

وكان حاكم اليمن في صنعاء يدعى باذان، وهو فارسي الأصل من أبناء الفرس، ويدين بالولاء لكسرى، وهنا يبنغي أن نتحدث كيف نشأت العلاقة بين فارس كسرى واليمن السعيد، فيذكر المؤرخون أن سيف بن ذي يزن لما ذهب يستنصر كسرى على الحبشة أرسل معهم مدداً من مقاتلي الفرس، رحلوا بحراً إلى عدن، فقاتلوا معه، وصار منهم ملوك اليمن ومديروها وتزوّجوا في العرب فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم، وكان هؤلاء الكبراء من سلالة الأبناء.

 

ولما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كسرى إلى باذان : أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة، يزعم أنه نبي، فسِر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر، وقال إن كان نبيا، فسيكون ما قال. فقُتِلَ كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ابنه شيرويه، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة، فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان.

 

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمع لباذان حين أسلم وأسلمت اليمن كلها على جميع مخاليفها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته لم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتى مات باذان، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل اليمن على جماعة من أصحابه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل منطقة في اليمن والياً، فجعل شهر بن باذان صنعاء وأعمالها فقط، وولى كِندة والصدف أخا أم سلمة لأمها المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة، وولى زياد بن لبيد البياضي الأنصاري حضرموت، وولى أبا موسى الأشعري زَبيد وعدن ورمَع والساحل، وولى نجران أبا سفيان صخر بن حرب بن أمية، وعمرو بن حزم؛ عمرو بن حزم على الصلاة، وأبا سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين رِمَع وزَبِيد إلى حد نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى هَمَدَان كلها عامر بن شهر الهمداني، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عَكّ ربيبه ابن السيدة خديجة الطاهر بن أبى هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم يتنقل في عمل كل عامل.

 

وكانت حركة الردة قد بدأت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني تميم باليمامة وفي اليمن، ومبعثها مطمع الكذابَين في المال والثروة، وتعاميا عن أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده، تبعته. وقدِمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليَعْقِرَنَّكَ الله، وإني لأراك الذي أُرِيتُ فيك ما رأيت. فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، فكان أحدهما العنسي والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة.

 

وكانت أول ردة في باليمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يدى الأسود العنسي، واسمه عيهلة بن كعب، ويلقب بذى الحمار، وذلك أنه كان له حمار معلَّم، يقول له: اسجد لربك. فيسجد، ويقول له: ابرك. فيبرك، فسُمي ذا الحمار، ويقال إنه يلقب بذي الخِمار، لخمار كان يضعه على وجهه فلا يرفعه،  وخرج بعد حجةالوداع، في عامة مَذْحِج، وكان كاهنا مشعوذا، وكان يريهم الأعاجيب ويسبي قلوب من سمع منطقه، وتسمى رحمن اليمن، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خُبَان، وهى كانت داره، وبها ولد ونشأ، فكاتبته مذحج وواعدته نجران فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص وأنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن هبيرة ابن مكشوح المرادي على فَروة بن مُسَيك المرادي وهو على مراد فأجلاه ونزل منزله، فلم ينشب عيلهة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكُتِبَ بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ونزوله صنعاء، وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك، ولحق بفروة من بقي على الإسلام من مذحج فكانوا بالأحسية، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه، لانه لم يكن معه أحد يشاغبه، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن.

 

وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دينه، فبعث وَبَرَة بن يُحنَّس الخزاعي إلى فيروز وجُشَيش الديلمى وداذويه الاصْطَخْرِى، وهم من الأبناء، وبعث جرير بن عبد الله البَجَلي إلى ذى الكلاع وذى ظليم، وبعث الأقرع بن عبد الله الحِمْيَرى إلى ذى زود وذى مُرَّان، وكتب إليهم يأمرهم أن يبعثوا الرجال لمجاولته ومصاولته، وأن يبلِّغوا عنه ذلك كل من رأوا عنده نجدة أو دينا، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ففعلوا ذلك، فاطمأنت قلوب المسلمين بقوتهم ووثقوا بنصر الله.

 

وقتل الأسودُ شهرَ بن باذان، وتزوج ابنته المَرْزُبانة، وجعل بعده رجلاً يُسَمّى ذادويه، وجعل الأسود خليفته في مذحج عمرو بن معديكرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن هبيرة ابن مكشوح، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه. فلمّا تمكن استخف بقيس وبفيروز وبداذويه، واتفق ذادويه مع فيروز الديلمي وقيس بن هبيرة ابن مكشوح على قتل الأسود، ودَسُّوا إلى المَرْزُبانة امرأته من أعلمها بنيتهم، وكانت مبغضة له حَنِقة عليه، لقتله أباها باذان، فدلتهم على جَدْول يَدْخل منه الماء، فدخلوا عليه بسَحر، ويقال : بل ثَقَبوا عليه جدار بيته، فجعل الأسود حين ذبح يخور خوار الثور حتى أفزع حرسه، فقالوا للمرزبانة: ما شأن رحمن اليمن؟ قالت: إن الوحي ينزل عليه. فأمسكوا عند قولها وسكنوا.

 

وعلا فيروز وصاحبيه رأس المدينة حتى أصبحوا فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الأسود الكذاب عدو الله. فاجتمع أصحاب الأسود فألقوا إليهم رأسه فتفرقوا إلا قليلا، وخرج أصحاب قيس فوضعوا في بقية أصحاب الأسود السيف فلم يبق إلا من أسلم منهم، والمدة بين خروج الأسود العنسي ومقتله قرابة 4 أشهر. وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقتل الأسود، وأخبر عن ذلك فقال: قتله الرجل الصالح فيروز ابن الديلمي.

 

ولما بلغ خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ارتد قيس بن مكشوح الذي ساهم في قتل الأسود، وكاتب جماعة من أصحاب الأسود العنسي يدعوهم إليه، فأتوه فخافهم أهل صنعاء، وأتى قيس إلى فيروز وداذويه يستشيرهما في أمر أولئك أصحاب الأسود، خديعة منه ومكراً، فاطمأنا إليه، وصنع لهما من الغد ودعاهما، فأتاه داذويه فقتله، وأتى إليه فيروز، فسمع امرأة تقول: هذا مقتول كما قتل صاحبه. فعاد يركض فلقيه جشيش بن شهر، فتوجها نحو جبل خولان، وهم أخوال فيروز، وملك قيس صنعاء.

 

واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس، وكتب إلى أبي بكر يخبره، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب إلى أبو بكر إلى رؤسائهم، واعتزل الرؤساء، وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق: من أقام أقر عياله، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين فوجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعهم: الحقوا بأرضكم.

 

فلما علم فيروز ذلك جد في حربه وتجرد لها وطلب المدد ممن حوله من بني عقيل وعك، فأمدوه بالرجال،  فخرج بهم وبمن اجتمع عنده فلقوا قيساً دون صنعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم قيس وأصحابه، وأسروه، وحملوه إلى أبي بكر فوبخه ولامه على فعله، فأنكر، وقال: يا خليفة رسول الله استبقني لحربك، فإن عندي بصراً بالحرب ومكيدة للعدو. فخلاه، ثم إنه كان من أعوان علي، وقتل يوم صفين رحمه الله تعالى.

 

ولم تكن تلك حالة فريدة، فقد انتقضت كثير من مناطق اليمن لما بلغها موتُ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرتد من عمال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد، وانحاز سائر العمال إلى المسلمين، ورجعت الرسل مع من رجع بالخبر فرجع جرير بن عبد الله والأقرع بن عبد الله ووبرة بن يحنس.

 

فحارب أبو بكر المرتدة جميعا بالرسل والكتب، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم، إلى أن رجع أسامة بن زيد من الشام بعد قرابة ثلاثة أشهر، وانتقضت عكٌّ فكانوا أول منتقض بتهامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تجمع عك والأشعريون، وأقاموا على الأعلاب من أرضهم بين الطائف والساحل، فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق العكي وقومه من عك ممن لم يرتد، فالتقوا على الأعلاب، فانهزمت المرتدة من عك ومن معهم، وكان ذلك فتحاً عظيماً. وكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى الطاهر بن أبي هالة قبل أن يأتيه بالفتح: بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقاً وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب، ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب، حتى تأمن طريق الأخابث ويأتيكم أمري. فصار اسمهم الأخابث.

 

وأما عامل رسول الله على الطائف الشاب عثمان بن أبى العاص الثقفي فمنع أهل الطائف من الردة فأطاعوه، فبعث بعثا من أهل الطائف عليهم عثمان بن ربيعة إلى شَنوءة وقد تجمعت بها جموع من الأزْد وبَجيلة وخَثعم عليهم حميضة بن النعمان، فالتقوا بشنوءة فهزموا المرتدين وتفرقوا عن حميضة وهرب حميضة في البلاد، فقال في ذلك عثمان بن ربيعة:

 

وأبرقَ بارقٌ لما التقينا ... فعادت خُلَّبا تلك البروق

 

ولما بلغت أهلَ نجران وفاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل من بنى الأفعى بن الجرهمي، فبعثوا وفدا ليجددوا عهدا فقدموا إلى أبي بكر، فكتب لهم كتابا:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا كتاب من عبد الله أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل نجران أجارهم من جنده ونفسه، وأجاز لهم ذمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا ما رجع عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل في أرضهم وأرض العرب أن لا يسكن بها دينان، أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم وغائبهم وشاهدهم وأسقفهم ورهبانهم وبِيَعِهِم، ما وقعت وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير، عليهم ما عليهم فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشَّرون، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما في هذا الكتاب من ذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار المسلمين، وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق. شهد المِسْوَر بن عمرو وعمرو مولى أبى بكر.

 

وكان وفدٌ من نجران في ستين راكباً قد قدم المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس الوفد العاقب عبد المسيح كبير أحبارهم، والأيهم رئيس البلد، ودخلوا على رسول الله في مسجده حين صلى العصر، عليهم جبب وأردية من الحِبَرات، والحبرة نوع فاخر من ثياب اليمن منقط بالسواد، وقال بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وحانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق.

 

وجلس الوفد في المدينة أياماً، وسألوا الرسول عن أمورفنزل بها القرآن يبينها لهم، ثم دعاهم الرسول للمباهلة تنفيذاً لتوجيه الله عزوجل في سورة آل عمران: ?فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ?، فقالوا له: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قومٌ نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ ثم انصرِفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّرا، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. فذهب بها أبو عبيدة!

 

وممن ارتد مع الأسود العنسي عمرو بن معديكرب المدحجى، وهو خال قيس بن هبيرة ابن مكشوح، وكان قد وفد على النبى صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة فأسلم، ورجع إلى بلاده، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد مع الأسود العنسى، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاصى، فقاتله فضربه خالد على عاتقه فانهزم، وسلبه خالد سيفه الشهير الصمصامة، فلما رأى عمرو الإمداد من أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى اليمن أسلم، ودخل على المهاجر بن أبى أمية بغير أمان، فأوثقه وبعثه إلى أبى بكر.

 

فقال له أبو بكر رضى الله عنه: أما تستحى كل يوم مأسوراً ومهزوماً، لو نصرت هذا الدين لرفعك الله تعالى، قال عمرو: لا جَرَم، لأُقبِلنَّ ولا أعود! فقبل منه أبو بكر علانيته، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، فأطلقه وعاد إلى قومه، ثم عاد إلى المدينة، فبعثه أبو بكر رضى الله عنه، إلى الشام، فشهد اليرموك، وله فيه بلاءٌ حسن؛ وذهبت فيه إحدى عينيه. ثم بعثه عمر رضي الله عنه إلى العراق؛ وكتب إلى سعد بن أبى وقاص أن يصدر عن مشورته فى الحرب، فشهد القادسية، وله فيها بلاء حسن، وهو الذي ضرب خرطوم الفيل بالسيف، فانهزمت العجم، وكان سبب الفتح. ومات سنة 21 في موقعة نهاوند مع النعمان بن مقرن.

 

وكان الأشعث الكندي، الأشعث بن قيس بن معديكرب، قد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في جمع من قومه، فأسلم وخطب أم فروة أخت أبي بكر، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة في حضرموت من تأدية الزكاة، ولما جاءت نجدات أبي بكر استسلم الاشعث لوالي حضرموت زياد بن لبيد، فأرسله موثوقا إلى أبي بكر في المدينة ليرى فيه رأيه، فجعل يكلم أبا بكر وأبو بكر يقول له: فعلتَ وفعلتَ! فقال الأشعث: استبقني لحربك، فوالله ما كفرتُ بعد إسلامي، ولكني شححتُ على مالي، فأطلقني وزوجني أختك أم فروة، فإني قد تُبتُ مما صنعتُ ورجعتُ منه من منعي الصدقة. فمنَّ عليه أبو بكر رضي الله عنه وزوجه أخته أم فروَة، ولما تزوجها دخل السوق فلم يمر به جزور إلا كشف عن عُرقوبها وأعطى ثمنها وأطعم الناس، ولم يزل بالمدينة إلى أن سار إلى العراق مجاهداً وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، وكان مع عليٍٍّ يوم صفين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وتوفي سنة 40 مات بالكوفة وصلى عليه الحسن بعد صلح معاوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين